بوشعيب عطران - معطف مختلف

انتقلت من مرحلة الابتدائي إلى مرحلة الإعدادي، أشياء كثيرة تغيَّرَت بداخلي، امتدَّت إلى ملبسي.

كنَّا على أبواب الشتاء؛ أسوةً بزملائي طالبتُ أبي بشراء معطف لي، كعادته قابلني بالرَّفض؛ لأستعين بأمِّي بعد عدَّة جولات رضخ مرغمًا لأمري.

عصر عطلته الأسبوعيَّة، صحبني إلى السُّوق حيث المحلاَّت التجارية، بعد لفٍّ ودوران، وجدتُ ضالَّتي؛ معطفًا بُنيًّا ذا أزرار ذهبيَّة، أشرتُ إلى أبي: هذا ما أبتغي.

دلفنا إلى داخل المحل؛ سارع صاحبه بجلبه إلينا، لمستُه، كان ناعمًا، ارتديتُه، تمامًا في مقاسي، إلاَّ أن أبي أبدى امتعاضًا، قال:

• إنه طويل بعض الشيء.

أجابه التاجر مفتعلاً الضحك:

• سيكبر فيه.

ثم بدأ يسرد محاسِنَه بشيءٍ من الإغراء، دون أن يأبه بسؤال أبي المتكرِّر عن ثمنه:

• إنه معطف مختلف، انظر أزراره، مثبَّتةٌ جيدًا، له واجهتان بلونين مختلفين؛ بنِّي ورمادي، كأنك ستشتري معطفين بدل واحد.

راقتني هذه الميزة كثيرًا؛ معطف بواجهتين، وبِلَونين مختلفين، حقًّا مذهل، سأكون به مختلفًا عن بقية زملائي.

نطق التاجر أخيرًا بالثمن، صاح أبي:

• إنه جدُّ غالٍ.

بدأت المساومة، انزويتُ في ركن المحل، أرقب هذا المشهد الذي كان يتكرَّر كثيرًا مع أبي عند ابتياعه لشيءٍ ما، غالبًا ما ينتهي بالشِّجار، وكذلك كان.

خرجنا من المحل، وصياح أبي يتعالى في الشارع؛ لنغادر السوق دون معطف، إلاَّ بغضب أبي الذي تَرْسم انفعالاتُه وحشًا أخشاه كثيرًا؛ لألوذ بالصَّمت وغُصَّة اليأس تتحوَّل إلى دموعٍ حبيسة.

شيئًا فشيئًا عاد الهدوء إليه، قبض على يديَّ بقوة، وهو يحدثني بصوت منخفض:

• لا تحزن يا بني، المرَّة القادمة سأشتري لك أفضل منه!

لم تأتِ هذه المرة قطُّ, لأكتفي ذلك الشتاء بـ(كنزة) صوف اشترَتْها أمي من سوقٍ للأثواب المستعملة!

بقي ذلك المعطف عالقًا بذهني، أوَّل راتب اشتريتُ به معطفًا، حيث دأبتُ على شراء ثلاثة إلى أربعة في السَّنة، حتَّى امتلأَتْ خزانتي بمعاطف كثيرة بألوانٍ وأنواع مختلفة.

توطَّدَت علاقتي بصاحب محلٍّ راقٍ، كنت أحدِّد له اللَّون والشكل؛ ليأتني بما أشاء دون تردُّد، ما دمت زبونًا وفيًّا لا أجادِلُه مهما كان الثمن.

كالعادة أبلغتُه بِمُرادي، مرَّ أسبوع لأجد بدل ما طلبتُه معطفًا أسود، نظرت إليه مستغربًا:

• ليس هذا ما أريد؛ ولَم أرتَدِ قطُّ هذا اللون.

ردَّ بسرعة وابتسامة إغراءٍ تحتلُّ قسماته:

• أعرف، لكنها (الموضة) يا سيدي.

مما شجعني على الكلام، لأبثَّه ما يدور بخلدي منذ زمان:

• ألا أجد عندك معطفًا بواجهتين؟

نظر إلَيَّ وعلامةُ الاستفهام تبدو على مُحيَّاه:

• لم أفهم قصدك؟

بدأتُ أشرح له:

• معطف بواجهتين؛ أيْ: بِلَونين مختلفين و..

قاطعَني بضحكة طويلة شاركتُه بقهقهة مصطنَعة؛ لأُخفي ارتباكي:

• معطف بلونين مختلفين! كان هذا قديمًا؛ لما كانت المعاطف جد قليلة، ومَن يلبسها قلَّة، أما اليوم فقد أصبح الكلُّ يرتديها، وموجودة بأنواعٍ وألوان مختلفة.

لف التاجر المعطف الأسود، أدَّيتُ ثمنه، غادرتُ المحل بسرعة، وضحكة غريبة منه تُشيِّعني بالخارج، والمعطف ذو الواجهتين يأبى أن يُغادر خيالي.



بوشعيب عطران

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى