حسن اللمعى - الرفاعى.. قصة قصيرة

أرقبه كل صباح عندما أجىء الى هنا مبكرا متسللا من دارنا .. يخرج من تلك الحجرة العلوية ذات الباب الواطىء منحنيا يحمل فى يده هذا الطبق الكبير فارغا من حبات البيض الكثيرة التى تجمعها له جدتى من عشش الدجاج المنتشرة فى صحن الدار حولنا كل صباح.
ينزل درجات السلم ببطء .. متطلعا لما حوله .. يجدها فى انتظاره .. يقذف لها بالطبق من أعلى وتحاول الإمساك به بلا جدوى .. ينهرها فى غضبه الصباحى الهادر وينعتها بألفاظه المنتقاة من قاموس شتائمه التى تعودت عليها منذ زمن .
ما إن يلحظ تواجدى قريبا منها حتى تتغير ملامحه الغاضبة ويبتسم لى فاردا ذراعيه ليحتضننى فى ود وحنان لا أجدهما عند أمى وأبى هناك فى دارنا .. يجلسنى بجانبه وهو ينكش لى شعرى بيديه الخشنتين مرحبا .
تأتيه جدتى بقهوته الصباحية المرة .. يخرج من جيبه لفافة صغيرة ويلتقط منها واحدة من حبات عديدة سوداء ويلقيها داخل الفنجان ناظرا لى فى حب وفرح .
يرتشف قهوته ببطء شديد وألاحظ إحمرار عينيه الذى بدأ ينتشر بداخلها وكأنها تنزف دما .. يغيب بعدها عنى ولا أسمع له سوى همهات غبير مفهومة وكأنه يحادث مخلوقات من عالم آخر .. تمر لحظات طويلة من القلق عليه حيث يطول غيابه عنا ويبقى فى عالمه هذا إلى أن يبدأ فى العودة من غيبته مرة أخرى .
ألاحظ أن عينيه عادتا الى طبيعتهما واختفى منهما هذا اللون الدامى المخيف .. الكل هنا لا يجرؤ على مخالفة أوامره التى يحفظها الجميع اتقاء لغضبه الهادر دوما .
دائما ما أتطلع الى تلك الغرفة العلوية وأود أن أسأله عنها, لكن جدتى تنهرنى محذرة وتمنعتى من ذلك حتى لايغضب علىّ فلا يقربنى منه ويمنحنى حبه وتدليله كحفيده الأول والوحيد .
يصطحبنى الى مشاوير عمله اليومى .. يذهب الى البيوت والمخازن المختلفة ليخرج الثعابين منها .. قال لى إنه امتلك العهد من جده الرفاعى الكبير وأصبح بعدها قادرا على إخراج أى ثعبان من جحره بطقوس وكلمات لايعرف معناها إلا هو .. وعدنى ذات لحظة صفاء بأن يمنحنى هذا العهد عندما يحين الحين حتى لا تندثر المهنة من العائلة .
أراقبه وهو يعمل وأتطلع الى وجهه الأبيض المشرب بحمرة وقد ازدادت حمرته وسال العرق من رأسه الأصلع وهو يتلو أوراده الخاصة جالسا على ركبتيه أمام الجحر المختبىء به الثعبان . تبدأ أساريره فى الإنفراج عندما يبدأ الثعبان فى الزحف خارجا فى طاعة وانكسار ليدخل الى الكيس المفتوح أمامه فى يده .. يسرع هو بإحكام غلقه ونخرج معا الى مكان آخر ليؤدى نفس العمل ونعود آخر النهار بحصيلة من الثعابين المختلفة الأشكال والألوان .
عند الدار ينتظره عدد من التجار لشرائها منه, وتطول المساومة الى ان تنتهى بفرض ما يطلبه عليهم ويغادرون .
فى تلك الأثناء أتسلل أنا إلى السطح محاولا التنصت على باب تلك الحجرة التى لا يدخلها غيره ولا أسمع شيئا .. تلمحنى جدتى وتجرى الىّ وتنزلنى فى غضب وتهددنى بعاقبة ان يرانى هناك مرة اخرى .
أتت أمى .. ما إن ترانى حتى تجرى ناحيتى غاضبة مهددة .. لا تريدنى أن أصاحبه فى جولاته اليومية التى ستلهينى عن دراستى فى مدرسة القرية ..لكنه يمنعها من الإقتراب منّى مهددا إيّاها بطردها لو مستنى بسوء .. ترضخ له وهى تشيعّنى بنظرات حارقة متوعدة فى صمت .
يأتون لنا بطعام الغداء .. نأكل معا أنا وهو فقط .. أمى وجدتى هناك وحدهما يتهامسان فى وجل .. فجأة يصرخ ويلقى بما فى يده بعيدا ممسكا برأسه فى ألم واضح مناديا أمى أن تأتى بالسيخ المحمى لتطفىء هذا الصداع المميت فى رأسه .. هى الوحيدة التى تقوم بهذا العمل منذ صغرها .. تأتى بالسيخ من فوق الكانون المشتعل دوما وهو يلمع باحمرار قانٍ فى يدها ..
ينحنى أمامها كاشفا رأسه لها .. فى منتصف رأسه تماما تضع السيخ المحمّى فى فجوة مدممة وأشم رائحة لحم يحترق ودخان ينتشر .. يغيب عن وعيه تماما ويرتمى على جانبه بلا حول ولا قوة .. لا أصدق أن هذا الملقى أمامى هو جدى القوى الذى تطيعه الثعابين ويخافه الرجال .
تمر ساعة أو أكثر ليبدأ رحلة العودة الى الحياة ببطء شديد .. أمى تعرف ماذا تفعل .. تجهز له كوبا من القهوة السادة ليتلقفه وهو نصف مغمض ويشربه على دفعات متتالية وهى تساعده بيديها حتى لا ينسكب على ملابسه بسبب ارتعاشة يده التى لم تستقر بعد .
بمجرد أن يفيق يصعد وحده الى أعلى وينظر لى نظرة ناهية مزمجرة حتى لا أرافقه إلى هذا الجحر المهجور.
ساعة أو أكثر قليلا وينزل حاملا فى يده كيسا من البلاستيك الشفاف مملوء بزجاجات الدواء الصغيرة الفارغة التى أجلبها له من الأجزخانة الوحيدة بالقرية على فترات متباعدة .. لكنها الآن ممتلئة بسائل يميل الى الإصفرار .
فى المساء يتوالى قدوم الوافدين على الدار .. ينتظرون فى المندرة البحرية حتى يأتيهم ويوزع عليهم تلك الزجاجات وسط دعائهم له بطول العمر .. بعدها يمنحنى قروشا قليلة ويتركنى لأذهب الى البقال لشراء الحلاوة الطحينية التى التهمها فى سعادة.
علمت من ابن أحد المشترين لتلك الزجاجات أنها دواء يصنعه جدى للأمراض المختلفة من سم الثعابين التى يخرجها من جحورها بعد إضافة بعض الأعشاب إليه يعرفها هو جيدا لتعالج الأمراض المختلفة .
جاءتنى فرصتى الذهبية عندما تركنى فى صحن الدار وصعد حاملا طبق البيض الكبير فى يده ..
جدتى كانت فى السوق مع أمى ولن تعودا قريبا .. ما إن صعد وأغلق الباب الضيق خلفه حتى انتظرت قليلا وتسللت فى جزع صاعدا إليه .. اقتربت لاهثا من الباب وتنصت لأسمعه يتكلم مع أحدهم كلاما لم أفهمه .. كأنه يلقى تعاويذ من كتاب مسحور .
قررت المجازفة .. عينى الآن تطل من فتحة المفتاح ..و يا لهول ما رأيت:
ثعبان ضخم مرقط يخرج زاحفا من فتحة داخل الحائط, يتجه اليه وهو جالس على ركبتيه واضعا طبق البيض بعيدا عنه بقليل .. يلتهم الثعبان حبات البيض فى نهم وتلذذ وهو ينظر اليه وكأنه صديقه الحميم .. عندما فرغ الثعبان من التهام كل البيض أشار اليه جدى بأن يقترب منه .. الثعبان يستجيب بلا مقاومة .. ينحنى له ويتركه يمسك برأسه ويضع فمه على حافة وعاء زجاجى ليعتصر السم من بين أسنانه .. ينتهى بعد لحظات ليست قصيرة ويتركه يعود لمخبئه داخل الحائط مرة أخرى .
قام ليخرج .. هربت مسرعا هابطا السلالم فى دهشة تسع العالم كله .. أنظر اليه الآن متعجبا فى هلع .. يضع يده على رأسى ليداعب شعرى كعادته .. يقشعر بدنى كله من ملمس يده وكأن الثعبان يلمسنى .. جريت بعيدا عنه وسط قهقهة هازئة منه .
من بعيد أراه الآن يملأ الزجاجات الصغيرة بهذا السم مع بضع قطرات من زجاجات مختلفة الألوان والأشكال وهو لا يعبأ بى وربما لاينتبه لوجودى بعيدا عنه .
تأتى جدتى حاملة ما جلبته من السوق ..أساعدها وأنا أود أن أحكى لها كل مارأيت لكن لسانى يتخشب فى حلقى وأسكت .
صباح اليوم التالى جئت أنتظره كعادتى .. طال انتظارى ولم ينزل من تلك الحجرة العلوية .. جدتى بدأت تقلق .. الوقت يمر والرجل لم ينزل بعد .. جريت الى دارنا أحكى لأمى ..جاءت معى وصعدت بمفردها .. تنصتت ولم تسمع صوتا داخل الحجرة .. أشارت لى ولجدتى بالصعود ..
اتفقنا على كسر الباب .. الباب يفتح .. جدى متربعا بلا نفس .. وفى حجره الثعبان الضخم ينام ميتا هو الآخر، وطبق البيض كما هو لم يأكله أحد .



* نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 04 - 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى