مختار أمين - وليف.. قصة قصيرة

منذ ذلك اليوم وأنا أصبحت أسير وراءه من شارع لشارع ومن حارة لأخرى كي أحظى بتميزي بين الغلمان..

بين الفينة والفينة يرمقني بنظرات الفضول، ويرش على وجهي ابتسامته المتسائلة؛ تدب اليقظة في أوصالي، على الفور في همة أنحني أجمع حاجياته من على الأرض وأضعها في جرابه، لأكون جاهزا مستعدا لإشاراته وإيماءاته، وأنا أزاحم تصفيق الأولاد والنساء والرجال كي ألحق بصوته وأبحث عن خصوصيتي في أوامره..

جلدني باللامبالاة، ولم يكلفني بعمل واحد مما تفوقت به معه.

اِسوّد النهار، وأسدلت المباني والمحال ستار حزنها الغامق، ونبحت كلاب الخوف في قلبي، وأنا ألّف خلفه ساعات النهار كله.

حطّ صندوقه الخشبي أمام عشته، وأنا أساعده دون طلب منه.

ـ خلاص.

ـ خلاص؟.

فجأة عادت سنواته الكثيرة ترسم معالم وجهه، وهو جالس على باب عشته يتأملني، وأسند صدغه على يده..

تلاشت في سرعة البرق الهمّة، وتطاير النشاط من على جسده الذي بدا في الليل كهلا.

زحفت مستترا في رجاء العاطفة التي بدت على عينيه رغم الشقاء لأتوارى منه وأجلس بجواره لأسقط تساؤلاته عني.

ـ اذهب لأمك.

نكست رأسي دون جواب.

ـ أبوك يبحث عنك.

سقطت الدمعات رغما عني. كسرني بوجهه المرعب الذي أداره إليّ. ثمة رعشات سريعة في الشفة السفلى أكلت حروف كلماته المغمغمة.

ـ الشتاء هنا قارس، وربما الجوع.

أعطيته وجهي الضعيف بعدما غلبته الدمعات..

كما أنه الهذيان رمى وجهه بعيدا، وهو ينظر في جعبة الذكرى.

ـ ضل مني ذات يوم ولم يعد.. عد أنت.

حركت رأسي في تيه مدهوشا محملقا، أستدر أنا الآخر ذكريات تؤكد عزمي على البقاء.

ـ طردني صاحب المقهى.

سمعني في تركيز.

ـ الشرطي حذرني ألّا أنام على الرصيف مرة أخرى.

هزّ رأسه في إمعان.

ـ زوج أمي ضاق بوجودي.. أُفسد متعته مع أمي الشابة الراغبة.

أنار كون وجهه بابتسامة حنون.. ضمني.. ضحك.. قهقه.. زغرد

بريق دمعاته في مقلتيه.. ابتسمت وأنا مازلت على تيهي، وأردف.

ـ كنت موظفا في البلدية.. أعمل حارسا.. لم يسعفني راتبي أن آتي بزوجة رحيمة تكون له أماً.. أتركه أغلب ساعات النهار حتى أعود.

ضحك وقهقه وصخب.

ـ كنت أحذره كثيرا ألا يبرح هذا المكان حتى أعود.. لكنه برح !.

أردف في رعشة الجنون وبعينين خرجت لأمتار مرعوبة.. أرعبتني.

ـ أخذت أبحث عنه في كل المدينة.. صادقت الأطفال.. سامرت الكبار.. أهملت عملي.. اقتات من عطفهم.. لاعبتهم.. تعلمت فنون الحاوي كي أعثر عليه في بريق ابتساماتهم وأنسهم.

عاد يضحك.

ـ اشتريت هذا الصندوق.. بداخله حكايتي وكل حكايات الأشقياء.. مرت السنوات ولم أجده.

صاحبته في كل مكان ولم يفارقني، دربّني وعلّمني وزاد من تميّزي بحركات بهلوانية، أسحر بها عقول الكبار والأولاد الذين طردوني من لعبهم لكثرة شرودي. نمت في حضنه سنوات كثيرة حتى سكت قلبه الراقص الذي يرفع رأسي صعودا وهبوطا كأرجوحة لم أفلح في طفولتي أن ألعب بها.

على لسعات المطر، وجلد الشتاء أحمل صندوقه الخشبي على ظهري المنحني.. أخرج كل صباح أبحث عنه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصة من المجموعة القصصية (التـيه)

* منقولة عن موقع:
وليف.. قصة قصيرة. بقلم: مختار أمين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى