وليد الزوكاني - مجرد وهم.. قصة قصيرة

كل شيء يمكن أن يتغير دفعة واحدة:
يغلق جاري دكان اللبن، ويفتح بعد يومين كشكاً لبيع المواد المهربة.
يستقيل وزير المواصلات في بلد لا توجد فيه وسيلة اتصال سوى الحافلات المهترئة، والعربات التي كانت تديرها البغال بكفاءة عالية قبل تشكيل الوزارة.
يلغي مختار قرية نائية قانون الأمم المتحدة، نكاية ببني قعدان، أو يفكر شرطي مهترئ من كثرة الرشوة والسباب، باعتقال أعضاء مجلس الأمن، أو يهبط رئيس الدولة دون سابق إنذار في عاصمة العدو، ماداً يده الضخمة من التلفاز، الرئيس الذي تمشي الحكمة في خطاه: تقدم أو تراجع، اضطجع أو كف عن الضحك.
بل يمكن أن يلغى الموت بالإجماع حفاظاً على الاستقرار السياسي، ومنعاً من اقتتال الخلفاء على مقام الجثة السامية، أو يمنع الضحك بمرسوم جمهوري عقاباً على النكتة البذيئة، أو يمنع التجشؤ في الشوارع لأن الببسي كولا خسرت في هذه المدينة مشروعها السياسي.
أو يبيع راع قطعانه، ليشتري أوسمة للذئب الذي التهم ابنه الصغير، وكالعادة، الذئاب لا توافق بسهولة، لكن يمكن رشوتها بولد طري يتقن العدو أمامها، لتتمتع بلذة الافتراس الحقيقي، وهكذا يستطيع اللحم البشري، خصوصاً إذا كان طرياً إلى هذه الدرجة، أن يصنع المعجزات.

السينما تدخل كل بيت من ثقب الباب، بعد أن تحولت الأرصفة آخر الليل إلى مخزن متنقل لبيع الأفلام الرخيصة، التي لا يتوافق الاسم والصورة الملصقة عليها مع محتواها الملتهب، ومع هذا يلتهمها الكبار والصغار لصيانة أجسادهم، ويرجمونها علناً لصيانة أخلاق جيرانهم.
الحشمة والفضيلة يعاد تعريفهما دوماً حسب الطلب؛ ليتمكن قانون العيب من اقتلاع ألسنة الأطفال وأصابعهم، كي لا يتحولوا حين يكبرون إلى كائنات مفترسة تشبه البشر الأصليين.
أما التلفاز فكل ما يفعله الجميع هو صيانته والتقرب إليه، ليتسنى لهم رؤية ماضيهم الذي لا يتذكرونه أبداً، والذي يعتقد أنه مستورد من أمكنة لا تشرف أحداً.
ثمة وظيفة أخرى للتلفاز أكثر إمتاعاً، وهي لعق أدمغتهم الطرية بالصور واللافتات والخطابات والشعارات والبركات والتحيات الطيبات منعاً من جفافها، فتقسوا عقول الأمة، ويجف الشعب عن بكرة أبيه، فتكسره إسرائيل، وبقية الأعداء في القارات الست.
ربما لهذا يمكن أن يتغير كل شيء دفعة واحدة دون أدنى حسبان، مادام التغيير يقتصر على تغيير لسان اللاّعق، مع الحفاظ على وضعية الملعوق، وحرارة اللعق.

في بلاد كهذه يعتبر الكمبيوتر الذي لم يدخل بعد الخدمة العامة، أثمن بكثير من عقول الناس، ومع أن الناس أثبتوا خلال ما ينوف على القرن، أنهم طيعون إلى أبعد حد، ومقتنعون سلفاً بكل ما لا يخطر على بال، ومبتهجون بوتيرة اللعق، بدليل أنهم يدبكون ويرقصون ويمزقون الشوارع احتفالاً بعيد اللعق الوطنيّ، إلا أنهم ما زالوا يُعتبرون رمزاً للعصيان دون سبب واضح!.

الأبناء يجهدون في السير بدقة على خطا الآباء الذين لا أقدام لهم، فالواقع الافتراضي الذي يتباهى به الآن أرباب التكنولوجيا الحديثة، ويعرضونه بشيء من الحذر على عقول العامة، معروف هنا منذ قرن على الأقل، فكل ما لدينا واقع افتراضي، يمكن أن تفترض أن لا قدمين لأبيك القاعد في إناء المؤونة، وتسارع للحاق به، ويمكن أن تفترض أن لا جماجم للبشر، فيصيرون أمعاء مفتوحة من الطرفين، ويمكن أن تفترض أن لا وطن لك، وتتجول حراً في صحن الزعتر، ويمكن أن تفترض أن البندقية تشبه أمك، وتتلذذ برضاعة دمك من حربتها، و يمكن و يمكن... إلخ.

لا أحد يعرف كيف تسير المأساة من ملهاة إلى ملهاة، لا أحد.
حتى أنا لا أعرف كيف توفيت قبل الأوان، مع أنني رجل يأكل ويشرب ولي زوج وولدان، وأحياناً أتكلم في المرايا بصوت خافت.
الشيء الوحيد المقنع الذي لا يحتاج إلى دليل، هو أنني متوفّ منذ مدة طويلة، ولا أحاول أبداً أن أتصرف كرجل حي، حفاظاً مني على قوانين الطبيعة ونواميسها، ويمكن تحديد هويتي بأنني ميت قلق، لا يتمتع كثيراً بنعمة الموت وهناءته، فهل يحق لجثة قلقةأن تغير نواميس الكون، لمجرد أن زوبعة صغيرة دارت في جمجمتها؟
أغلب الظن أن كل ما يدور في ذهني مجرد وهم، فمن غير المعقول أن يفكر رجل متوف بكل هذا، إلا إذا كانت كل هذه المدن المكتظة بالحافلات والدخان والمتسولين، مجرد مقابر.
والغريب أنه لم يخطر لي أبداً أن أقفز من شرفة الطابق العلوي، لأتأكد ما إذا كنت رجلاً ميتاً حقاً أم على قيد الحياة، الطريقة الوحيدة لوضع حدٍّ نهائي للجدل المضني الذي يشلّ تفكيري، ومع هذا أبدو متيقناً تماماً من موتي، بحيث لا داعي لاختباري، فحتى مجرد اختباري لنفسي، سيعتبر من وجهة نظر جاري في القبر المجاور، دليلا على أنني أفكر بنفسي كرجل حي، فتكون الطامة الكبرى، فلا يمكن لجثتي أن تتحمل مرة ثانية، عواقب اتهام كهذا أبداً.
إنّ أسوأ ما يحدث للأموات، هو أن يفكروا أحياناً كما لو أنهم على قيد الحياة.

[email protected]
  • Like
التفاعلات: حنان عبد القادر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى