علاء مشذوب - لوحات متصوفة.. قصة قصيرة

امام واجهة مطعم فخم، كان هناك كلب يلق الماء، وقطة على مقربة من منقلة شواء اللحم تشبع بطنها من رائحته، على أمل ان يرمي لها مسؤول الشواء قطعة لحم وقعت على الفحم، أو أن يتعطف عليها بشحمة زائدة يشعل بها نار الفحم المختبئة من قبل، جلس رسام في الحديقة المقابلة للمطعم يرسم كل هذا الألم الصوفي، ثم أعاد رسم لوحته من جديد، فأبدل الكلب برجل فقير يعبر بركة ماء، وهو يتوجه بنظره نحو المطعم. وقرب منقلة الشواء امرأة مسكينة تمد يدها لعطاء محسن، بينما يخرج من باب المطعم رجل بكرش كبير بالكاد يشد الحزام نفسه كي يحفظ القميص معتدلا، وهو يمسك البنطال، وفي المقابل يركض صاحب ساحة وقوف السيارات التي هي في أصل فضلة رصيف واسعة ليأتي بالسيارة لصاحب الكرش، لم يستطع اتمام لوحته، فنزع اللوحة المائية من (باليته) الرسم، ومن ثم أرجع فرشته الى علبتها، وأطبق علبة ألوانه وسكب ماءها الملون.
***
أمام مقهى ليست ببعيدة عن المطعم، وعلى الرصيف المقابل لها نصب (باليته) من جديد، فتح علبة ألوانه وأخرج قليلا من مائه المعلب وسكبه في كأس مفتوح، ومن ثم أماط اللثام عن فرشته، بدأ يرسم واجهة المقهى المفتوحة الباب، وعلى ما يبدو انها من الدرجة الأولى، فقد كانت لوحة إعلانها من الفليكس الحديث والمؤطرة بالمصابيح الكهربائية والتي تشبه الإعلانات الانتخابية، وقد أخذت واجهة المقهى التي هي عبارة عن طابقين.
كانت الكراسي التي تستحوذ على رصيف الشارع الذي يمتد من فاه المقهى وحتى ضفة الشارع، تحتوي على أكثر من مائدة مع الكراسي المحيطة بها، وقد كانت تلك الكراسي من الخيزران الراقي المطعم ببعض الشباك الملونة لتعطي لجالسها نوعا من الأنفة والكبرياء، وكانت الموائد سورية الصنع فيها من الأرابيسك والصاج المطعم بالأسود كأنها تحفة متنقلة، والنادل الذي يقدم للزبائن طلباتهم، يرتدي بذلة سوداء مع قميص أبيض بوردة عنق، قدرتُ سعر النارجيلة تتجاوز العشرة آلاف دينار، وإذا ما طلب الزبون (استكان ) شاي مع ماء أو كأس عصير أو (كابتشينو)، فأن المائدة لزبونين قد تتجاوز الخمسة والعشرين ألف دينار.
دخل طفل يمسك بيده اليسرى علبة علك (أبو السهم)، وفي يده اليمنى دزينة منها يقدمها للزبائن كي يشتروا منه، والرسام يرى عن بعد شفتيه تتحرك توسلاً، وقليلا من انحناءة الظهر تذللاً، وربما يتعطفهم للشراء منه، بينما كان الزبائن بين من ينفث دخاناً ابيض من فمه، ومنشغلا في الحديث مع رفيقه، دون أن يعر أي منهم بالاً للطفل، تساءل الرسام مع نفسه: ربما كان الطفل الفقير من المهاجرين أو النازحين الجدد من مدنهم وقراهم، خرج الطفل من المقهى دون أن يبيع شريطا واحدا ، جلس على رصيف المقهى منكسا رأسه، ومن ثم رافعا رأسه الى السماء، كانت بعض الدموع تنزل بصعوبة على وجنتيه، وبشرة وجهه المقشرة من اليباس بعد ان لفحته الشمس بمطرها الصيفي اللاهب، كان شعره أشعث يميل الى الصفرة ليس وراثيا وانما لكثرة ما سلطت الشمس عليه نيرانها، لم يستطع الرسام إتمام لوحته بعد أن أتم أغلبها، فنزع اللوحة من (باليتها) وأرجع فرشاته الى علبتها وأطبق علبة الوانه، وسكب ماءه الملون من جديد.
***
على مكان ليس ببعيد عن المقهى، ومن على رصيف طويل وسط شارع وكأنه سكة قطار لا يلتقيان فكر ان ينصب (باليته )ويرسم منظرا طبيعيا لسيارات بين جيئة وذهاب، نصب (باليته) وأخرج عدته، بدأ رأسه يتنقل بين حركة السيارات والمنظر الطبيعي وبين لوحته المائية، لاحظ الكتل الإسمنتية تشوه لوحته، وعندما بدأ يخطط لبعض البنايات لاحظ عند رؤوسها بعض السواتر الترابية التي هي عبارة عن أكياس خضراء معبأة بالرمل، وفي وسطها سلاح أحادي تخرج سبطانته من وسط الساتر، فلم يرسمها، وفجأة وقفت قربه سيارة خاكية كانت مسرعة، ومحدثة صوت اربك المارة ، نزل منها بعض الجنود وربما شرطة مدججين بالسلاح، اتجهوا نحوه متهمين اياه بالتجسس كونه يرسم أسرار الدولة لا يعرفها العدو، طلبوا منه تصريح الرسم، لكنه لم يكن يملك أي تصريح بمزاولة فنه، أرادوا أن يقتادوه، لكن الضابط الذي نزل من صدر السيارة أمرهم أن يتركوه بعد أن تيقن بنظرة فاحصة من أنه رسام ولا يملك من الظن السيء تجاه البلد أي شيء، واكتفى بأن يمزق لوحته المائية ومصادرة أدواته مقابل إطلاق سراحه، بعد ان سكب ماءه الملون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى