جعفر الديري - حدّ الموسى.. قصة قصيرة

لم تبق إلاّ أيام معدودة قبل الرحيل. وإذ كان عازما على ترك قريته، لزمن ربما طال لعام كامل، وجد أنّه من غير اللائق أن لا يمرّ على عمّه مودّعا. وإن كان يعلم أنّه لن يتركه، حتى يسلخ جلده بكلمات أشدّ تجريحا من حدّ الموسى.
أغلق الباب بهدوء، ومضى بخطوات بطيئة، ويديه في جنبَي بنطاله. كان الوقت يقترب من المغرب، والهواء العليل يداعب وجهه، فينعش روحه. والطرق الترابية غير المسفلتة، تمنحه شعورا بالانطلاق والحريّة. بينما تهبه البيوت القديمة، الهدوء والطمأنينة، والإحساس بدفيء المكان، فمهما ابتعد، ستظل بيته الأول الذي يحِنّ إليه، والحضن الذي لن يضنّ عليه بالمودّة والحنان.
وحانت منه التفاتة فوجد صبيين يلعبان بدوّامتين حمراء وصفراء. حتى إذا توقفت إحداهما، دفع صاحبها ما في جيبه من "تيلة" لصاحب الأخرى.
وسمع صوتا يناديه ليس بالغريب عليه، وكان ذلك الحاج نعمة على "قاريه"، يدفع الحمار بعصاه، مرتديا "فانيلته" البيضاء، وإزارا مربّع الأشكال، متعدّد الألوان، داعيا إيّاه للركوب، إلا أنه أعتذر مفضّلا المشي.
دخل في زقاق ضيّق، انتهى منه للبيت الذي يعتبر الأجدد في الحي!. لقد أعاد عمّه بناءه بالطابوق والإسمنت. فبدى نافرا بين البيوت المبنيّة بالجص والحصى وأعمدة النخيل!، كشأن صاحبه الذي "لا يألف ولا يؤلف"!.
طرق الباب، فانفتح بسرعة، وأطلّ عمّه، طويلا ضخم الجثّة متجهّم الوجه، عابسا لا يغري أحدا بالتحدّث إليه...
- أحمد!.
بدت غريبة إلى درجة أشعرته أنه غير مرحّب به، لولا أن سارع عمّه، فدعاه للدخول.
لبث قليلا، حين أقبل عمّه، تمشي خلفه ابنته تحمل آنية الشاي. عندها شعر بالضيق الشديد، وأدرك أنّه سيطرح عليه مجدّدا أمر خطبتهما. فسارع للقول:
- جئت أودّعك.
التفت عمه باهتمام:
- إلى أين؟
- وجدت عملا بإحدى الدول الشقيقة.
قال بانزعاج:
- وابنة عمّك؟
- ما بها؟
- سبق واتفقت مع أبيك بشأن زواجكما.
- لقد عرض أبي علي الأمر فاعتذرت.
أدار عمّه وجهه متأففا:
- وماذا في ابنة عمك كي ترفضها؟
- إنها من خيرة البنات، لكنّي...
- لكنك ترفض أن تتزوّجها.
وتشجّع فقال:
- لدي أسبابي.
عندها انفجر عمّه...
- لا سبب سوى برودك وتنصّلك من المسؤولية. لديك كلّ شيء، وأنا على استعداد لمساعدتك بأيّ شيء تحتاجه، فماذا تريد أكثر؟!
- أخبرتك من قبل أنّني لا أنوي الزواج حاليا.
ردّ عمّه ساخرا:
- علينا إذن الانتظار حتى يحنّ قلبك؟!.
وأضاف بغضب:
- أوتحسبها عاطلة عن الخُطّاب، قبل يومين فقط جاءها خاطب جديد، هو أفضل منك بألف مرّة!.
وأحسّ أنّه أهين، فوقف دفعة واحدة، وجسمه يرتعش غضبا وقرفا، وقال وهو يهمّ بالخروج...
- زوّجها إذن لمن هو أفضل مني بألف مرّة.
ثم خرج من البيت، وكلمات عمّه تطارده، وتنصبّ حمما عليه، متهمة إياه بالعقوق وقلّة الحياء، كاتما رغبة جارفة في الاعتراف برفضه الزواج من ابنته المحبّة للظهور والتباهي، شأن أمّها.
إنه يعرفها تماما، منذ أن كانا طفلين وحتى بلوغها مبلغ النساء. فحتّى لو أصبحت اليوم شابة مليحة الوجه، فلا يحسبها انعتقت من طبائع أمّها السيئة.
ومرّت أمام عينيه صورة لزوجة عمّه العبوس. وقارن بينها وبين والدته، فشعر بحاجته لزيارة قبرها. فاتخذ سبيله ناحية المقبرة، حيث ترقد، طيّبة الذكر كما كانت دائما.
وجلس إلى جانب القبر، يقرأ الفاتحة وما تيسّر من السور والأدعية التي يحفظها. وقلبه ينوء بحمله الثقيل. وتصوّر مقدار السعادة التي كان سيحظى بها لو أنّ أمّه، لم يعاجلها الموت قبل بلوغها الخمسين. أو أنّ شقيقته الوحيدة، تعيش معه هنا لا في قرية بعيدة عنه، مشغولة بالزوج والأبناء. أو أنّ أحد أشقائه الثلاثة، نجا من الآفات المميتة!، فعاش إلى جانبه مؤنسا وحدته!. وليس عمّه هذا الذي لا يطيقه أحد!.
وأحسّ بحركة إلى جانبه، فالتفت ليجد عمّه، واقفا يتطلّع إليه بانتباه. وقف قبالته، حائرا عاجزا عن الكلام. لقد خرج وراءه، وتتبّع خطاه حتى قبر أمّه، ورغم ذلك لم يشعر به...
- هل أنت على ما يرام؟
قال في جرس حزين:
- أنا بخير ولله الحمد.
- متى سفرك إن شاء الله؟
- بعد يومين.
- على بركة الله.
ثم تقدّم منه..
- هل معك ما يكفيك من المال؟
- معي ولله الحمد.
- كلمني متى احتجت إلى المزيد. أنا عمّك على كل حال.
ومدّ يده مصافحا، ثم مضى حتّى اختفي، والشمس تلملم آخر أشعتها في كيسها الذهبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى