وديع فلسطين - الآنسة فاخرة..

دخلت الآنسة فاخرة، أو فاخرة هانم، الحياة الأدبية من الباب الخلفي، فلم تكن أديبة ولا كاتبة، ولكنها استطاعت مع ذلك أن تنتبذ لنفسها مكانا في الحياة الأدبية، بقي مجهولا لفترة طويلة إلى أن افتضح بعد وفاة "البطل".

فمن تكون الآنسة فاخرة? إنها كما تزعم الأوراق فتاة في العشرين من عمرها تقيم في قصر في مدينة ميت غمر تحيط به المروج الخضراء المملوكة لأسرتها ذات الأصول التركية, ووالدتها من أصلاب تركية, أما جدّها الأكبر, فهو مدحت باشا بطل الدستور العثماني, وهي تزعم بأنها تهوى الأدب, وتكتب القصة, ولكنها لا تجرؤ على نشرها سواء باسمها الصريح أو باسم مستعار, يضاف إلى هذا أنها على قسط عظيم من الجمال تشهد عليه صورتها التي تفتن العقول, وهي صورة لا تمانع في أن يراها الناس ولكن بشرط استردادها حتى لا تُبتذل في أيديهم.

هذا هو كل ما عرفناه عن فاخرة من واقع رسائلها الأدبية التي تبادلتها في عصرها مع أديب كان سنداً لعبّاس محمود العقاد ولصيقاً له, وكان يُشار إليهما في ذلك الوقت بالرقم 10 لأن العقاد طويل طويل كالواحد الصحيح, أما زميله فقصير قصير كالصفر الميكروسكوبي.

ولابد للتمهيد لقصة فاخرة من الحديث عن الظروف التي أقحمتها في دنيا الأدب, ومن توفيق الله أنني عرفت ثلاثة من (أبطال) هذه القصة, وكل منهم يحتاج إلى ما يمكن أن يوصف بـ (التعريف الانطباعي) أي تعريف كل منهم من واقع ما انطبع في ذهني من ذكريات عنه.

وبطل الأبطال هو الأديب الشاعر الكبير إبرهيم عبدالقادر المازني (وكان يكتب اسم إبرهيم بعد حذف الألف الوسطى لأنه كان يراها زائدة كخاذوق يخترق عينه), وقد قابلت المازني للمرة الأولى في (لجنة النشر للجامعيين) التي أنشأها عبدالحميد جودة السحار, وتخرج في (جامعتها) أدباء كبار مثل نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير وعادل كامل ومحمد عبدالحليم عبدالله ومحمود البدوي وأمين يوسف غراب وغيرهم. وكان المازني وقتها يطبع روايتيه (إبرهيم الكاتب) و (إبرهيم الثاني), كان قصير القامة, يظلع في مشيته, دائم الابتسام, على قدر كبير من التواضع, له حفاوة واضحة بناشئة الأدباء, ومن آيات تواضعه أنه اشترك مرة في مناظرة في قاعة يورث التذكارية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة, وكان معه في المناظرة بعض رجال العلم ومنهم فؤاد صرّوف, ورغب المازني في استيضاح حقيقة علمية استبهمت عليه, فاستأذن صرّوف قائلاً: (دعني أسأل سؤال الجاهل) ثم طرح سؤاله, ولم يسؤه أن يعترف بجهله, لأن للعلم أربابه, وليس هو منهم.

عاش المازني طوال عمره في الأحياء الشعبية, وكان بيته قبل أن ينتقل إلى حي العباسية يجاور المقابر, وكان يكسب رزقه من الكتابة في الصحف بعدما ترك التعليم, ومع ذلك كان رزقه محدوداً وعياله كثيرين, ومطالب الحياة تؤوده, فكان يرتجل مقالاته ارتجالاً, إذ ليس لديه وقت يضيّعه في إعادة الصياغة وتحسين الأسلوب, وما حاجته إلى ذلك وقد أوتي أسلوباً من أسلس الأساليب وأجملها, وهو ما علّله لي الشاعر عبدالرحمن صدقي بقوله: إن المازني يحفظ كثيراً من الشعر القديم الجميل, فإذا كتب انفرط العقد النظيم لهذا الشعر في كلام منثور جميل يشهد له بالبراعة.

ذهب مرّة إلى بقال لشراء بعض الزيتون, فاصطنع البائع قرطاساً من ورق الصحف عبّأ فيه الزيتون وقدّمه له. ولما ذهب إلى بيته, فضّ القرطاس لالتهام الزيتون, فوقع بصره على توقيعه على مقال منشور في الجريدة! فكتب تعليقاً طريفاً على هذه الواقعة قال فيه ما معناه: هذا هو المصير المحتوم لكل ما نكتب!

أبطال ثلاثة


كنت أرى في المازني قدراً كبيراً من براءة الطفولة, صحيح أنه هاجم أستاذه الشاعر الأديب عبدالرحمن شكري, واتهمه بالجنون, ووصفه بـ (صنم الألاعيب) ولكنه تاب عن هذه الاتهامات التي امتلأ بها كتاب (الديوان) وأعلن بصوته في المذياع وكتابة بأنه ما كتب ما كتب إلا طلباً للشهرة من أسرع أبوابها, واعترف لشكري بأنه كان يوجهه إلى المحجّة الواضحة, وأنه أخذ بيده وسدّد خطاه, (ولولا عونه لكان من المحتمل جداً أن أضل طريق الهدى).

وكان المازني من أبرع المترجمين, توقّف مرة أمام عبارة (I am hands eapped) فترجمها ترجمة بليغة إلى (غُلّت يدي), وكان قد اشترى لنفسه آلة كاتبة وعلّم نفسه استخدامها, فكان يضع النص الذي يُراد ترجمته إلى يمينه, ثم يدق على الآلة ترجمته للنص دون توقف, وبفضل هذه الآلة استطاع أن يلاحق مطابع الصحف اليومية التي كان يعمل بها, وهي لا تشبع مهما أطعمت من مقالات الكتاب.

وعندما صدرت جريدة (أخبار اليوم) كانت تطبع في طبعتين, إحداهما محلية تضم التلغرافات الخارجية في الصفحة الثانية, أما الطبعة الأخرى فهي خاصة بالبلاد العربية, ولهذا كانت الصفحة الثانية تُشغل بمقالات عن الشئون العربية, أبرز كتّابها المازني والدكتور محمود عزمي. ولا أظن أن مقالات المازني في هذه الطبعة العربية قد جمعت في أي كتاب, بل لم يتنبه إليها أحد من الباحثين.

أما البطل الثاني في قصة فاخرة هانم, فهو الأديب الصحفي طاهر الطناحي الذي لم يعمل منذ تخرجه في كلية دار العلوم, إلا في دار الهلال, وظلّ وفياً للدار إلى وفاته, وتولى الإشراف على مجلة (الهلال) مدة طويلة, ولكن صاحبي الدار ضنّا عليه بلقب (رئيس التحرير).

قابلت طاهر الطناحي للمرة الأولى عندما هاتفني الشاعر خليل مطران داعياً إياي لمقابلته في (النادي الشرقي) وهو ناد أقامه شوام مصر في وسط القاهرة في شارع سليمان باشا (طلعت حرب الآن) على ناصية شارع معروف مكان عمارة النصر الآن, وكنت تصادف في هذا النادي أعلام الشوام المشتغلين بالصحافة والأدب والصناعة والاقتصاد, وكان للشوام في ذلك الوقت منزلة كبيرة في مصر. وعندما دخلت النادي الشرقي, التقيت خليل مطران جالساً في الشمس يصطلي- وكنا في الشتاء- مادّاً ساقيه لتعريضهما للشمس, إذ كان على ضآلة حجم وضمور جسمه عاجزاً عن السير إلا وهو متكئ على ذراع آخر, وكان مع مطران شخص لم أعرفه, فقام بتقديمه إليّ, وإذا هو طاهر الطناحي الذي كنت أعجب بقدرته الفذة على الجمع بين الصحافة والأدب بأسلوب رفيع, بل لعلي كنت أول من اقتنى كتابه (على ضفاف دجلة والفرات) من فرط إعجابي به, ومنذ ذلك اللقاء العارض, جمعتنا مودّات وثيقة إلى أن لقي وجه ربّه.

وكان طاهر الطناحي يحبّ مداعبة الأدباء, فأنشأ لهم حديقة حيوان, واختار لكل منهم حيواناً أو طيراً يلائمه في الشكل أو في الصفات, واستعان برسّام ماهر لتصوير (سكان) هذه الحديقة من الأدباء, وأصدر كتابه الطريف (حديقة الأدباء), فلم يغضب منه نزلاء الحديقة من أمثال طه حسين والعقاد وأحمد أمين وأمير بقطر وعبدالرحمن صدقي وعزيز أباظة ومحمود تيمور وغيرهم.

وللطناحي فضل كبير في نشر رسائل الأدباء ومذكراتهم ومذكرات رجال السياسة أيضاً, وكان إلى جانب ذلك شاعراً خفيف الروح, حلو الملامح.

ودوره في قصة الآنسة فاخرة هو دور الملقّن الذي يختبئ وراء الستار ويلقّن الممثلين حواراتهم.

والبطل الثالث هو فتحي رضوان, وهو محام واسع الثقافة, كان له منذ بداياته طموحات سياسية واسعة, فانضم إلى جماعة مصر الفتاة برياسة أحمد حسين, وكان معه الصحفي حافظ محمود والصحفي محمد صبيح, وهي جماعة اشتهرت بمشروع القرش, إذ كانت مصر في ذلك الوقت تعتبر الطربوش الأحمر الغطاء الرسمي لجميع الرءوس ابتداء من الملك وإلى أصغر خادم في أي جهة حكومية, وكانت خامة الطربوش تُستورد من الخارج, من النمسا- إن لم تخني الذاكرة- فعزّ على جماعة مصر الفتاة أن تستورد شعار الوطنية من الخارج, وقررت بناء مصنع للطرابيش بالجهد الذاتي, وجرّدت حملة في طول البلاد وعرضها أطلق عليها اسم (مشروع القرش) تناشد كل مصري أن يتبرّع بقرش واحد في سبيل بناء مصنع الطرابيش تأكيداً للعزّة الوطنية, وقد نجحت هذه الحملة نجاحاً ساحقاً, وأنشئ فعلاً مصنع للطرابيش من حصيلة هذه القروش.

ولكن مطامح فتحي رضوان كانت أكبر من ذلك, فهجر جماعة مصر الفتاة وانضم إلى الحزب الوطني الذي أنشأه أصلاً مصطفى كامل باشا وخلفه في رياسته محمد فريد بك, ثم حافظ رمضان باشا, ولكن فتحي رضوان نازع رمضان باشا في رياسة الحزب, وانشق عليه, وأنشأ لنفسه حزباً وطنياً آخر لم يصب كثيراً من التوفيق, وعندما قامت الثورة, اختير وزيراً للإرشاد القومي, كنت آخذ عليه هذا التلوّن السياسي, ولهذا لم أحاول الاقتراب منه كثيراً منذ ما قابلته للمرة الأولى في منزل الشيخ المجاهد علي الغاياتي صاحب ديوان (وطنيتي) الثائر, وصاحب جريدة (منبر الشرق), وإلى أن قابلته للمرة الأخيرة في حفل أقامه, وهو وزير للإرشاد القومي في القاعة المذهّبة بقصر الأمير محمد علي- ولي عهد فاروق- بمناسبة صدور مجلة (المجلة) التي اختار لرياسة تحريرها العالم الجغرافي الكبير الدكتور محمد عوض محمد, وكان مديراً للجامعة ووزيراً سابقاً, وهذا اشترط ألاّ يكتب على المجلة بأنها صادرة عن أي جهة حكومية إيهاماً للقرّاء باستقلالها, ولكن الحال تغيّر بعد ذلك, فترك الدكتور عوض المجلة وخلفه الدكتور حسين فوزي ثم الدكتور علي الراعي ثم يحيى حقي ثم الدكتور عبدالقادر القط, وفي عهده توقفت عن الصدور.

انصرف فتحي رضوان بعد تركه الوزارة إلى الكتابة, فألّف طائفة غير قليلة من الكتب لعلّ أضخمها كتاب (عصر ورجال) وهو كتاب تناول فيه 12 شخصية من المشتغلين بالسياسة والأدب وضعهم جميعاً على مشرحته, وكان رأيه في معظمهم سلبياً.

وهناك بطل رابع لا يعرفه أحد اسمه عبدالحميد رضا وصفه فتحي رضوان بأن (منظره يوحي بأنه قادم من الريف, وأنه قليل الحظ من التعليم والثقافة حتى ليظن محدّثه ورائيه أنه لا يحسن من الكتابة سوى خط اسمه). ولكن هذا الرجل هو الذي أفشى أسرار الآنسة فاخرة لفتحي رضوان, فسجلها في كتابه المومأ إليه, وعنه ألخص هذه القصة المثيرة.

حبيبة وهمية


فقد أراد زيد من الناس, لعلّه طاهر الطناحي, أن يمزح مع المازني, فانتهز فرصة صدور مسرحيته (غريزة المرأة) التي اتهمه النقاد بسرقتها عن جولز ويرذي, وحمّل عبدالحميد رضا خطاباً إلى المازني بتوقيع (فاخرة) قالت فيه بعدما حيّته تحية القلوب الرفيعة إنها تبعث إليه من أعماق النفس بآيات الإعجاب بأدبه العالي وثقافته السامية, ثم رجت المازني أن يهديها بعض كتبه لتأنس بها في تربية ملكة الأدب الذي تتعشّقه.

تسلّم المازني هذه الرسالة, ثم بعث إليها مع تابعها ببعض كتبه مع رسالة وصف فيها أسلوب فاخرة بأنه من أرقى ما عرف من أساليب الرسائل النسوية, وقال (إنها أرقى من رسالتي هذه مثلاً).

وردّت فاخرة على رسالة المازني برسالة قالت فيها (أرجو أن يتيح لي حسن الحظ فرصة أشكرك فيها بلساني.. وخير الكلام ما خرج من القلب إلى القلب).

وعندما قرأت فاخرة رواية (غريزة المرأة) بعثت مع تابعها برسالة إلى المازني تشكره على هديته وتقول (معذرة, فإني لم أكتب من قبل لأحد من الرجال لا صلة لأسرتي به, وأنت أديب تحسّ هذا بطبعك).

ولما لاحظ المازني أن أسلوب فاخرة في رسائلها أعلى من مستوى الأساليب المعهودة في الفتيات, استفسر من عبدالحميد عن ثقافتها وعن ظروف حياتها, ومرّ به خاطر من الشك عبّر عنه في رسالة قائلاً: (أظن أنك حيّرتني إلى حدّ- لا تضحكي من فضلك- إلى حد أني بدأت أظن أن الذي يراسلني ليست آنسة ذكية القلب, نافذة البصيرة, بل هو شاب داهية يكاتبني باسم آنسة ليتفكّه بي, ويسخر مني), ثم علّل هذا الظن بقوله إنه كان (يعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أي حال من الأحوال أن يعجبها إبرهيم المازني).

وقال المازني في رسالة أخرى إنه اجتمع مرة على ظهر سفينة مع سيدة جميلة, فقال لها: (يا سيدتي, أنت جميلة, وحرام أن تُلقي بجمالك بين يدي حمار مثلي لا يعجبه إلاّ البرسيم), ثم سأل فاخرة (هل صحّ عزمك على أن تتفرجي على هذا الجاهل الغبيّ وتريه بعينيك? أم عدلت يا ترى? أرجو أن يكون عزمك مستمراً).

وعاد المازني يقول في رسالة جديدة (كانت لي أمنية أن أراك اليوم, ولكنك شئت غير ذلك, والأمر لك بالطبع, ولابد أن يجيء يوم تضيفين فيه فضلاً إلى أفضالك فلأنتظر فيض جودك وإحسانك, فإني أعلم أنه غمر كالبحر).

وختم رسالته بقوله (إجـلالي وحبّـي وأشـواقي لك يا فاخرة), ووضع إلى جانب اسمها أربع علامات X باعتبار أن كل علامة من هذه تساوي قبلة, وهو أمر يفعله صغار الشبّان في مطالع سني المراهقة, بحسب تعبير فتحي رضوان.

ويقول فتحي رضوان إن عبدالحميد- تابع فاخرة- انتهز فرصة خلو مكتب المازني في جريدة (السياسة الأسبوعية) منه, فأسرع ومعه صورة لامرأة جميلة ممّا يباع في المكتبات الأجنبية, ووضع هذه الصورة في ظرف مع خطاب قالت فيه فاخرة إنها جاءت لترى المازني منتهزة فرصة سمحت بها الظروف فلم تجده. ورجته بعد أن يتأمل صورتها أن يعيدها إليها مع التابع لأنها من أسرة محافظة لا تسمح لبناتها بإعطاء صورهن إلى غرباء.

جنون العشق والوهم


ويقول فتحي رضوان إن المازني جنّ جنونه عندما رأى أن حبيبته امرأة على قدر عظيم من الجمال, فوق ما كان يتصوّر وما ذهب إليه خياله, فبادر بكتابة رسالة أعطاها إلى عبدالحميد جاء فيها (يا فاخرة, يا فاخرة, إنك مسئولة عنّي, مسئولة أمام الله وأمام ضميرك وأمامي, عن مصيري وعن جنوني وعن التياعي وخبلي, لا عذر لك بعد أن أوقدت في صدري هذه النار, وأشعلتها حامية مزغردة, وأصعدت لهيبها إلى نافوخي, إلى شعر رأسي, لا عذر لك إذا أنت جنحت إلى الصدّ, وملت إلى إهمالي وإطّراحي, نعم, فقد صرتّ أحسّ بأن قلبي مزدحم بحبّك كما ازدحم رأسك بهذا الشعر الذهبي الساحر, فماذا تنوين أن تصنعـي بـي? لست أسألك إلا شيئاً من الرحمة, إلا الترفق بفؤاد مصدوع ومهجة مكلومة وكبد جريحة).

ثم وصف الانقلاب الذي حدث في حياته بقوله (من قسوة الحياة عليّ أني وأنا أكتب إليك, حضر إلى مكتبي (الدكتور محمد حسين) هيكل بك (محرر جريدة (السياسة الأسبوعية)) وجلس يشاطرني الشراب, ولابد أن أضحك وأمزح وأتكلم كلاماً فارغاً, وأمازح هذا, وألاطف ذاك, وأنكّت على السجن والنيابة التي ستحقق معي ومع دولة محمد محمود باشا غداً بعد الظهر, كل هذا وأنا أكتب إليك, فبالله كيف أكتب? ألست مسكيناً يا فاخرة? اعترفي أنني مسكين, وأني محتاج إليك, وأني معذور إذا جننت, سأحتفظ ببقية عقلي من أجلك).

وختم رسالته بقوله: (فاخرة, لقد اعترفت لك وكشفت عن قلبي, فهل تغفرين لي هذه الجرأة? سامحيني, فإن عقلي ليس معي, عقلي مع الصورة التي أعيدها إليك, وقلبي يتمزّق, أعيدها ولا أجرؤ حتى أن أتزوّد منها بنظرة, ولي رجاء صغير, أعيدي إليّ الصورة مع كل رسالة منك لأنظر فيها وأتزوّد منها ثم أعيدها إذا كنت لا تريدين أن تبقيها عندي.

آه, لو كانت غرفتي خالية, إذن لقبّلت الصورة, ولكنني أخشى أن أفسدها وأفسد ألوانها, فلابدّ من الحرمان, ولا مفرّ من الصبر).

واستكمالاً للمسرحية, دعا عبدالحميد المازني إلى السفر إلى الريف لزيارة فاخرة وأمها في قصرهما بناحية ميت غمر, وصدق المازني, وأشار عبدالحميد وهما في القطار إلى قصر تحيط به المروج, وزعم أنه هو قصر فاخرة ولكن دون دخوله خرط القتاد.

وكان لابد لهذه التمثيلية من خاتمة أليمة, إذ نقل عبدالحميد عن فاخرة أن والدتها ثارت عندما علمت أن ابنتها على اتصال بالمازني, وأن عبدالحميد هو رسولها المؤتمن إليه.

وقال للمازني: إن فاخرة تعرض عليه الزواج على أن يطلق زوجته أم أولاده, لأنه لا يليق بحفيدة مدحت باشا بطل الدستور العثماني أن تنشئ علاقة مع رجل خارج نطاق الزوجية!

وقع هذا العرض على المازني كالصاعقة المزلزلة. فكتب إلى فاخرة يقول (أقسم لك أن هذا الحديث قد أثّر في قلبي فأضعفه وسبّب له اضطراباً, أرجو أن تكون عاقبته سليمة, مجرد اقتراح التطليق كان وحده كافياً لذلك, وأولادي, مَن يشرف على تربيتهم? وقد قال تابعك ألا يمكن أن يوكل ذلك لأخيك? فثرت... أولادي ألقي بهم إلى أخي يربيهم وأنا على قيد الحياة أنعم بالحب والسعادة? أولادي (ألقّحهم) على الناس ولا أبالي كيف ينشأون, ولا كيف يبيتون ولا ماذا يطعمون, ولا كيف يعاملون? أيكون رجلاً جديراً بأي منزلة من منازل الاحترام والكرامة, مَن يُطلب منه مثل هذا?... وأعترف لك أن هذه الأحاديث (أحاديث الزوجة والأولاد) أزعجتني جداً, ومزّقت أعصابي, وأتلفت قلبي, ونبّهتني إلى مستقبل أولادي.

والحقيقة أنني قصّرت إلى الآن في حقهم, ولكن لن أقصّر بعد اليوم, سآكل عيشاً وملحاً, وأحمد الله عليهما, وأدّخر لهؤلاء الأطفال المساكين الذين ليس لهم بعد الله سواي).

وختم رسالته الأخيرة إلى فاخرة قائلاً:


(ثم إنك شابة في العشرين من عمرك وأنا كهل في الحادية والأربعين وبضعة أشهر أيضاً, أي أن عمري ضعف عمرك, أفليس من واجبي حين أحدّث نفسي أن أتساءل عن مبلغ استحقاقي لحبّك, وعن التبعات التي أحملها بإزاء نفسي وبإزائك يا فاخرة, وبإزاء أولادي وزوجتي? فكّري معي في هذا, ولا تسأليني عمّا أعني, فإن ما أعنيه واضح, وأنا يا فاخرة لست حيواناً, معذرة, أنا إنسان يحسّ ويدرك ويتألم ويستعذب الألم مادام يسعد غيره, نفسي لا تهمّني, إنمّا يهمني أن تقابليني لنتكلم بطريقة جدّية, ولنتفاهم.

ولكن هكذا الدنيا... المثقل بالهموم يحطّ عليه الدهر كل ما يستطيع أن يحطّ عليه, لا بأس, فقد تعوّدت أن تحط الأيام على كاهلي ما شاءت, لقد خلقني الله منحوساً سيئ الحظ, فلأبق منحوساً سيئ الحظ).

الرسالة الأخيرة


خرج عبدالحميد من مكتب المازني حاملاً معه هذه الرسالة الأخيرة ليقدّمها إلى الشخصية الموهومة التي اخترعوها, شخصية الآنسة فاخرة, فهذه المسرحية المسبوكة لم تعد أن تكون (مقلباً) تورّط فيه المازني بحسن نية وسلامة طوية, وقد وصفه بعد ذلك في مقال له عنوانه (فاتح الأقفال) كان ممّا جاء فيه قوله:

(أعني أقفال النفوس لا أقفال الحديد, وعلى كل نفس قفلها, وفي كل نفس زاوية محجوبة عن العيون, وقد خُلق هذا الرجل فاتح الأقفال شغوفاً باستطلاع الخفايا وكشف المحجوب, وكّلنا ذلك الرجل, ولكن كل له أسلوبه الخاص وطريقته التي ينفرد بها دون خلق الله جميعاً, وليس مما يعنيه أن يقف على سرّ لك تكبحه, أو أن يستدرجك إلى البوح به, ثم يذهب يستغلّ هذا الذي عرف من مكتوم أمرك كما يفعل البعض, ويشتري مفكرة الصون والكتمان بالثمن الذي يفرضه في كلامه. فما أعرف أنه من هذا الطراز, وإنما همّه أن يدرس نفسك, ويعرف كيف تكون استجابتها للدواعي, وتلقّيها لما تجيء به الحياة, ويعرض لها من الأحوال, وهو يخلق حولك الجوّ الذي يريده, ويطلق عليك أصوات الهواتف ثم يقف ينظر ماذا يكون منك. ولايزال ينتقل بك من فصل إلى فصل, ويحاورك ويداورك, وتسايره أنت مرغماً جادّاً, ولا أحتاج أن أقول إن له ذكاء نادراً, وخيالاً خصباً, وذاكرة قوية, ولقد عاشرته شهوراً طويلة كانت أحفل أوقات حياتي ببواعث الدهشة وأوفرها محصولاً وأنضجها ثمرة.

وطريقته التي لا يكاد يلحقها التغيير أنه يجيئك برسالة من سيدة لا وجود لها إلا في خياله, ولا حياة لها, ولا تاريخ إلاّ ما يخترع هو, فتردّ عليه شاكراً أو معتذراً أو غير ذلك, وأنت في الحالين معجب بأسلوب الرسالة, وما يدلّ عليه ويشي به, ثم ما أسرع ما تجد نفسك متورّطاً في رسائل متبادلة بينك وبين هذه السيدة أو الفتاة الخيالية, وقد فعل معي ذلك).

لقد أدرك المازني, ولكن بعد فوات الأوان, أن فاخرة خرافة كبرى, ولعلّهم اشتقوا اسمها من هذه الخرافة.
[SIZE=3]


وديع فلسطين مجلة العربي سبتمبر 1999[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى