محمد السقفاتي - شريكة القفص الذهبي.. قصة

بالرغم من أني تخطيت سن الثلاثين، وأسكن مستقلا عن أسرتي، فإني أحب أمي جدا وأزورها بانتظام، وأعود إليها دوما في اختياراتي، امي تعشق القهوة لكني لا أتذوقها الا لماما، أفضل عليها الشاي الأخضر بالنعناع من يديها الناعمتين، اعشق الشاي على قهوة أمي لأنه الوحيد الذي يربطني بجذوري، ويذكرني بطفولتي البعيدة في الريف، وجباله الشامخة، أبي الوحيد بين كل أفراد الأسرة الذي يشاركني مشروبي، مع هذا فإن علاقتي بأمي أقوى من تلك التي تجمعني به

أمي تجاوزت الستين وهي راضية عن حياتها البسيطة، تصبن وتطبخ وتكنس وتصلي خمس مرات باليوم، وتؤمن بأنها حققت الكثير من أحلامها، لكن أمنيتها الكبيرة والوحيدة هي أن يتزوج ابنها بفتاة جميلة تنجب لها حفيدا تقر عينها به

أول مرشحة لتلبية رغباتها، كانت فتاة جميلة ورائعة. أخذني سحرها وجمال قوامها. وبعد أن توطدت علاقتنا وخططنا معا شكل مستقبلنا، وكي ننتقل بعد الرسم، لمرحلة التلوين، قدمتها لأمي التي فرحت ورحبت بها كثيرا، الى درجة أنها عندما همت بالانصراف، أمسكت بيديها متوسلة إياها البقاء لوقت أطول، وحين افلحت توسلاتها واستعطافها في استبقائها، قامت توا الى جهاز الموسيقى، هي التي لا تطيق سماعها، وتعتبرها رجسا من عمل الشيطان، وتمنعها عن بناتها وتهدد وتتوعدهن مع كل مرة، بتحطيم الجهاز ورميه من الشرفة الى وسط الشارع

شغلت شريطا راقصا، وأدارت زر الصوت الى حده الأقصى، لم يكن هذا كافيا لصنع المفاجأة والدهشة في نفوسنا، فقد أمسكت بيد الفتاة التي بدت متحفظة ومحرجة، واستدرجتها بقوة الى وسط الصالون، بينما انشغلت اليد الأخرى بفك " فنارة " رأسها، وبعد أن لفت ذؤابتها في مؤخرة رأسها، اتجهت نحو أختي المحجبة وخلعت عن رأسها حجابهاـ وأحكمته حول خصر الفتاة، التي استغرقت في نوبة رقص هيستيري لم تشعر بعده بأن أمي غادرت حلبة الرقص، وجلست على الأريكة متتبعة بتفحص شديد حركاتها واهتزازات جسدها المثيرة

كنت أظن مع هذا المشهد الذي اثأر بدواخلي دهشة واعجابا لا يتصور، بأنني عثرت أخيرا على شريكة حياتي التي أحببتها، وأرضيت تطلعات أمي... لكن الذي لم أكن أعرفه هو أنها كانت تستجلي وتختبر تصرفاتها، لأنها حين انصرفت، أخذت بيدي وانفردت بي قائلة

- إنها من أجمل ما رأيت في حياتي، وتجيد الرقص ك "شطاحة"، لكنها غير صالحة لك، لقد لاحظت وهي ترقص، بأن عجيزتها تترجرج بشكل غريب لم يرضني. أكثر من هذا فكل شيء فيها يتراقص، حتى وان ظلت جامدة في مكانها.. فأهداب عينها ترقص وبؤبؤها أيضا لا يستقر على حال

لم أفهم قصدها، وحين ألححت عليها في شرح المقصود، قالت

- عندما قلت لك أن عينيها تتراقصان كان عليك ان تفهم، أما وأنت ما زلت تسأل، فسأقولها مباشرة في وجهك، فتحت فمها، وكأنها تريد ان تلهج بالحروف وتفجر الكلمات في وجهي، لكنها استدركت وأغلقت ثغرها ثم قالت:

- إنها ذات تجربة حقيقية، ولا تصلح لك كشريكة حياة..

اكتفت أمي بهذه الجملة القصيرة، والتزمت بعدها بالصمت، فهمت أنها تقصد التجربة مع الرجال، وسكتت بدوري

كنت أحب هذه الفتاة وكنت مستعدا للزواج منها. لكني تذكرت للتو أنها كانت في أوقات انفرادنا تحرم علي لمس مثلث أنوثتها، وتبيح لي أشياء أخرى، وحريصة على عذريتها حتى عتبة الزواج. فيما تحتك بي بمؤخرتها، وكان هذا كافيا لتكوين فكرة عن شبقيتها المثيرة وولعها بالجنس، وتأكدت من الأمر لاحقا فافترقنا من دون مشاكل

المرشحة الثانية كانت اقرب لان تكون أيقونة مثالية، وكأنها سقطت للتو من غلاف مجلات الموضة العالمية الشهيرة.. بهيأتها، وبهائها، وطيبوبتها، وأخلاقها، وعيونها العسلية، وكلامها المعسول، كل ما فيها يشدك إليها ويجبرك على الخشوع في حضرتها، لكن أمي أسرت في أذني

- إن هذه الفتاة يا بني، فاتنة جدا، لكن لم تخلق لتنجب، حدق في حوضها جيدا

المرشحة الثالثة التي ستنجب حفيدا لأمي، كانت جميلة أيضا. لم تراقصها أمي هذه المرة، لكنها انفردت بي عند نهاية اللقاء وقالت

- إنها جميلة جدا يا بني، إن أردت أن تتزوجها فسأكون أول من يبارك زواجكما، لكن ليس قبل أن أقول لك أن عليك أن تتزوج بها فقط إن كنت لا تفضل حياة الاستقرار والراحة والسكينة

حين طلبت منها توضيحا قالت

- إنها شابة صغيرة وقوية وتعبق بالأنوثة، لكن أرأيت الغضون التي تتشكل على جبينها حين تحدق إليك؟ إنها ليست تجاعيد العمر، بل تدل على أنها ليست امرأة سهلة. وستصعب صرامتها وتشددها وجديتها تحقيق الهناء والراحة التي تبحث عنها يا ولدي

لم أكن أعرف أن في فراسة أمي تكمن الحكمة. باركتنا وتزوجنا. وعانيت كثيرا واستعصى علي مواصلة حياتي مع فتاة صارمة جادة أكثر من اللزوم، وافترقنا دون تحقيق حلم أمي

أبي رجل طيب ومرح وذو تجربة في الحياة وأعتز به وأحبه أيضا كثيرا، لكني أعرف – بالتجربة - أنه لا يجب الأخذ بنصائحه مأخذ الجد. وكأن دوامة الرياء والمداراة استبدت به، لأنه لا ينصح إلا بما هو مقبول وبديهي ومتعارف عليه لدى العامة.

أمي على نقيضه تماما أمرآة نصوح، وإن كان ما تنصح به جارحا ومؤلما، وغير مقبول عند العامة

علاقة أمي بأبي جيدة. ويحبان بعضهما البعض الى درجة التفاني، وعلى اختلاف شخصيتيهما وأذواقهما فأنهما يكملان بعضهما البعض، ويتجلى هذا التباين حتى في كرة القدم. في البداية كان أبي في حضورنا يخفظ صوت التلفاز دائما أو يضبطه على الأخبار أو كرة القدم كي لا يجد نفسه متورطا في فضائح أخلاقية بسبب بعض المشاهد العارية، لكن مع الأيام تحولت العادة إلى تعود، وتوحد حبهما حول كرة القدم، وصارت شبه دين لهما

أبي ينحاز دائما جهة القوي فيكون مشجعا لآياكس الأمستردامي في الدوري الوطني، ويكون مع أمريكا ضد روسيا ومع هولاندا ضد مالطا ومع المانيا ضد هولاندا

وأمي عكسه تماما، هي دائما تناصر الضعيف وتختار جبهته، فتنحاز لفريق لاهاي ضد فاينورد ولمنتخب غانا ضد البرازيل ولأندورا ضد هولندا

كلما توغلنا أنا وأمي في العمر كلما توطدت عرى الصداقة بيننا. أرافقها في نزهاتها، وفي بعض الأحيان نجلس إلى المقهى وأقول لها

- أمي، سنراقب اليوم كل الفتيات، وعليك أن تقولي لي من تعجبك منهن ولماذا، وأنا بدوري سأفعل نفس الشيء، فلنعتبرها محض لعبة، نتعرف بواستطها على أذواقنا وربما ستمكننا من تحقيق حلمك

كانت هذه الجملة التي أعاود ترديدها كل مرة، كافية لأن تجعلها تضحك حتى تظهر أسنان العقل، وتشاركني اللعبة دون أدنى اعتراض

لاحظت أنها تميل إلى صنف الضعيفات والنحيفات وكل الفتيات اللاتي يمكن أن يوصفن بالمسكينات. ذلك النوع من الفتيات المستضعفات الذميمات اللائي رسمت تكاليف الحياة على تقاسيم وجوههن هالات من المعاناة والمكابدات والألم

ذلك هو طبع أمي..

قلب يتسع لكل المخلوقات

قبل أشهر قليلة رافقتها لشراء طائر مغرد، في القفص الكبير المليء بالطيور من كل الألوان والأصناف والأحجام والفصائل، تخطت أمي تلك التي تطير، وتلك التي تزقزق، وتلك التي تنط، تخطت الكناري، والحسون، والدوري، والحمام، والهزار، والعندليب، والهدهد، واختارت عليهم دَّرَّاء* سقيمة ضعيفة البنية لا تتحرك ولا تفارق ركن القفص

قلت لها

اختاري بدلها طيرا آخر، يا أمي، إنها مريضة وتنتظر فقط أجلها -

- لا يا بني، إنها ضعيفة لأنها حزينة، وبحاجة للعناية فقط، ربما تفتقد لشيء مهم في حياتها، وربما لا يحبها أحد، أو ربما يضايقها الآخرون… سآخذها وفي البيت سأعتني بها وستستعيد عافيتها وستغني وتسعد

حتى ان البائع حين رأى الدَّرَّاء على تلك الحالة المزرية، لم يجرؤ على تحديد ثمن معين، واكتفى بأورو واحد من دون مفاصلة

في المنزل بقيت الدَّرَّاء كئيبة صامتة طول الوقت، لم تغني، ولم تفتح منقارها لأكل. وأمي تحزنها حالتها، تتوقف أمام قفصها وتبكي في صمت، أبي الذي جهر لنا مرارا بأنه لا يحب الطيور بتاتا، حملها خلسة إلى الطبيب البيطري، وسدد لهذه الإستشارة مبلغ 75 أورو، دون جدوى.. وعندما اكتشفنا فاتورة الأتعاب الباهظة ضحكنا فيما بيننا، إلا أمي التي حزنت لحالها، وشفقة بها اشتريت دَّرَّاء أخرى كي تؤنس وحدتها

لم يمض وقت طويل على طلاقي، حتى فاجأتني أمي مرة وهي تعرض علي شابة لا تخطئها العين، ممشوقة القوام، بهية، بضة، ريانة، رشيقة، مشرقة، ساحرة، وسيمة، مثيرة، وضاجة بأنوثتها..

أخيرا يتوحد رأينا معا، حول فتاة أحلامي، وهذا بالفعل ما أرغب فيه، وما ابحث عنه لتحقيق أمنيتها الوحيدة في إنجاب حفيد يؤنس وحدتها

لكن أمرا ما بقي يشغلني ولم أستطع أن أجد له تبريرا معقولا.. وجعلني أفكر دوما في الأسرار الكامنة وراء الفتاة التي اختارتها لي أمي بدون شروط، وبين أمي وطيبتها، واختيارها الصائب دوما، وطبعها المسالم أبدا، والرغبة الأكيدة في تحقيق أمنيتها الوحيدة، وبين حزن الدَّرَّاء.. وتحولها بين عشية وضحاها الى كائن حيوي نشيط أفلح في إضفاء الفرحة على قلب أمي

هولاندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى