جمالات عبد اللطيف - مساء الألوان المبهجة.. قصة قصيرة

في كراسة أحلامك تكتس السماء بأي حلة تختارها أنت لها.

وإذا ضخوا الحبر الأسود فوق الوانك المبهجة فلا تبتئس ولا تقلب الشفاه، ففي دفتر أحلامك دائما هناك صفحات وصفحات ناصعة البياض مهيأة دائما لاستقبال الألوان المحببة إليك: التوقيع (بنت صغيرة).

* ويومها لم أنم طوال الليل لم أنم ، جعلت أحدق في السماء أستجديها أن تبقي علي أمي..

الآم المخاض تجعل من صرخاتها طيورا جارحة تنهش بمناقيرها قلبي وأعصابي، وكلما هبطت درجات السلم لأطمئن عليها تصرخ الداية في وجهي- عيب يا بنت العبي بعيد-

ومع من ألعب أنا؟؟. النجوم بعيدة لا تمسح باللعب معها والقمر يواصل السباحة صوب المغيب.. لو أن أشقائي الثلاثة الذين انجبتهم أمي من بعدي أحياء للعبت معهم الآن أول طفلين لم أذكرهما أما الثالث فأكاد أذكره جيدا وأذكر أيضا ما ألم بأمي من ألم حين فقدته، قبل أن يكمل يومه السابع.

– يا رب لا تجعلها تحزن مرة أخرى.

– قبل الفجر بقليل شقت أذني صرخة قوية تلتها صرخات.

– لا أدري إن كنت هبطت السلم أم أنه انهار تحت وطأة فجيعتي.. ألقيتها ملقاة فوق حصير من (الحلف الجاف) ويدها مستندة إلى الحوض الأسمنتي الخاص- بطلمبة الماء- وشعرها الأسود الطويل ملقي فوق الأرض – والداية على مقربة منها ويدها مخضبة بدماء أمي..

.. امتلأ البيت بالنسوة من قريبات أبي وقريبات أمي، ورحن يضربن وجوههن وصدورهن بتوحش ، التصقت بجوار الباب لم ينتبه لوجودي غير قليلات- صرخاتهن يتطاير منها اسراب من الوطاويط ذات الأجنحة السوداء تنشر الظلمة في البيت وتغطي بأجنحتها وجه السماء.. والداية ما زالت يدها مخضبة بالدماء – تردد بصوت مضطرب- أنا لا أحمل ذنب موتها ، لقد وضعت الولد ميت بسبب اختناقه بالحبل السري الملتف حول عنقه، انظرن إلى وجهه الأزرق وجسمه الضخم الذى ينبئ بموته من قبل موعد ولادته بأيام وأيام.. ثم أردفت الداية بعد أن غيرت من نبرات صوتها.

– لقد ماتت المسكينة بحسرتها حين نظرت إلى وجه صغيرها..

* * * * * *

وبعد هل تعرف أشياء كثيرة تغير لونها بعد هذا اليوم ولكن ما زال النهار أزرق بلون الموت خنقا، ومازال المساء بولن أجنحة الخفافيش بلون ملابس الحداد، والآن هل علمت لماذا أقاطع النهار لأنه لم يغتسل بعد من لون الموت، وهل علمت لماذا أقاطع المساء لأنه لم يهش عنه وطاويط الحزن بعد.

والآن لماذا جعلتني أجتر كل هذه الذكريات؟ هلا تركتني أكمل تلوين رسوماتي قبل أن تنقضي الدقائق الباقية على انتهاء الفسحة والتي سيعقبها حصة الرسم؟

سنعرض على مدرس الرسم هذين الموضوعين – السوق – والمولد- انظر – رسمت كل مظاهر السوق من بيع وشراء السوق دوما يكون نهارا – وسماء النهار جعلتنا فسدقية وشمسها وردية، وقطع السحاب بنفسجية، هل أعجبك لونها؟؟ سيعجب بها أستاذ الرسم، أما المولد فلا يزدهر إلا مساءا وسماء الليل جعلتنها ذهبية ونجومها قرنفلية وقمرها زيتوني رائع.. ألوان ستدهش أستاذي في ذلك.

انتظم الأولاد في الفصل وهدا تماما ضجيجهم، بعد أن دخل علينا أستاذ الرسم . بادرنا بوضع كراساتنا أمامه ، وبدوره راح يتأملها، نظر إلى غلاف كراستي بعد أن طالع رسوماتي.. نادي بحدة أسمي،، وقفت على مقربة منه ، نهض وأمسك بي من يدي ودفعني بقسوة خارج الفصل، وقال وهو يعتصر جديلتي بيده ويرفع من خلالها وجهي للسماء:- انظري فأنت إما غبية أو عمياء..

– صرخ : ما لون السماء يا بنت؟

– قلت – زرقاء بلون الموت خنقاً.

– لكزني وصاح – وما لون الشمس

– قلت برتقالية بلون اللهب

– وقطع السحاب يا عمياء

– رمادية تحمل فى جوفها دموعا كثيرة

– قال – و المساء

– قلت – أسود بلون ملابس الحداد تغطيه أجنحة الوطاويط

– قال وهو يلكزني بشئ أكثر قسوة

– والنجوم-

– قلت من خلال دموعي- لا أعرف

– و القمر

– لا أراه

– في هذه الأثناء كان أستاذ الدين يمر في الطرقات أستاذ الرسم أسلمني له وأعطاه كراسة الرسم الخاصة بي – فسألني الأخير الأسئلة نفسها ولكنه أضاف عليها سؤالا – لماذا تغيرين لون الأشياء؟

– قلت – لأني أراها من خلال الواني أفضل وأجمل

– نظر إلى وقد انتفخت أوداجه ، ونفرت عروقه، وأخذت ملامح وجهه تنطوي، وتنفرد بشكل مخيف، وصاح في وجهي:- أفضل مما خلقها الله؟!

ثم لطمني على وجهي لطمة قوية طار بفعلها قرطي، أخذت اتنطط ألما . وددت أن تنشق الأرض عن أبي لاختبئ خلف ظهره ، أو تنشق السماء عن أمي لألقي بنفسي فوق صدرها.

خرجت من باب مدرستي أبكي وأشهق، وقد اشتعلت نيران الألم في الشق الأيمن من وجهي.

* * * * * *

بقيت سائرة ولم أتوقف إلا عند النهر..

لماذا الأولان ترفض التخلي عن انقباضها منذ غاب وجه أمي عن الحياة.

لقد مللت كل الألوان فوق الأرض. فلماذا لا أجرب الألوان في قلب النهر؟

هل أجرب؟؟؟




* نقلا عن
مساء الألوان المبهجة، والليل وما وسق.. قصتان لجمالات عبد اللطيف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى