سعيدة عفيف - التّمدّد المشتهى

"لا يزال الليل ليلاً أكثر من اللازم"
فرانز كافكا

أكان يلزمني أن أنتظر أمدا غير وجيز من زمني، كي أدرك كل ما تكور على نفسه برؤية مغايرة؟ أكان يجب أن يُهدر العمر في غيابات الوهم؟ أم أن هذا الوهم سنا يضيء لما كان من خطوات حابية في دروب العتمة؟
أسئلة ليس من العبث أن نتركها لنفسها، بل كل العبث الّنبشُ في ثناياها. والوقت الذي مر ليس بالهين، وليس بالوقت الذي يمر دون أن تحس بنصله يوغل ويتحكم بكاسح مواجعك؛ إن بقي فهو مُقلّبٌ مرعب في غور جرحك، وإن سُلَّ تركك جثة من غير حراك...
لن أجني شيئا من المناوءة. ما كان كان.. ولا يجدي التَّسَمُّر بنفس المكان، لإعادة النظر في ما كان.. ولنزعم تخمين ما قد يكون.
يدور بي المكان، وأفكار عرجاء تخايلني. لكن الأرض من حولي تتمدد الآن في إغراء، كأفعى تنسى إلى حين همّ الدوران حول نفسها وعادة الالتواء والانكماش. تستعرض عضلاتها في منطقة الدفء والاشتهاء، لتقول لي، حان وقت تمددك وامتدادك فاستعدي ولا تدوري على نفسك بعد.
أراها تتمدد باسطة أغصان شوقها المورقة، ساعية إلى الانفلات من لحظة ارتواء موهوم، هاربة بزحف حثيث غير مرئي إلى ملكوتها، حيث تُحقق الشوق وحيث تكون.
أطمئن لهذا المنطق الذي تستقبله حواسي، ويستسيغه وجودي المتمطط فأتمدد..
تتحول جلستي إلى تمدد على الكنبة.
أترك الكتاب كما كان مفتوحا، وأضعه على وجهي..
ثم أستسلم لتمددي المشتهى ولغفوة..
عندما قصدت مكتب رئيس المؤسسة، بشأن عمل قد اتفقنا على إنجاز جزء منه، لم يمانع في استقبالي على وجه السرعة، أزاح نظارته قليلا إلى الأسفل. ورمقني بنظرة مسرعة. رحب بكلمة وأوحى لي بالجلوس. لكن عندما أخذت في إبداء رأيي في الموضوع، أخذ آلة التحكم من أمامه، وجهها صوبي، وضغط على زر فتوقف كلامي عن غير إرادة مني. حاولت التفوه بشيء، لكن من غير جدوى.. مندهشة، يكاد صقيع مشلّ يعتري كل أفكاري وتوجساتي. بقيت جالسة، بينما هو استمر في التفرس بأوراق وجذاذات على مكتبه. وبين الفينة والأخرى، يميل بوجهه يسارا، ليلقي نظرة متفحصة على الحاسوب، بعد استعمال آلته الغريبة.
اِرتأيت أن أنتظر قليلا عله ينهي ما هو منشغل به. وأن أستعطي الزمن أناة تهدئ من روعي، فقد عيل صبر انتظاري...
أخرجت من حقيبة يدي كتابا لميلان كونديرا، وشرعت في قراءة فصل من الفصول المتبقية من رواية "المزحة".. لحسن حظي أنني وجدت ما أركن إليه، لأخفي ما أثيرَ في أعماقي من أحاسيس غريبة تجاه ما يحدث. وقد يكون ضربا من العبث أنَّ ما أمر به ويمر بي لن يعدو كونه مجرد مزحة ليس غير.
بقيت جالسة تتنازعني مشاعر متضاربة، من ألم وقرف وملل ويأس وخوف، لكن في خيالي يجثم التمدد مُرخيا أجنحته على روحي..
حاولت أن أنخدع باستسلامي للقراءة، وأن أقوم بإظهار ذلك عن قصد. لكن، حينما كان يتهيأ لي أن أُزيغ بصري عن الكتاب، تثب عيناي بلمح خاطف وبشكل عفوي من غير أن أسمح لهما باستقرار على وجهه. ولشد ما يعظم اندهاشي، حينما أرى وجهه يتقمص صفات وجه حيواني ..فمن تيس إلى حرباء ثم إلى ثعبان.. ومن كل تحول إلى آخر يعود إلى شكله المعتاد.
لم أدرِ كم من الوقت مر علي بوضع لا أحسد عليه. فقدت خلاله كل تركيز وأحسست بالعرق يتصبب في مجموع جسدي. وبرعشات كهربائية تخترقني، وتجعلني أقل تحكما بأطرافي، بل وأكثر من ذلك، تهيأ لي أن نتوءا أو وخزا من هنا وهناك تحت جلدي، يدفع بشدة للخروج إلى السطح. وكأنني أتعرض لتأثير قوي لا أعرف كيف أرده عني. وكأنني سأتحول بدوري إلى كل تلك الوجوه، أو إلى مسخ آخر أجهله.
وأهجس لنفسي، هل هذه الغرفة مشحونة بمغناطيس شيطاني ما، أو بلعنة غادرة؟ خشيت للحظة أن يساورني الشك في سبب مقنع ساقني إلى هذا الموقف. وفيما أنا تائهة في يم الدهشة والاستغراب، كنت أصدر بين الفينة والأخرى، حركات خفيفة من يدي، كلما طاوعتني، عله ينتبه لوجودي، ويوقف بآلته الجشعة هذا التحكم اللاإنساني في كلماتي التي جئت لأقولها وأمضي.. لكنه يستبقيني أكثر لتشتد حيرتي، بينما هو مستغرق تماما كنهر يجري لا تعوقه الحواجز، مما زاد ارتباكي وتوجسي.
كيف يغير وجهه البشري إلى وجه حيوانيّ؟ وكيف يتغير بسهولة عجيبة؟ خلت أنني أمام شريط صور التقطتها عدسة كاميرا في أزمنة متباينة، أم ترى أن هذا ما صارت عليه كل الوجوه الآن؟
اِنصرفت يداي بتلقائية لملامسة وجهي، تحسسته برفق ملء راحتيّ، وإن كنت لا أزال على وجهي أم على مسخ طارئ.
فجأة رفع عينيه إلي وقال، مخفيا كل تلك الوجوه التي تخونه حينما تظهر لي في غفلة منه:
- هل أنجزت فكرتك عن المخطط التنموي للدورة القادمة؟
بقيت ساهمة لا يفتر صوتي عن شيء، بدت له تشنجات وجهي، وحركاتي كدمية مشحونة من غير صوت؛ فتذكر أن عليه أن يفك عقدة لساني بآلته العجيبة. أخذها وهو يمضغ كلاما كي لا أتبين خباياه العجيبة. ووجّهها نحوي كما في المرة السابقة. تلعثمت عباراتي أولا، كأنني أتهجى حروفا مستعصية على النطق، ثم شيئا فشيئا، وجدت نبرتي طريقا لإيضاح ما جئت لأجله.
لم أدر كيف تحدثنا لوقت وجيز. ولا كيف شرحت فكرتي، وسجلت اقتراحاته، إذ إن نبضي كان يتصارع معي، يرجني حد الاختناق؛ ولا كيف وجدتني واقفة أودعه. أخذ آلته متعددة الاستعمالات على ما يبدو، وصوبها نحو الباب فانفتح.. أغلقت ملفي دون ترتيب محتوياته، وخرجت بسرعة. لحسن حظي لم تخنّي ساقاي في الهروب خارجا، قبل أن يُقفل عليهما الباب بطريقة آلية.
حاولت أن ألفظ من رئتي بقايا أوكسجين غريب يكاد يخنقني.. عانقت الهواء الذي افتقدته لحين من الزمن، وتنفست الصعداء.. ثم انحشرت في زحام الناس، أتطلع إلى الوجوه وأنا أتساءل: هل ما رأيته كان واقعا أم محض تخيلات وهذيان؟
سرت في الطريق على غير هدى، لا ألوي على شيء، مدفوعة بخطواتي.. تعبت قدماي.. ورغبتي في التمدد تزداد إلحاحا.. فكرت بالرجوع إلى البيت.
أخيرا وصلت، دخلت مرعوبة كهاربة من كابوس يقتفي آثارها ليفتك بها، أغلقت الباب بسرعة، رميت حقيبة يدي على أقرب شيء وجدته أمامي. خطوت إلى الداخل، فإذا بي أجدني متمددة على الكنبة، وكتاب مفتوح على وجهي.. مستسلمة لتمددي المشتهى ولغفوة..


سعيدة عفيف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى