أدب أندلسي صلاح فضل - حسنه يتلو الضحى

نصل إلى بيت القصيد في موشحة ابن سهل التي تريثنا عندها طويلا باعتبارها نموذجا فذا لشعرية الموشحات؛ لما تتميز به من التركيز الدلالي والكثافة التعبيرية والجمال التصويري، فنتأمل بيتين منها فقط يوجزان أسلوبها القوي، مع استخدام تقنية كانت شائعة لدى كثير من الشعراء، لكنها لم تظفر بالتسمية النقدية الصحيحة سوى في العصر الراهن، وهي تقنية “التناهيّ” أو تداخل النصوص التي كانت تعد من قبيل الأخذ والاقتباس وحتى السرقة، يقول ابن سهل قفله الجميل:
فاحم اللمة، معسول اللمى
ساحر الغنج، شهيّ اللّعسِ
حسنه يتلو “الضحى” مبتسماً
وهو من إعراضه في “عبس”

لدينا مجموعة من الأوصاف المركزة المضافة إلى الموصوف بإتقان محكم، يتناول الأول منها شعر المحبوب، “اللمة” هي الشعر الذي ينزل عن شحمة الأذن، فهو أسود مثل الفحم، وإن كانت الصيغة الواردة “فاحم اللمة” أقوى وأبلغ، و“اللمى” ـ لاحظ قربها من اللمة ـ سمرة في الشفة أو ظل سواد محبب فيها مشوب بالحمرة وهو معسول يقطر منها العسل، أما الغنج فهو من أحفل الكلمات بالدلالة، إذ يشير إلى الدل والغزل كما يعني التمايل والتشهي ويتطلب استدعاء الإعجاب باللحظ والغمز، وكذلك “اللعس” فهو سواد مشوب بالحمرة مستحسن في الشفة.

فالمحبوبة ساحرة في غنجها، مشتهاة في مقبلها، ولا يملك الإفراني شارح هذه الموشحة إلا أن يستدعي بدوره أشعاراً عربية أخرى توحي بها أبياتها وتماثلها في دقة الوصف وتركيزه مما لا مجال لإيراده.

لكننا نترك هذا التناصّ المشهود بين الشعراء ومدى ما فيه من أخذ وتنمية وابتكار، لنلتفت إلى البيت الثاني عند ابن سهل الذي يتناصّ مع اسم سورتين من القرآن الكريم هما “الضحى” و“عبس وتولى”، فوجه الحبيب لحسنه وجماله فاتن ضاحك مبتسم، لكنه من إعراضه وصدوده في عبوس، ومن أجل هذا يتخيل أنه في الأولى يتلو سورة “الضحى“ وفي الأخرى يتلو سورة “عبس” ويضاهي هذا التخيل بسورة القرآن قول شاعر آخر:
يا ذاهبا في داره جائياً
من غير معنى وبلا فائدة
قد جُنَّ أصحابك من جوعهم
فاقرأ عليهم سورة المائدة

ويسمى هذا النوع من التعبير الاستطراد، وهو أن تكون في غرض من أغراض الشعر، توهم أنك مستمر فيه، ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما، وهو يوظف أيضا فى هذا التناصّ نوعا من التورية اللطيفة العذبة، فالمعنى المتبادر إلى الذهن من “الضحى” و“عبس” هو أسماء الورد، لكن دلالتها البعيدة تشير إلى إشراق إقبال الحبيب وانطفاء نوره عند الصد، وهو يجمع بين المتناقضات فى تداخل نصي ممتع، ينعش ذاكرة القارئ، ويضفى على المحبوب مسحة من جلال النصوص وبهائها في الآن ذاته.



صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى