عبد الواحد كفيح - النحل

115480.jpg


في السهل, في أعلى الجبل، في المرج، في جوف الوادي, انتشرت أمواج من النحل, لو ما كانت في السماء طائرة لقلنا ذاك بحر أمواجه النحل.
أسراب كثيفة تجوب المنطقة وكأنما جميع سلالات النحل حاضرها وغابرها ضربت موعدها في هذا اليوم, وفي هذا المكان, وكان متوحشا كما كان "بطش" متوحشا . كل أطفال قريتنا يهابون شاربه المفتول ومقلاعه الذي لا يبارح ذراعه, لا بشر ولا حيوان غير التي يملكها تصل إلى حدود حظيرته.

داهمه اليوم هذا الجيش الجرار من النحل فكان اللقاء, هذا اصطاده بأزيزه المذهل وذاك اصطاده بسلاحه الذي لا يمهل ولا يهمل, أوقع الفيالق في شراكه, رصده كما نعرف بفعل انعكاس أشعة الشمس ب... نعم بالمرآة, أسره في يوم مشمس حار, فرخ النحل وتربى في أحضان حرارة الطقس وسخونة الدم داخل السجن القاتل والكبت والظلم والظلام, كانت زوجة بطش غير مطمئنة لهذا العمل الشنيع, والاعتداء السافر على النحل, فظلت دائما حذرة في دخولها وخروجها تنظر إلى الخلية بعين العطف والرحمة, والخوف, كانت الخلية شبحا مخيفا يتبعها وهي عند الفرن عند البئر قرب الخم في البيدر, في غدوها ورواحها, ما فكرت يوما في نفسها ولا زوجها بل دوما في ابنها الوحيد الذي قد يكون يوما كبش الفداء وهدفا للانتقام . تعاقبت الفصول ودارت الأيام دورات واسعة, والخلية خلف البيت, ملكة, وخدم وحرس وحجاب و... و... الله أعلم, مملكة بأكملها لا يعيرها أدنى اهتمام . الخدم يبحث عن القوت يكسبه من تعبه لا ليصنع الشهد بل لإنتاج الغذاء الملكي سما من عرق جبينه, لأن بطشا ليس بمرب للنحل ولا عالما بتغذيته ولا مهتما بخليته .

أخبرته زوجته ذات مساء باختفاء النحل فهز رأسه مجيبا كعالم حشرات وإيكولوجيا " إنه منهمك في إعداد العسل الذي سأبيعه أنا وبالسعر الذي أحدده أنا يوم العيد الذي أحدده ... لا ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".

أوقد مدخنة قديمة وتوجه ليغزو قصر الملكة نعم ... صحيح كنيرون وروما, أدارها بيده اليمنى فوق الخلية بحركات دائرية متجانسة مستعدا في أي لحظة لإحراقها, متنحنحا متمتما بفمه المهترئ بكلمات لا معنى لها, فراح يتخطى الخلية يمينا وشمالا أماما وخلفا واضعا يده اليسرى بين فخديه، شادا بسرواله الفضفاض وأسماله البالية يهزها البرد فتظهر عظامه كفزاعة وسط موجات من الدخان, أو عفريت من الجان, وأمامه وقفت الزوجة تراقب طقوسه الغرائبية وحركاته الصبيانية بعدما أعدت، كما أمرها، كل ما يلزم من أواني مستبشرة بغنيمة ومحصول وافرين .مملكة النحل كانت على موعد هذا اليوم, وقفت مستعدة في حالة تأهب واستنفار بكل فطنة وحزم وحكمة, نعم صحيح, كأهل أثينا وقوة وجبروت جيشها, كأهل إسبرطة.

ارخبيل من الفيالق شمرت على ساعد الجد, فراحت تغازله بلسعاتها وتموت بالجملة, لكنها تتلذذ في لسعة قبل الموات، ليس بالغازات المسيلة للدموع ولا الأسلحة الكيماوية ولا الدخان كما يعتقد بطش، ولكنها تموت وفق الخطيئة الأولى للنحل، وذلك يوم أن طلبت جدتهم المسكينة من ربها طلبها الوحيد، فعوض أن تقول: " لي قرصتو يموت " قالت " لي قرصتو انموت ", يا لفلتات اللسان القاتلة- نعم ...نعم كل هذا حسب مرجع الحكايات الخرافية التي طالما أتحفتني بها جدتي في الليالي الباردة0 وللنجاة بالنفس يهرب بطش حافي القدمين, يجري, يلهث دونما هدف بأمر من زوجته إلى الماء, نعم الماء! الماء ! فيلقي بنفسه في البئر ليتخلص من النحل واللسع والعسل. فينجو من السم, لكنه لم ينج من الماء. ما كان يدرك أن النحل سينتقم, لكن زوجته المتشائمة, والعياذ بالله, كانت تعرف, " نعم كنت أعرف " .وهكذا تنعيه على مرأى ابنهما الوحيد بكلمات مقتضبة قائلة " أرحتنا منه وأراحنا منك " وهي تتأمل الجثة تغوص والعمامة تطفو فوق الماء, بادرها ابنها بالسؤال القاتل : " وماذا سنقول لرجال..." قبل أن يكملها خبطت بجمع كفيها على فخديها صائحة "يا ويلنا ! فما لسعنا أهون من لسعه, إنها كائنات تلسع يا بني ولا تموت".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى