فــاروق وادي - إنتحار البنفسج..

"إلى الفنان التشكيلي السكندري الجميل علي عاشور، الذي حرص على أن يستخرج لنا من صندوق في مرسمه بأتيليه الإسكندرية، جوهرة ثمينة بدت عزيزة على قلبه، ليعرضها لنا مع لوحاته البديعة. وكانت نسخة من كتاب الراحلة أروى صالح "المبتسرون"، مهداة بخط يدها، منها ‘ليه".
***


في النص، نصّها، فوجئت أروى صالح بجسدها يصعد إلى السطح.. وعندما بلغته، كانت ما تزال تواصل صراعها بين الصعود والهبوط. وكلما حاولت إنزال قدميها، كان رأسها يصعد، فتهبط برأسها.. لتجد أن قدميها تصران على الصعود إلى الأعلى.

في تلك المعركة، تضيف أروى صالح في نصها المنشور في كتابها "سرطان الروح": " فقدت فردة جزمتي المخرّمة المفضّلة لديّ".

أما في الواقع، في الحياة ( أقصد في الدقيقة الأخيرة لما تبقى من حياة)، فقد كان رأس أروى أكثر قدرة على الحسم..

كان الوقت يقترب من قلب الظهيرة، حين صعدت أروى إلى الدور العاشر في إحدى العمارات السكنيّة بحيّ الدقي في القاهرة، ثم هوت بقدميها وكل جسدها.. برأسها وكل همومه، لتفقد حياتها الطاعنة بالتمرد والثورة، بالخيبات والثقوب.. فتستقر حزناً هامداً واكتئاباً مقيماً في جوف الأرض.

مع اقتراب ذكرى رحيلها (21 يونيو/ حزيران 1997)، نعيد من جديد مساءلة أنفسنا: ما الذي يدفع مثقفة وناشطة في الحياة السياسية ولها رصيد ثري في الحركة الطلابية المصرية، ومستندة إلى قاعدة ثقافية وخلفيّة أيدولوجية تتناقض مع رؤية العالم من زاوية القلق الوجودي، ومفردات اللاجدوى والعبث ومترادفاتها. ما الذي يدفع امرأة تحمل هذه المواصفات إلى تلك النهاية االمأساوية: الموت اختياراً !؟

نبحث في كتابها الموسوم " المبتسرون"، دفترها وشهادتها، فنجد درجة عالية من التوتر الناجم عن خيبات متعاقبة بأصدقاء قدامى، مثقفين ورفاق دربٍ وأحلام مشتركة. نلهث مع أسئلتها اللاهثة، وتسوطنا الحقائق القاسية، المبثوثة بمرارة في زوايا راهننا، وأطراف مرايانا.. وكل زوايا الكتاب.

رغم خيبة الأمل المفرطة التي تملأ الصفحات السوداء المتوترة وتفيض، بمن كانوا منها ومنّا، يتقدّمون صفوف مثقفي اليسار ويلهجون بالجملة الثوريّة الزاعقة، دون أن نلتفت أنها كانت مُفرغة من الصدق والحرارة، فإن أروى صالح كانت قادرة في اللحظتين الأخيرتين، الصفحتين الأخيرتين من عمر كتابها، على ايقاظ تلك البنفسجة الهاجعة في تجربة جيلها ـ جيلنا، فتكتب مستثمرة أُغنية الزهر الحزين، تحية إلى الحالمين من أبناء جيل السبعينيات.. " فقد كانت لحظة الحلم (بإمكانية تغيير وجه الحياة) هي الترف الإستثنائي الوحيد الذي تمتعوا به، وحرمت منه الأجيال اللاحقة".

لعل البنفسجة الحالمة كانت في ذروة ألقها، وهي تلوذ إلى ظلال أحلامٍ مهيضة لتحتمي بها من هول الواقع، وتطهِّر بها آثام هزيمة أصابت عمق التجربة، لكنها أصابت في الوقت نفسه جوهر الروح في البعض منا، فتراجعوا استجابة لنداء الهزيمة في زمن الهروب، وانضموا إلى الجبهة الأخرى التي كانوا يقاتلونها بفكرهم وروح شبابهم التوّاقة.

حتى تلك الأحلام الكسيرة.. ترف جيلنا، باتت الآن عصية، أو مستحيلة، على جيل آخر جاء من بعدنا، لم تُتح له الفرصة الكافية لأن يترسّم خطانا ويقتفي آثار أحلامنا المنهوكة. ولكننا، رغم ذلك، نرى بأسى ظلال الهزيمة في عينيه، دون أن يتمتع بشرف خوض معارك الذود عن أحلامه.

في اللحظة التي تغلّبت فيها قدما أروى على رأسها في عملية الصعود إلى الدور العاشر، كانت البنفسجة تودِّع آخر زهراتها الحزينة، وتستنفر كل إحباطاتها التي حلّت في الأوان. وهي عندما أهدت كتابها المنشور بعد موتها إلى "كلّ المترددين على العيادات النفسيّة"، وهي منهم، فقد كانت تهديه إلى كلّ المتشبثين بجنونٍ يستحق التبجيل، بالفكرة والمبادىء التي دافعوا عنها، ومنحوها زهرة شبابهم المتّقدة، ولم يتراجعوا عنها في زمن العقلانيّة المريبة والبراجماتيّة العاتية والعولمة المتوحشّة.

كنا مع أروى في تشبثها بأحلامها رغم كلّ ما يقال من أن التشبث بالأحلام هو نوع من الجنون. كنّا سنتفهّم حزنها وكآباتها وأسفها على أصدقاء فاتهم أن الصداقة هي قيمة عميقة مشتقّة من الصدق، فتراجعوا عنها وعن كلّ القيم الإنسانيّة الأصيلة.

كنّا معها في مراراتها وخيباتها وفجائعها بالبشر..
كنّا معها في كلّ شيء.. في كلّ شيء..
لكننا لم نكن مع خيارها الأخير.

مع ذلك،
فعندما ألقت أروى صالح بجسدها من الطابق العاشر تحت شمس الظهيرة العالية، تسامت.. وعَلَتْ.

آخرون: قفزوا فجأة من الأرض إلى الطابق العاشر.. فهووا! Voir moins

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى