فوزى يوسف إسماعيل - صنعة عزرائيل.. قصة قصيرة

سيدى عزرائيل ، انا كنت شابا فى العشرين من عمرى ، تبتسم لى الحياة بكل معانيها من حريه ومتع تفتح لى ذراعيها لتستقبلنى بترحاب ، فكانت الحياة مهيأة لى بالتنزه بكل ترفيهها، من رحلات وعلاقات حميمه مع كل الاصدقاء من الجنسين ، ألهو والعب وأنط وأسبح فى الماء، وأمارس كل الالعاب، ككل شاب يفرح بشبابه ، لكن أبى كانت له طريقته كما يقولون، دقة قديمة ، فكان يرفض ذلك ، يرفض أن أنخرط وسط الشباب الذين هم فى سنى ، بحجة أنهم متهورين ويقودننى الى المهالك ، وسيعلموننى تعاطى السجائر والمخدرات وغيرها ، حتى كنت فى هذا السن أتفهم الامورجيدا ، وعيناى كانت مصوبه على أن أبحث عن ذاتى ، نعم مثل أى شاب يخرج ليبحث عن ذاته ، ويريد بناء حياته ، فقد نلت الدبلوم ولم أنتظر تعين الحكومه ، عاهدت نفسى عندما أصل الى سن النضج أخرج لاعتمد على نفسى

كان أبى خائفا علىّ من الهواء الطاير، يريدنى دائما بجواره ، تحت عينيه كل لحظه ، وأهتمامه الزائد بى عن الحد المعتاد جعلنى أصدقه وأطيع أمره لانه أبى وليس لى أن أخالفه فى أمر ما بل لم أجرء أن أقل له ولالأمى أف ، الاتعلم قول الله تعالى :

- ( ولا تقل لهما أف ولاتنهرهما) .

أقنعتهما بصعوبه بالغه، بأننى قد صرت شابا وسنى يسمح أن أفتح بيتا وأعول أسره ، ولست صغيرا كما يعتقدون.. وسألت نفسى :

- هل أظل هكذا ؟

رغم هذه السنين .. أظل طفلا مدللا .. ولم أتمتع بشبابى وأتمتع بالحياة التى وهبها الله تعالى لى.

وصرت أوعظهم بما أحفظه من آيات الله تعالى.

- يا أبى .. وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا.. وما تدرى نفس بأى أرض تموت .. إن الله عليم خبير.

رأيت الدموع تظفر من عينيهما ، فأنا أحس ما يحسان به ، أحس بخوفهما على وأنا فى بلاد الغربه ، لاننى ولدهما الوحيد اللذان كان يتمنيانى من الدنيا بعد عشرة أعوام من زواجهما ، لذلك كنت حياتهما ودنياهما ، وكنت الهواء الذى يتنفسانه والماء الذى يشربانه .

كان شيئا يحدثنى ان لااتركهما بعد ان ربيانى، وكان شيئا أخر يدفعنى على أن أسعى لطلب الرزق فى أى أرض كانت ، وكان فى قرارة نفسى عازما على أن أسعى للبحث عن عمل ، لاننى كنت أرى مرتب أبى ضئيلا من وظيفته ،لأن الله تعالى قال فى كتابه العزيز :

(أن أرضى واسعه).

وما أوسعها وأرحبها أمامنا نحن الشباب ، لاننا لانبكى على شىء فى هذه الارض الا والداينا، ولولاهم مانتظرنا فى أرض قد ضاقت بنا ذرعا ، كنت أرغب فى حياة سعيده مبهجه تتسم بالامال والطموحات أستطيع أن أحقق فيها ذاتى .

أقنعت والدى بالسفر مع كثيرون يخرجون للبحث عن عمل ، بعد مناقشات دامت لساعات طويله ، حتى وافقوا على مضض، وقد لحظت الحزن يكسوا وجههما ،وأمى التى لم تترك النحيب منذ أن سمعت عن سفرى المفاجىء .

فقلت لها مداعبا :

- سأكبر لك صوره وأعلقها على أحد جدران الغرفه لتمثلنى عندما أكون غائبا عن البيت، فبدرت منها أبتسامه ضئيله ترف على شفتيهما ، ومضى ينصحنى أبى بأحكام الغربه:

- عندما تصل الى المكان الذى تذهب اليه ارسل لى رساله للاطمئنان عليك 0

- 2-

- عندما تثبت فى المكان المخصص لك أغلق نوافذه و أحكم الغطاء عليك 0

- عندما تجد صعوبه فى العمل قم بالرجوع الى البيت ولا تتمهل لحظه واحده .

وظل فى نصحى وقتا طويلا ، وأثناء حديثه معى أرتجفت كل أطرافى ، هذه اول مره اتركهما وحيدان فى المنزل يعانان قسوه الوحده ، لاننى قد ادخلت عليهما السعاده والبهجه والتسليه فى حياتهما ،والان ساتركهما يعانان نفس الوحده التى عانوها من قبل ، تشبثوا بى عندما عانقهما للوداع ، وودعانى الى محطه الاتوبيس الذى استقله ، فتصنعت لهما الابتسامه وانا أحبس فى قلبى مراره الفراق ، فرجعت اليهما مهرولا لتحتضضنى أمى بشده غامره فى صدرها ، من هذه اللحظه أحسست بحنان الام الدافىء يلهب صدرى، وكان ابى اشد حزنا لكنه تصنع امامى الثبات حتى لااهاب وحشة السفر، ونحن فى هيمنه الوداع سمعنا صوت السائق وهو يقول لنا :

- باقى على قيام الرحله دقيقه واحده .

فقبلتهما بسرعه وحملت حقيبتى معى وصعدت الاتوبيس الى عالم آخر، تحرك بنا الاتوبيس وكان مقصده الاسكندريه ، فالاسكندريه مدينه فى وطنى مصر ،وليست بعيده بالقدر الكبير من قريتى التى أقطن فيها ، لاننى كنت أقطن فى قريه من قرى الاقاليم وهى قريه صغيره فى حضن الجبل بمحافظه المنيا صعيد مصر ، أستقلينا الاتوبيس وتحرك بنا ، وادركت فى نفسى اننى وحيدا فى هذا السفر، رغم أمتلاء الاتوبيس بالمسافرين ، جلست على مقعدى بجوار النافذه وانا قد خيل لى أن عيناى تسبحان فى لجه من الاحلام، فكنت اختلس بعض النظرات الى الطريق لاشاهد مظاهر الطبيعه ، وبعضا آخر لوجوه الركاب المسافرين معى فتأملهم ، وكان منهم من يضحك مع زميله، ومنهم من يهمس للآخر، ومنهم من يسبح فى الأحلام ،ومنهم من يركن رأسه على حافة النافذه يتأمل الطبيعه التى يمر عليها فى لحظات عابره .

رأيت حتما من أنشاء زماله جديده لتكون عونا لى فى هذا السفر الواعث ، فرحت أبحث فى وجوه الركاب لعلى يهدينى ربى الى رفيق فى الطريق ، تثبتت عيناى على أحد الركاب، كان يجلس فى المقعد الأخير ، و بجواره مقعد خالى أخر، وكان شابا فى مثل سنى ، فقمت وتركت مقعدى ،ألقيت عليه السلام ، فتأخر قليلا فى الرد علىّ ، كان شاردا فى تأملاته ، جلست بجواره فأفاق من شروده ونظر لى نظره كأى راكب يركب بجواره ، ودار ببصره مره أخرى الى النافذه يفكر كيف سيكون الطريق ، أيكون ممهدا لعيشه خصبه ، أم سيكون موحشا فى الغربه ، أدركت أن حاله مثل حالى ، رغم اننى كنت لا اعانى ما أعانيه الان ، كنت أعيش فى كنف ابى وامى سعيداهنيئا ، مجاب الطلب لاحمل على عاتقى هما ، والذى كنت أعانيه فقط العزله ، العزله عن الناس وتركت الاصدقاء مسافرا الى الحريه والانطلاق الى عالم فسيح ، أبتسمت فى نفسى أبتسامه يبدوا فيها التحسر على نفسى ، لااعرف اذا كنت اتحسر على الايام الماضيه ، أم اتحسر على ماهو آتى من عواقب ستتلقانى ، الان

وصاعدا ستبدأ حياة جديده ، هى معاناه بلا شك ، معناة البُعد عن ابى وامى وعن موطنى الذى تربيت فيه ونشأت ، حياة بعيده عنهما ، عن اليد الحانيه التى كانت تحنو علىّ ، والتى كانت تلبى لى طلباتى إن شئت.

لا اتنازل عن هذه الحياة القادمه ، بحلوها ومرها ، مهما حدث فى رحلتى العمليه ، لاننى فضلت أن أعتمد على نفسى واكون رجلا على قدر المسئوليه ، كباقى الشباب الذين هم فى سنى ، يبنون مستقبلهم بأنفسهم ، بعرقهم وكدهم وكفاحهم.

بعد مسافه قصيره من الطريق تعرفنا على بعضنا ، وجلسنا بعض الوقت نشكى همومنا ، عرفتا أين كنا فى هذا السن الذى أعتبرناه كل منا أنه اجمل عمر فى حياةالانسان .

سن الشباب الذى يصبح المرء فيه يحب نفسه وكأن الارض لم تسعه ، متبخترا بذاته فيلهو كيفما يشاء، يرتدى الملابس المشجره والملونه ، ويقوم بتطويل شعره تاركه مجعدا بحجة أنهما موضه متغيره ،

-3-

غير النيولوك وحده ، والتشبيه بالنساء وتشبه النساء بالرجال ، أنه عالم غريب ذو اسرار غريبه، أخذنا الحديث ولم ندرى بالطريق، ففجأه وصل بنا الاتوبيس الى منتهاه ، فهبطنا جميعا منه ، ولم اعرف كيف ساذهب ، وزميلى ايضا كان طريقه مثل طريقى تماما ، فلم يعرف كيف سيذهب ، تركنا الاتوبيس فى مكان لانعرفه ، وتفرق جميع الركاب الذين كانوا على متنه من حولنا ، ولا يبقى فى هذه اللحظه الا البحث عن مبيت ، وقد أقتربت ظلمه الليل أن تكسوالارض فوقنا، فقولنا لانفسنا :

- اين سنذهب الان ؟

ليس هناك مكان نعرفه حتى نمكث فيه للغد ، علينا أن نجد مأوى لنا، لكى لايكون مصيرنا النوم فى العراء ، بعد مده من البحث عجزنا عن تدبير مكان للمبيت ، فصرنا فى الشارع عسى أن نجد شيئا يأوينا حتى الصباح ، أو مكانا مهجورا نستظل به خشية يعارضنا قطاع الطرق ، ويكن ماكنا نخشاه ، قابلنا فى الطريق مجموعه من الاشخاص يبدوا على هيئتهم احتراف الاجرام ، كانوا يتمايلون ويتضاحكون ضحكات مخجله ، يتعاطون السجائر بشراهه ، كأنهم سكارى وما ان رؤنا نحمل حقائبنا أوقافونا وهددونا بأسلحه بيضاء ، طلبوا منا ان نعطيهم مامعنا من نقود ، ولم يكن معى فى هذه اللحظه الا مائة وخمسون جنيها هم تحويشة عمرى ، وزميلى مثلى تماما كما لو كنا نكمل بعضنا فى كثير من الامور، حتى حكايتنا كانت متشابهة الأوجهه ، لو صعنا لطلبهم لنموت جوعا ، ولو رفضنا لنموت بأحد أسلحتهم فكيف نتصرف الان ، لابد ان نرضخ بأمر من الامرين ، وكيف سنرفض ان نعطيهم النقود وهم كانوا عددهم سبعة أشخاص كلهم مسلحون ، ونحن شابان عُزل ، لم ينجدنا أحد فى هذا الوقت المتأخر من الليل الناس فى المنطقه كلهم نيام ، والطريق يشبه المقابر لاأنس فيه ولا جن ، همس زميلى لى فعرفت انه رضى بطلبهم ، التفت من حولى رأيت عن بعد بصيص من نور يفج من سياره قادمه الينا فصرخت بكل قواى :

- النجده ..

حاول أحدهم ان يهجم علىّ لاسكاتى ، فصرخت مره ثانيه .

- النجده ..

- رأيت نور السياره يقترب منا ، وسمعت سرينه لسياره شرطه تضوى فى المكان .

فشجعنى أن أعيد الصراخ مرات ومرات ، وقوت عزيمة زميلى فى نفسه هوالآخر فصرخ معى :

- النجده .. النجده..

اسرع فى الهروب يختبئون فى كل مكان، حمدنا الله على نجدتنا التى كنا لانتوقعها ، وسرنا فى

الطريق نلتنفت من حولنا وجدنا أنفسنا فى الامان ، وبعد نهايه الشارع وجدنا ميدان يشع منه

الانوار، لمحنا عن بُعد مبنى عالى تتصدره يافته تدل على انه لوكانده للمبيت .

سالنا عن هذا الميدان فقال أحد الماره :

- ( ميدان الجمهوريه )..

دخلنا لوكانده وسألنا عامل الاستقبال عن غرفه للنوم فدبر لنا غرفه بسريرين تطل على الشارع ، ودفعا شيئا من الحساب الجارى بعد ان تعرف عن هويتنا من خلال البطاقه التى كنا نحملها ، ونمنا بعد ان أستلقينا بجسدناعلى مخدعنا ونعمنا بالراحه نفكر فى الحدث المؤلم الذى لولا عنايه الله لفقدنا حياتنا ، ننعم بنوم هادىء حتى الصباح.

كتب الله لنا عمرا جديدا بعد هذه الليله المشئومه ، وبدأت حياتنا العمليه منذ هذه اللحظه ، فالتحقنا فى عمل بعد بحث مضنى قد ساقنا اليه القدر، وهو عمل بسيط فى احدى الشركات التى تعمل فى مجال عرض السيارات ، قمنا بمسحها وحراستها فى نفس الوقت حتى حصلنا على مرتب لابأس به من المال، عند رجل يبدو عليه الغنى والثراء، أخذنا جزء منه حتى نعود به الى ديارنا ، والجزء الآخر عشنا به وأرسلنا الباقى لاهلينا عبر البريد ، ومعه خطاب يطمئنهم علينا وعلى سير أعمالنا .

- 4-

كانت ترد الينا بعض الردود من ابائنا بنصحنا وارشادنا الى الطريق الصحيح كما كانوا يفعلون قبل سفرنا 0

مرت الايام والشهور، بل سرقتنا السنين وسرقت شبابنا فى التفانى فى أعمالنا، فلم نغادر المكان حتى كبرنا وكبرت معنا مشاكلنا ، واكتفينا بارسال رسائل فقط لوالدينا ، لنخبرهم عن أخبارنا فيردون علينا بمثلها لنعرف أخبارهم .

وبعد عده سنوات علمنا بوافتهم ، فلم نفكر فى الرجوع الى مسقط رأسنا مره أخرى ، وقمنا بشراء قطعة أرض بنينا عليها مسكنا لنا ، وشاءت الظروف وتزوجت من ابنه صاحب الشركه الذى كنا نعمل عنده ، وزميلى هو الآخر قد تزوج من شقيقتها وعشنا سويا فى المنزلين ، نود بعضنا البعض وقد رزقنى الله بولد سميته ( محمد ) وزميلى ببنت غاية فى الجمال أسماها ( فاطمه ) تزوجا بعضهما بعد توافق وجد واجتها د فى الدراسه ، وبعد أن حصلوا على أعلى الشهادات الدراسيه ، وأنجبوا لنا الاحفاد .

وها أنذا أبلغ من العمر الثمانين عاما ، وزميلى التاسعه والسبعون ، فكان يصغرنى بعام واحد ، وقد أصابنتا الشيخوخه والعجز بعد ماكنا شبابا نتمتع بالحيويه والانطلاق فى الحياة .

سيدى عزرائيل :

هذه حياتنا.. كمثل حياة البشر أجمعين .. خلقنا الله أطوارا .. وخلقنا من ضعف ثم قوة ومن بعد قوة ثم شيب. يقول الله تعالى:

- (الله الذى خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوه ثم جعل من بعد قوه ضعفا وشيبه يخلق مايشاء وهوالعليم القدير).. صدق الله العظيم.

أنها ياسيدى رساله تسلم للآخرين حتى تتواصل الحياة ، فكنت طفلا أعشق الحريه ، فصرت شابا أعشق الطموح ، وصرت شيخا أعشق أولادى وأحفادى وها قد وصلنا الى منتهى الطريق ، أسلم رسالتى للآخرين من بعدى ليواصلوا المهمه فى التكاثر بالاموال والاولاد والثمرات، حياة يفنى فيها المرء عمره كاملا وكأنه يدخل من باب ويخرج من باب أخر حتى ولوعاش الدهر كله ، فلم يقدم شيئا الاعمله الصالح ، مصدقا لقوله تعالى :

- ( ان سعيكم لشتى )..

فنظر اليهم عزرائيل مبتسما وقال :

- هذه سنة الحياة ..

وقال جل شأنه :

- ( كل نفس ذائقة الموت ) ..

وقال تعالى :

- ( فاذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ..

صدق الله العظيم .

وقد أنتهيتما من مهمتكما .. فداعونى أمارس صنعتى ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى