محمد عز الدين التازي - جرنيكا.. قصة قصيرة

1- أنا وهي

أنا الدكتور علي بن إدريس, اختصاصي في أمراض وجراحة الأنف والأذن والحنجرة, الوجه والعنق, وزوجتي سعاد الداودي أستاذة في كلية العلوم, تخصص بيولوجيا.

زوجان كباقي الأزواج, أنجبنا ثلاثة أبناء هم عصام وسعد وربيع.

نرتب شئون مداخيل وتصريف مال العائلة, وتربية الأولاد وتعليمهم, نسافر في أوقات العطل, نستضيف أفراد العائلة والأصدقاء ونفرح بالأعياد والمناسبات. نتخاصم في بعض الأحيان ولا نحتفظ في قلبينا بالأحقاد والذكريات السيئة, لا نخون بعضنا, بل أنا أجزم بأنني لم أخن سعاد ولو مرة واحدة, ولي ثقة في تصرفاتها مع الرجال, وخاصة مع زملائها في التدريس في الجامعة. وأنا وهي كباقي عباد الله نمرض ونتأرق ونغضب ويصيبنا الإرهاق بسبب العمل, ولكننا نتغلب على كل ذلك, بحبنا للحياة, وحبنا لأولادنا, أكبادنا التي تمشي على الأرض.

2- مشيًا على الأقدام

كنا أنا وسعاد قد نهضنا في الصباح الباكر, وكنت قد أعددت لنفسي قهوة احتسيتها على مهل, واستعجلت سعاد للخروج, فهي ستقدم درسًا في الثامنة للطلبة, وأنا ليس لي عمليات جراحية في هذا الصباح, ولن أذهب إلى العيادة إلا في العاشرة والنصف.

قررنا ألا نستعمل السيارة في هذا اليوم, فالأولاد تبارك الله صار لهم شأنهم في الذهاب إلى مدارسهم أو جامعاتهم, وأنا وسعاد بدأنا نتحرر, فصرنا نفتعل بعض المغامرات, ومنها هذه التي أقدمنا عليها في هذا الصباح, وهي ألا نستعمل السيارة, وأن نذهب إلى أماكن عملنا على الأقدام.

3- مع المفطرين

جلسنا داخل المقهى, ولما جاء النادل طلبنا منه قهوة وعصير برتقال.

هو الصباح ,ولكننا تعودنا ألا نتناول وجبة الإفطار, فأنا أنصح الزبائن, وخاصة المدخنين منهم بأن يقلعوا عن التدخين, وأن يكفوا عن تناول القهوة والمنبهات, ألقي عليهم عروضًا أكون قد حفظتها ومن غير أن أراهم ثانية لا أعرف هل تمثلوا لنصائحي وفعلوا بها أم أن كل خطابي قد صار في خبر كان, وحتى وإن كان فقد تقاضيت, والعيادة رائجة والحمدلله.

لكني تعودت ألا أفطر كما تعودت على تدخين ثلاث سجائر في الصباح مع احتساء قهوتي. وأما سعاد فمزاجها يصبح عكرًا, وهي تشعر بالتخمة بسبب عشائها المتأخر حتى أنني وقد نصحتها بأن تتناول عشاءها في السابعة, وألا تستسلم لشهية الطعام وهي تشارك الأولاد في عشائهم, فهم شبان يبنون أجسادهم, أما أنا وهي فكهلان نعيش على القليل النافع لا على الكثير الذي قليله ضار فما بالك بكثيره!

رشفت من قهوتي, وجلسنا صامتين, مشرئبين بنظراتنا نحو ما يحدث حوالينا في بعض الموائد, نرقب حركات المفطرين, والنادل يجول بين الموائد, يوزع كئوس الشاي والحليب وأنواع العصير وصحونًا بها خبز محمص أو رغيف أو حرشة وشيء من الجبن والمربى والزبدة. وكان بعض المفطرين يحنون رءوسهم على موائد الفطور, يلتهمون الطعام بشهية وحركات بعض الوجوه تتغير من سرعة المضغ, كما تتغير نظرات العيون مع حركات الرشف من أكواب القهوة بالحليب أو إفراغ ما في كوب العصير في الجوف دفعة واحدة. مع طلب للماء, أو مزيد من السكر, أو إرجاع بعض الطلبات التي لم يرض عن تحضيرها أصحابها.

رشفت من قهوتي, وقالت لي سعاد تعال نذهب, لكني أشعلت سيجارة وقلت لها إنني سأتمهل في رشف القهوة مع هذه السيجارة, فلتنتظر.

4- حرب على شاشة التلفزيون

جاء عامل المقهى فشغّل جهاز التلفزيون الكبير الذي كان يملأ ربع إحدى الحيطان, وفور أن ظهرت الصور, رأينا مدينة تحترق, ودخانًا في الشوارع, ودبابات, وقطرات دم على الأرض وكأنها الأرض هي التي تنزف, ووجوه أطفال مذعورين, وجثث نساء وبقايا أشلاء مدماة, لم ندر, أهي مذبحة, أم غارة من الغارات, أم أنه غزو وحشي للأرض والسماء, واستباحة للدم أينما كان ومع من كان وضد من كان فهو في كل ذلك مستباح.

ومع بث تلك الصور, كان المذياع يعلق عليها, فلم نشغل أنفسنا أنا وسعاد بالمكان, فهي أماكن, ظلت الصور الدموية وصور الأشلاء وخرائب البنايات تجمع بينها.

نظرت إلى وجه سعاد فرأيته منقبضًا ولما تخلصت منه لأنظر نحو ما حولي فقد وجدت المفطرين يرفعون نظراتهم نحو الشاشة ثم يخفضونها على صحون الطعام, ليتناولوا منها بما يملأ الفم وبمضغ أهوج, وظلوا يترددون بين النظر إلى الشاشة, وبين النظر إلى ما في صحون إفطارهم.

5 - سعاد تتقيأ

كادت سعاد تحمل كوب العصير إلى فمها, لكنها تراجعت, وتغيرت ملامح وجهها, فطلبت مني أن أرافقها إلى مكان النظافة, وقبل أن نصل إليه, انحنت وقاءت قيئًا أبيض على الأرض, وبدت عيناها غائبتي النظرات, وعرق ينز من جبينها, وهي تمسك بي فكأن ركبتيها لم تعودا قادرتين على حملها.

أراحت جسدها إلى كرسي قريب, ففتحت عينيها ونظرت نحو الصور التي كان يبثها جهاز التلفزيون, فكانت ثمة غارات للطيران تحفر الأرض بعشرين مترًا كما قال المذيع, وهي أم القنابل كما سماها, تدك الجبال دكًا, وتخسف بالعمارات, والدخان يتصاعد, والأرض تحترق, والجثث تتناثر هنا وهناك, والأشجار محروقة والعظام البشرية مفحمة وبقايا دم على الأرض والجدران ومداخل البيوت, كما بقع الدم على مقاعد السيارة أو على مكاتب إدارية, أو قد لطخت أوراق جريدة كان يحملها سائر في الطريق فأصيبت يده وتلطخت أوراق الجريدة بالدم.

أخذت سعاد إلى المغسلة فساعدتها على غسل وجهها, ثم أمسكتها من ذراعها وأجلستها على كرسي. فكرت في أن أطلب سيارة تاكسي لأعيدها إلى البيت, أعتذر بالهاتف عن إلقائها في هذا الصباح, لكنها ألحت على أن تقاوم تعبها العابر, وأن يمضي برنامج الصباح كما كان مقررًا.

6- الطائر المسافر

في الطريق إلى الكلية, لم نتبادل كلمة واحدة, وكنت أتطلع إلى ملامح وجهها من حين لآخر, فأرى مظاهر القلق تستولي عليها. وحسبتها تريد ألا أكلمها في شيء في هذه اللحظات, ولذلك احترمت صمتها, ومشينا وأنا أرى مشاهد البنايات المحروقة, والصدور التي يتفجّر منها الدم بعد أن اخترقها الرصاص والكاميرات ترصدها, وكأنها كانت موجودة هنا في انتظار أن يتفجّر ذلك الدم, وحركات الهروب, والصراخ, والطير الطائر في سماء الله وهو هارب من الدخان والحرائق, فأحببت أن أسافر مع ذلك الطائر, حتى وهو يظهر لي الآن في خيالي وأنا ماض في الطريق على شاشة التلفزيون التي تمثل أمامي, أراه وهو يسقط بعد أن احترق أحد جناحيه, ولم يعد يقوى على الطيران بجناح واحد, فأنا لست طائرًا وليس لي جناح, ولكني لا أحب رائحة الشياط, وخاصة إذا كانت للحم آدمي, أو للحم طائر يطير في سماء الله الواسعة ونار الأعداء تحرق منه الجناح, ومادام العالم قد صار هكذا على فوهة بركان, فما علينا إلا أن نكفّ عن الرؤية, أو أن نغلق جهاز التلفزيون حتى حين, أو إلى الأبد, أو أن نلجأ إلى حصن حصين أو معقل من المعاقل لا تصله صور الحرب هذه, ولا نرى فيه انحناءات على موائد تلك الأطعمة, يبدو آكلوها وكأنهم ذاهبون للحرب, أو يستعدون لها باختزان الطعام في معداتهم, ولا أحد منهم يرفع بصره نحو الشاشة الكبيرة, ليرى ما يحدث من خراب في العالم.

7- حديث عن سعاد

وأما الدم, فقد ألفنا منظره في أوقات الغداء والعشاء, ونحن نجلس للطعام مع أبنائنا, والصور تتدفق أمامنا من جهاز التلفزيون, مرة نظرت سعاد إلى الشاشة وهي تمضغ لقمة من الطعام, وفجأة جحظت عيناها وبدا الروع على وجهها, فنهضت نحو الحمام ولكنها في الطريق قاءت طعامها دفعة واحدة, وبقينا نقف بجوارها وهي تبحلق فينا بعينين دامعتين, وولدنا الأكبر يغسل وجهها في الحنفية, وولدنا الأصغر يتطلع إلي بنظرات خائفة, عرفت أنه خائف على أمه لا على ما رأته أمه على شاشة التلفزيون, ثم وجدت أنني مخطئ في ذلك.

8- حديث آخر عن ولدنا ربيع,

الولد بعد يومين بدأ يرسم رسومًا للصواريخ, والعمارات المهدومة وبقايا من نوافذها يخرج منها الدخان, كما بدأ يرسم أناسًا مضرجين بالدماء, وأشلاؤهم مبعثرة, وجماجمهم مهشمة, ومدنا خالية من البشر, وطرقًا كأنها تؤدي للجحيم, وأبوابًا موصدة, وزوابع أشكالاً وألوانًا كنت أسأله عنها, فيقول إنها انفجارات, وعندما قرر خاله أن يحتفل بزواجه, توشحت زوجتي بوشاح أخضر, قالت إنه رمز لأمل باق في الحياة, وأما هو فقد فضّل البقاء معي في البيت, ليرسم أعظم لوحة في حياته كما قال.

9- لا أحد يحب التبشير بالخراب

وأنا لست مبشرًا بالخراب. حلمي أن يتوظف ولدي الأكبر, وأن ينجح ولدي الأوسط في شهادته الجامعية العليا. وحلمي أن يظل ولدي الأصغر, باقيًا معي, في استعادة طفولتي معه, سواء في الحكايات, أو في تحرر ما أقدر عليه مما هو أنا, من أنا, لكي أخل في أوضاعه وهو لا يرى في العالم يبشر ببشائر أو بوفاق بين البشر.

هل العالم هكذا, نحياه بمبالغات في الأحلام والأوهام, وفي شاشات التلفزيون, أم أن العالم هو شيء آخر, شأن آخر, علينا أن نحياه بحياة أخرى نصنعها في الأوهام والأحلام?

مناظر القبور الجماعية التي تم اكتشافها هنا وهناك, في الشرق أو في الغرب, غمسنا الخبز في مرق صحون الطعام التي على موائد الغداء والعشاء, ونحن ناظرون إليها وإلى مناظر الجماجم وعظام الأجداث.

وأما مناظر القناصة, والقتل, وصيد بني آدم في البيوت وشوارع المدن, كما تصاد الحيوانات الضارية في البراري. فقد أصبح كل ذلك منظرًا من مناظر الرؤية التي يقربها لنا التلفزيون, في الأكل والشراب, لأوقات الغداء والعشاء, والسهر, وحيث لا أخبار إلا ما جاءت به تلك المناظر.

وبالفعل, فقلوبنا وقلوب أبنائنا قد صارت من حجر, وهناك مَن قال, الأمر يجب أن يكون هكذا, فأبناؤنا هم أبناء مستقبل لا يعرف أحد كيف سيكون, وعليهم أن يتعودوا على مناظر الدم والجماجم والقبور الجماعية.

10- علي وسعاد يتحولان إلى طيور وأسماك وحيوانات برية

علينا أن نختار, ربما تكون الفرصة مناسبة لكي نغير من أوضاعنا المأساوية, لنقترب من عالم يبدأ, ويتغير, وحبذا لو تحولنا إلى طيور أو أسماك أو حيوانات تسرح فيما تبقى من الغابات في خرائط العالم.

يمكن لنا الآن أنا وسعاد أن نتصور البيات الشتوي للسلاحف, فأي سباق يمكن أن تخوضه السلحفاة وهي في بياتها الشتوي? ولماذا نتسابق ومع من? أليس علينا أن نحيا في أمان, وأن نبحث عن هذا الأمان?

الحلزون, يتعلق بأشجار الطلح عامًا أو ما يقارب العام في انتظار مطرة أولى تبشر بالماء, فيهب نازلاً وماضيًا نحو ما بدأ يخضر من الأرض, ثم في زمن القحولة تجده يصوم عن كل شيء, وحتى قرون استشعاره تختفي في القوقعة, وحتى عيونه تصير غير رائية, مستعدًا بذلك لأن تهب عليه زخات من مطر فيستعيد حياته من جديد.

سوف أقنع سعاد, بأن تتحول إلى طيور أو أسماك أو حيوانات برية.

11- آخر الممكنات

يظل بإمكاني أن أبكي, وأنا أستحضر اللحظات الرومانسية التي تعانقني فيها سعاد وأنا وهي نتوله في بعضنا بالنظر واللمس والاقتراب الدافئ الحميم.

وبإمكاني وهي ترى في مضاجعاتنا مضاجعات فوق الجثث والقبور أن أرى البحر والشجر والسماء وزخات المطر وحيتان القيعان البحرية, واللؤلؤ والمرجان, والربيع والخريف, والأعراس والأغاني ودموع الفرح والصبايا والجزر والخلجان والتفاح والبرتقال.

وما الذي سوف يتغير لو حلمت بالملائكة أو دخلت في الماء سابحًا حتى مالا نهاية للماء?

هناك ممكن آخر من أواخر الممكنات, وهو الضحك, فلأضحك مع زبائني في العيادة, لأضحك حتى لآخر الضحك, فالضحك لا يكلف الإنسان شيئًا سوى أن تكون له رغبة في الضحك, وسأدعو سعاد لأن تضحك مع طلبتها, وأن تجعلهم يضحكون, حتى تنقل عدوى الضحك إلى كل الناس.

ولكن كيف نضحك من غير أن نتكلف الضحك, فنبدو سخفاء تافهين, نضحك من أجل الضحك?

كيف يحترمنا الآخرون ونحن نضحك, ليصير الضحك قضية, ومبدأ في الدفاع عن حقنا في الحياة?

لعنة الله على من قتل فينا الرغبة في الضحك والإضحاك, وما الإنسان سوى حيوان ضاحك, ولهذا كنا قبل هذا الزمان, زمان المشاهد المرعبة في الصباح والمساء, نحكي النكات ونضحك لها حتى ونحن نسير وراء جنازة, وإن لامنا أحد نقول له:

- الحي أبقى من الميت, ولا بقاء إلا بالضحك. كا..كا..كا..

اضحكي معي يا سعاد, اضحك أنت قبل أن يصير العالم إلى زوال, هاهم يضحكون, ضحكات في التلفزيون, وأخرى في المقهى, وضحكات وافدة من الشارع.

المدينة تضحك وضحكاتها مسموعة في كل المدن.

اضحك.

هأنا أضحك.

اسمع ضحك المدينة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى