نادية شكري - مندوب مبيعات.. قصة قصيرة

أجبت على تساؤل أحد المسئولين عن ذاك المعرض الفني الجماعي بوسط القاهرة: «نعم إنها لي».

كانت لوحتي تتوسط الجدار المواجه للباب الكبير؛ فزاد فرحي.. تكوينات اللون فيها حتماً ستشد أعين الزوار، كما أن شخوصها النابضة بالحياة تدعو للتفاؤل بذاك النور المنبعث برتقالياً شفافاً، والذي ركّبته من أكثر من لون.

لم يعلمني أحد كيف أرسم؛ وحتى تحصيلي العلمي لم يتعدَّ المرحلة الثانية. لكني حين كتبت أقصوصة يوماً، كتبتها لنفسي وكأنها شكوى من ظروفي وأحوالي إلى نفسي. حينها أريتها لأحد الأصدقاء من الأسماء المعروفة في مجال الكتابة، شجعني الرجل على أن أتقدم بها للمسابقة، ولحسن حظي نالت أولى الجوائز. أرسم وأكتب القصة هكذا دون مقدمات أو قرار مسبق، وأحصل على أولى المراتب.

عقلي يفنّد ويتذكر بينما أجلس على تلك المصطبة الأسمنتية الباردة الجامدة، وحولي في حجرة الاحتجاز عدد من السوابق ومتعاطي الممنوعات. تحاصرنا رائحة عفنة تنطق بها الجدران، وتفرض نفسها علينا بوصفها فرداً منا.

لولا رغبتي الملحة والتي باتت واجبة أن أبتعد عن الهامش، هامش الفن وهامش الكتابة والإبداع، والأهم الابتعاد عن تهميش الحياة لي، ما تجرأت على الرسم أو الكتابة يوماً.

ماذا كنت أفعل إذن؟ أردت أن أصبح رقماً في معادلة الحياة الفنية والأدبية، أصبحت رقماً داخل حجرة الحجز في هذا القسم الأقدم من أقسام الشرطة.

أنا عن نفسي فشلت في الإجابة.. فليخبرني أحد بالله عليكم قبل أن أجن، وأن يفوت موعد إعلان نتيجة المسابقة.

من أين كنت سأحصل على ثمن الألوان.. يا إلهي؟ ما ذنبي أنا في أن أسرتي فقيرة أباً عن جد؟ وما زاد الطين بلّةً وألماً أن جُن أبي وقرر يوماً أن يطلق والدتي فتوقفت حياتنا كلنا كما توقفت عن الذهاب للمدرسة؛ لست أنا فقط؛ بل إخوتي أيضاً، مكثنا طويلاً نتنقل من بيت قريب لبيت غريب إلى أن تقدم أحدهم لأمي فتزوجت، ووافقت على شرط الرجل بأن تصطحب أخي الأصغر فقط، وذلك بدافع شفقة مكذوبة غلفها باستجابة لتوسلات أمي، لكنه أراحهما ولم يأخذ وقتاً طويلاً بينهما، ومات للأسف بفشل كلوي لم يعالجه أحد.. هكذا ببساطة. وكان الرجل يدير تجارة بسيطة في بيع الأدوات المنزلية، ولا يمتلك محلاً، اللهم إلا الغرفة التى تؤوي ثلاثتهم، وتكرم عليّ بأن جعلني «أسرح» له ببعض الأدوات المنزلية، ألفّ الشوارع والمقاهي، وأحياناً أخبط على أبواب بعض البيوت.

أسلِّمه ثمن ما ابتاعه الناس، وتقدم لي أمي سراً وهي مرتعبة بعض الطعام على أن أسرع في الخروج من البيت قبل أن يجيء هو.

كنت لا أحس بالنقمة على العموم إذا قارنت بين حجرتهم وبين العشة التي استطعت أن أبنيها بما توفر لي من قروش بفضل وظيفتي التي أطلق عليها زوج أمي اسماً متحضراً: «مندوب مبيعات». أحمل الترامس والخلاطات والمكاوي مربوط بعضها، والباقي أحمله في كيس بلاستيكي كبير على الكتف الآخر. أحياناً كنت أرجع بكامل الأشياء، ولكن هذه المرة قررت أن أبيع كل البضاعة التي تخلع كتفي يأي ثمن. جلست على أحد المقاهي وناديت على البضاعة بأعلى صوت بعد أن قللت السعر للنصف، وبالفعل انتهيت من عبء الكتفين سريعاً، وهرولت أشتري احتياجاتي من ألوان وخشب وفُرش بأحجام مختلفة، واختليت بنفسي متناسياً زوج أمي ونقوده وإرهاقي، ومكثت أنجز لوحتي. اعتكفت تقريباً، وإذا قرصني الجوع أعدل الطوبات الحمر اثتنين في كل ناحية وعليها كنكة الشاي وألتهم كوب الشاي برغيفين كاملين وأكمل؛ حتى انتهيت من اللوحة وقدمتها للمعرض الجماعي. واليوم ستقوم اللجنة بالتحكيم لمجموعة اللوحات، بينما أنا هنا محتجز ومدان بسبب بلاغ زوج أمي واتهامه لي بالسرقة. لم أسرق يا سادة، فقط أخذت بضعة الجنيهات تلكم على سبيل السلف، وحين أحصل على نقود، سواءً من قيمة الجائزة أو بيع اللوحة سأرجع له نقوده. لم يصبر عليّ هذا الرجل، لم يشفع لي أنَّ من ولدتني تخدمه وترعى مصالحه، يا لك من جشع أيها الرجل!

أسأل نفسي ماذا لو وقفت أمام القاضي قوياً وحكيت له القصة من بدايتها في المحكمة؟ هل سيصبر علي ويعطيني فرصتي؟ هل يوافق على أن يطلق سراحي بعد كتابة تعهد مني يفيد بالتزامي دفع ديني بعد عدة أيام؟ فقط عدة أيام يا سيادة القاضي.

غفلت عيناه أرقاً وتعباً وتفكيراً وحيرةً، وراحت رأسه تتوسد ركبتيه ليرى في نومه قاعة المحكمة كبيرة ومزركشة جدرانها، ولوحاته القديمة المكتملة وأخرى غير الجاهزة ترتص في القاعة، ورأى نفسه يرتدي بدلة عرس وكل أصدقاء طفولته وكل من صادفهم وجادلوه فى أسعار الأشياء، التى كان يبيعها، كانوا ضمن الحشد.. حتى أمه وشقيقه. الجميع يغني أغنيات الزفاف محاطون بصواني الطعام الفخم التي تصادف ورآها فقط في الإعلانات، أو حين كان يسير بجانب أحد المطاعم الكبرى. قاعة أفراح إذن، وعلى منصة القضاة يلف المطرب المشهور بالمايك يغني وأمامه الراقصة. اقترب من العروس التي كانت تجلس بجواره، أمسك بطرف الطرحة التي تخفي بها وجهها المطأطئ إلى أسفل ليرى وجه شقيقه الأصغر الذي لم يسعفه أحد من آلامه؛ يفيق مفزوعاً.


موقع ك ت ب

مندوب مبيعات .. نادية شكري - ك ت ب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى