عبدالمنعم رمضان - دخول الشيخِ المحراب.. شعر

لن يغيب عن فطنة القارئ أن القصيدة عروضية موزونة جدا. ولكنها مكتوبة على شكل كتابة النثر، كل السطور تامة وكاملة تبدأ من أول السطر وتنتهي عند آخره.

كان هناك جنودُ سلاحِ الجو بأرديةٍ زرقاءَ, وعمالُ الأحلام بأرديةٍ زرقاءَ, وكان هناك شيوخٌ منسيّونَ وألويةٌ وبيارقُ, ومواريثُ, ونخلٌ, وبقايا آلامٍ وابنُ العمِّ العابرُ في خطواتٍ متباطئةٍ, تحسبُ أن أصابعه تَتَحسَّسُ ظهْرَ الماءِ, وكان هناك العالمُ رخواً يُشبهُ صفَّ قبورٍ, كان العالمُ يُشبهُ آخِرَ بيتٍ عند الحافةِ, والدهليزُ طويلٌ, والأفنيةُ, وقبوٌ, والدَّرجُ المغسولُ, وكانَ أمامَ البيت خلاءٌ, لا يسكنهُ غير هواءِ الليلِ, وغيرُ غرائزِنا, وأمامَ البيتِ مسلاتٌ بيضاءُ, وريحٌ مترهلةٌ تلبسُ أرديةً زرقاءَ,, ورجلٌ حافٍ ممتلئٌ بحنينٍ صافٍ, وطيورٍ جائعةٍ, سوف يسيلُ, ويجلسُ, يبحثُ عن باب منفرج يتأملهُ, فإذا شاهدَ قربَ الباب ظلالاً, وأصابعَ مائلةً وذراعينِ, استأنسَ, نادى: (يا ياقوتَ العرشِ, ويا الحسن البصريّ, ويا ابن الفارضِ, يا أمراء الجيشِ, ويا مجنون القلعةِ) ينظرُ نحو البابِ يشاهدها ثانيةً, استرخ قليلاً فوق السحبِ المتسارعةِ, ارفعْ رجليكَ وحاولْ أن توقفَها, سوف تصادفُ برجاً يخرجُ منه النورُ, وينفذُ نحو القبَّةِ, فافرحْ واجعلْ فمَكَ يلامس سطحَ القبةِ ويبللها أنتَ ملاكُ الوقتِ الضائعِ, أنصتْ لطوابير الدمِ تنتقلُ من الأطرافِ إلى الأطرافِ, اتبعْها, واجلسْ فوق القمم, استسلمْ لينابيع النارِ, حنينك ينزفُ من شدقَيكَ أنيناً مبلولاً بالريقِ, وروحك تأوي قرب حدودِ قيامِ الشيخ إلى خَلْوتهِ, استسلمْ, سوف تدكُّ الأحجارَ الناعمةَ, وسوف تذيبُ الحبلَ, فيصبحُ جسمك مجلوَّاً ونظيفاً كالبئر الجبليةِ, يسعى خلف الأزهارِ الحمراءِ, سأرسمُ أزهاراً حمراءَ لعلَّك ترضى, يسعى خلف الجاموسِ البريّ, سأرسمُ جاموساً برياِ, وسلالات ثعالبَ, أرسمُ آنيةً ساخنةً, ومغيرين وآهاتِ استعجالٍ, أرسمُ رجلاً طاغيةً, مخفوراً بجناحين وظلّ, وله شمسٌ متعامدةٌ فوق الأرضِ, تحنُّ إلى الأطفالِ, سأرسمُ طفلاً يجلسُ تحت الشمس, ويرجو أن ينتبه الرجلُ إلى الغرباءِ فيصنعُ بجناحيه سماءً عاليةً وخياماً, بعد قليلٍ يرتفعانِ وينخفضانِ يصيرانِ البستانَ المحضَ, فترحلُ نحو الغابةِ كلُّ الأزهارِ الحمراءِ, وكلُّ الجاموسِ البريّ, وتنكسرُ الآنيةُ, وتمضي صوب مصائرِها آهاتُ الاستعجالِ, ويبقى الرجلُ وحيداً, وعلى مهلٍ يمشي الطفلُ إلى أطرافِ حديقتهِ, يتسلّقُ أسوارَ الأيامِ, فيسقطُ في الصحراءِ, ويكبرُ, يأكلُ عشبَ الرملِ وتهربُ منه الريحُ, ويكبرُ, أتذكرُهُ الآنَ, يميلُ ويصبحُ مثل الرجلِ حزيناً دون كهوفٍ تصلحُ للحربِ السّريةِ, دون رفاقٍ, دون بنادقَ صيادين تدمدمُ كي تخترقَ الجسدَ الهائمَ, يسألُ عن مخطوطاتِ ضائعةٍ في الطرقاتِ, وعن كرسيٍ غُفْلٍ, عن طاغيةٍ, ورسومٍ تتمايلُ فوق الورقةِ, يسألُ عن بيت ملآنَ بأحجارٍ, وصخورٍ متلألئةٍ, ومياهٍ عاريةٍ, يسألُ عن فرشاةٍ واستكشاتٍ وقواميسَ, ويفتحُ نافذةً قد يدخلُ منها رجلٌ بجناحينِ, يعانقُهُ, ويطيرُ بعيداً نحو طفولتهِ, يُدْنيهِ فيرتبكانِ, وتهبطُ فوقهما أخيلةٌ مثلُ غزاةٍ رحلوا, ونهاياتٌ مثل قصائدَ بشرٍ مُنسدلين على بشرٍ أطهارٍ مفتونين.
عبدالمنعم رمضان مجلة العربي يونيو 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى