حسن اللمعي - موسم صيد الدقنوش.. قصة قصيرة

مدرستي الإعدادية تقع في مواجهة سور المدافن مباشرة ولأن فصلي في الدور الثاني ومقعدي الي جوار الشباك المطل عليها فأنا دائما ما أشاهد طوابير الجنازات التي تتوالي طوال النهار وأتتبع طقوس الدفن وكدت أحفظها لكثرة ماشاهدتها بكل تفاصيلها لدرجة أنني في هذه السن الصغيرة أصبحت لا أخشي منظر الموتي ولا المقابر.. كثيرا ماينهرني المدرسون بسبب عدم انتباهي لما يشرحونه لنا من دروس لانشغالي الدائم بمراقبة كل ما يحدث داخل هذا المكان العجيب. نحن في منتصف نوفمبر وهو موسم صيد طائر (الدقنوش) تعودت مع زميلي الحميم (جلال) والذي يشاركني نفس المقعد في الفصل علي أن ندخل خلسة الي هناك بعد انتهاء الدراسة من كل يوم خميس و بعد صلاة العصر حيث يكون حارس المدافن قد أغلق الباب الرئيسي وغادر. هذا هو الوقت المناسب لاصطياده والذي يكون فيه قد عاد الي أعشاشه وحطّ فوق شجرة السنط العتيقة القائمة وسط مدفن عائلة (الحاج خليل) الواسع. نستمتع معا بذبح ما حصدناه والعودة الي بيوتنا بعد أن نقتسم معا حصيلة الصيد. هو طائر يشبه العصفور لكنه أكبر حجما وريشه ملون بألوان عديدة ومبهجة وطعم لحمه في غاية العذوبة لكن المرء منا يحتاج الي أن يأكل عددا كبيرا منه ليشبع لذلك فإننا نقضي وقتا طويلا بالداخل حتي نحصل علي عدد يكفينا معا. ندلف الي الطريق الداخلي من فتحة في السور التي صنعها بائعو الحقن المخدرة وكل أنواع الممنوعات والتي يسلمونها لمن يشتري عبر هذه الفتحة بعد ان يتسلموا ثمن بضاعتهم غير منقوص. موعد عملهم لم يحن بعد.. هم لايعملون إلا في الظلام الدامس.. المكان يسيطر عليه سكون طاغ إلا من زقزقة عصافير تطير هنا أو هنا. يجب أن نمر عبر شارع (أبومنشة) وهو طريق ضيق ملتو كثعبان ويشعرك برهبة لأن هناك من أشاع أن روح أحد الموتي تخرج أحيانا من قبرها وتطارد من يسير وهي ممسكة بالمنشة في يدها محاولة قتله.. نحن لم نشاهدها أبدا طيلة سنتين منذ مجيئنا أول مرة. عندما وصلنا عند المدفن تسلقنا السور المنخفض ووضعنا حقائبنا أسفله وبدأنا في إعداد الطعم وهو عبارة عن عيدان من الخشب نضع علي كل عود منها كمية من (المخّيط) وهو سائل ذو قوام سميك ولزج وبمجرد أن يحط عليه الطائر يلتصق فلا يستطيع الفرار.. نأتي نحن لنمسكه ونذبحه فورا بواسطة أكبر ريشة في جناحه ونضعه في كيس من القماش المعد لذلك. أتممنا المهمة بنجاح معتاد ووزعنا القطع الخشبية في أماكن مختلفة من الشجرة وصعدنا لأعلاها لنختبئ في سكون ننتظر قدوم أسراب الطيور التي لاتحط إلا علي هذه الشجرة فقط. ننظر إلي بعضنا في قلق وترقّب وكلانا يحلم بوليمة الليلة فأنا شخصيا سوف أذهب بها لأمي والتي ستصنع لنا طبقا ممتلئا من اللحم وإلي جواره طبق آخر من الأرز المرشوش عليه الكثير من الصلصة الحرّيفة حتي تكتمل لذّتنا بما نأكل وسوف يسعد أبي بما جلبته له ووفرت عليه تكاليف عشائنا ولو لليلة. فجأة سمعنا جلبة قادمة نحونا وخطوات عديدة تقترب منا.. لم نتحرك ولذنا بصمت يشبه صمت القبور أمامنا. (ضاحي) التربي ومعه مجموعة من الشباب يبدو أنهم من الطلبة الكبار السن يمشون وراءه وأحدهم يساومه علي ثمن شيء ما.. لاحظنا أنه وافق أخيرا وتوقف عند أحد القبور وبدأ في إعمال فأسه ليفتحه وينزل الي أسفل وبعد فترة ليست بالقليلة ينادي علي أي منهم ليتلقف ما أخرجه وكانت جثة ملفوفة في القماش الأبيض كما لو أنها دفنت بالأمس فقط. خرج واستلم مبلغا من المال ظل يعدّه لفترة والشباب يبتسم فرحا بما حصلوا عليه.. بدأت أسراب طائرنا تهل علينا وكلما حاولت الهبوط تشتتها الجلبة التي يصنعها الرجل وزبائنه فتهرب وترتفع مرة اخري لتلف وتدور في السماء قريبا منا الي أن بدأ الجمع يعود بالجثة من حيث أتوا وأمامهم التربي يدلّهم علي طريق خروج آمن بما يحملون.. ننظر نحن الي السماء نستطلع أحوال صيدنا خصوصا والليل بدأ يرخي سدوله علي المكان فأصبح أكثر وحشة ورهبة ولاحظنا أنه كلما تقترب الطيور من الشجرة تهرب الي أعلي مرة أخري.. عندما تطلعنا لأعلي وجدنا غرابين أسودين بدآ في النعيق الصادم لنا وحاولنا أن نبعدهما عن المكان بجذع طويل من الشجرة قطعناه ولوحت أنا به لهما فابتعدا ليحطّا معا علي أحد أعواد الخشب المخلوط بالمخّيط.. فوجئنا بما حدث لهما وبدآ في الصراخ وفي تحريك أجنحتهما بشدة في محاولة يائسة للهروب بلا جدوي.. أسقط في أيدينا عندما رأينا طيورنا تطير هاربة بعيدا في فزع وتتجه الي المجهول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى