محمد سرور - صاحبة الظل المحني.. قصة قصيرة

كنت قد اعتدت, منذ فترة, كلما وجدتني وحيدًا, أن أبحث عن أي شعاع نور وأطارد ظلي، أراقصه أحيانًا أو أدعوه لكأس، أفتح معه حديثًا طويلًا، أحكي له أسراري ويخبرني هو عن حكايات سرية, لأشخاص آخرين, سمعها من ظلالهم, في اجتماعهم الليلي, بعدما يخلد أصحابهم للنوم. تُضحكني بعض تلك الحكايات, وتحزنني أكثرها؛ فمثلًا قصة «صاحبة الظل المحني» التي تسكن في البيت المقابل تحزنني كثيرًا.


ذات صباح، وحيدًا كالمعتاد, دعوت ظلي لرقصة قصيرة. أدرتُ الموسيقى ووقفت أنتظر. جاء سريعًا ولم يتأخر. ظلي خفيف ونحيف, مثلي تمامًا. يرقص بخفة ورشاقة, لا أستطيع مجاراته فيها. يقوم – وهو يرقص – بحركات مجنونة قليلًا, تبعث في نفسي السرور. في وسط وصلة الرقص الضاحك هذه رأيتُها, تقف في الشُّرفة المقابلة, شريدة وتنظر إلى الفراغ بحزن، جميلة رغم عبوسها، في العشرين، أو قد تزداد عامًا أو اثنين.. رأيتها تنظر إلى ساعتها بقلق, قبل أن تدخل وتدير ظهرها للشُّرفة. تركت ظلي يرتاح واتجهت إلى الشرفة أراقبها. كانت تحدِّث شخصًا يقف أمامها بحدة, فهمت هذا من حركات يديها وإشارتها المتكررة لساعة يدها. ابتعدت عن مجال الرؤية فرأيته هو, ظِل رجل عجوز, محني الظهر, رأسه منكَّس لأسفل. رأيتها تمد يدها إليه, فتلقَّفتْها يدُه المرتعشة, ويده الأخرى أحاطت بخصرها, وبدآ يرقصان ببطء. هي خفيفة, والعجوز يشل حركتها.. شعرت بالحزن في تلك اللحظة, فتاة جميلة, مع ظل عجوز محني الظهر, ورقصة رديئة.

فمهت أنها وحيدة مثلي, تراقص ظلها. ولكن لم أفهم لِمَ ظلها عجوز محني الظهر بهذا الشكل. ربما ظل والدها, رحل ولم يترك لها سوى ظله. لم أجد تفسيرًا مقبولًا. دفعني الفضول إلى مراقبتها يوميًّا. كل صباح, بعد الرقص أو الكأس, أدع ظلي يستريح وأجري إلى الشرفة. أنتظر رقصتها الحزينة مع العجوز, وأحيانًا أخرى قليلة, كانت تفتح حديثًا معه. حتى الحديث كان يبدو – من بعيد – فاترًا, أو من طرف واحد.

قررت أن أثير انتباهها إليَّ, لم أفهم السبب الذي دفعني لهذا, لكني شعرت بنوع من الشفقة تجاهها. أنا مثلها, الوحدة تمزِّقني, ولكن على الأقل ظلي يرقص جيدًا, كما أنه يجيد فتح أحاديث وحكي حكايات شائقة.

حاولتُ أن أشير لها بيدي من الشرفة, كلما اتجه نظرها ناحيتي تجاهلتني أو لم تنتبه إليَّ, لا أعرف. لم أستسلم, كنت مدفوعًا برغبة أجهل مصدرها. سألت ظلي في أحد الصباحات: «هل تعرف ذلك الظل العجوز؟». أجاب: «أراه أحيانًا في اجتماعاتنا الليلية. يجلس وحده, لا يشاركنا الأحاديث, كما أنه لا يستجيب لمحاولاتنا في فتح أي موضوع. يجلس في ركن بعيد, يقرأ كتابًا أو يراقبنا في صمت. ظل غريب, لا أحد يحبه, على الرغم من أن الكثير يشفق عليه».

قررتُ أن أكتب رسالة, وأرسلها مع ظلي, ليسلِّمها للعجوز. حاولت أن تكون رسالة قصيرة, مقتضبة, تُظهر اهتمامًا من دون أن يخيفها, حتى لا تظن الجميلة أن هناك عيونًا كثيرة تراقبها. فردتُ ورقةً أمامي, وكتبت: «أرى أنكِ تجيدين الرقص, على العكس من ظلك, الذي لا أدري لِمَ هو عجوز هكذا!». ووقَّعتُ باسم «الشرفة المقابلة». سلمت الرسالة لظلي, وأوصيته, حتى إن لم يجد ظل العجوز الليلة, يبحث عنه حتى يجده. الأمر ضروري, ألححت عليه.

في الصباح التالي, انتظرت في قلق, بعدما أخبرني ظلي أنه سلَّمها للعجوز ليلة أمس, بعد رحلة بحث طويلة, قضاها وهو يجوب الأزقة والحواري, حتى وجده, تحت عود إنارة قديم, يقرأ كتابًا عن التاريخ, وتنحدر من عينه دمعة, على صفحةٍ طواها من الكتاب.

رأيت العجوز وهو يسلِّمها الرسالة, ويشير إلى شرفتي. تسلَّمتْها هي بدهشة وهي تنظر باتجاه أصابع العجوز. ابتسمَتْ وهي تقرؤها, أول مرة أراها تبتسم, حلوة هي, ورسالتي زادت من حلاوتها. غابت عن نظري قليلًا, قبل أن تعود وفي يدها ورقة وقلم. كتبت رسالة وسلَّمتْها للعجوز, ورأيتها تشير لي تجاه العجوز. لا أعلم لِمَ لَمْ تقذف لي بالرسالة مباشرةً من الشرفة, لِمَ عليَّ أن أنتظر حتى يجتمع العجوز بظلي, ويسلِّمها لي. لِمَ تلك الدائرة كلها؟

انتظرت على مضض, حتى جاءني الرد في المساء, أخبرت ظلي ألا ينتظر للصباح, سَرَت رجفة قوية بجسدي مع كلماتها: «أنت تعلم, ربما أكثر مني, أننا نعيش في مدينة ضبابية, مطموسة الملامح والهوية, الظلام يزحف كالثعبان إلى كل ركن مضيء, يلتف حوله حتى يبتلعه, يتمدد على حوائط بيوتنا. كل يوم, أرى الحوائط تزداد ظلمة, يتغيَّر لونها, حتى نسيت لونها الأصلي. مصابيح أعمدة الإنارة منكسرة في الشوارع, الذباب يحوم حول كل شيء, الأشجار باتت عششًا للخفافيش, الجرذان تشاركنا الطعام. كيف يمكن إذًا لظل أن يحيا خفيفًا وسط هذه الأجواء كلها؟ ما الدافع لخفته وفرحه؟».

احترتُ في الرد, هل أشاركها حزنها وأنغمس معها في ظلمتها, أم أحاول أن أسرِّي عنها، ربما برقصة حقيقية مع ظل خفيف ورشيق؟! قررت أن أبعث لها بعض الكلمات الخفيفة المبهجة, مع ظلي، ويدعوها لرقصة. كان ظلي يشرب بمهل كأسه, بوجه شاحب, على غير عادته, عندما أخبرته بالأمر. يرفع الكأس بضعف, حتى تكاد تسقط منه, كما أنه– ظلي – يبدو كالمريض. حدة ظله خفتت قليلًا. كما أن الظلال المتناثرة التي كانت تمثل شعره تقلَّصت, وكأن شعره تساقط. سألته ما به. أجاب بأنه لا يعرف، شيء ما يخنق روحه, عضلاته لا يشعر بها, يتحرك ثم تتحرك بعده سحب الظلال الداكنة, وكأنه يسحبها سحبًا معه. قال إنه سيحاول التغلُّب على تعبه, وسيفعل ما في وسعه لإسعاد الجميلة. رأيته وهو يتحرك تجاهها بوهن, يصل إليها, يهمس لها بكلمات رقيقة, تبتسم برقَّة, تمد يدها, يتلقَّفها هو في جهد واضح, يرقص والظلال الداكنة حوله تتبعه كظله. زاد من سرعة خطواته, وكانت هي خفيفة, مثلما كان هو, أو ربما أخف. عندما تركت قدميها للرقص, انطلقت ترقص برشاقة, تسحب يد ظلي في سرعة, تستند عليه وتدور حوله وجسدها مرفوع في الهواء. رأيت بعض الظلال تنسحب من ظلي, وهو يرقص وتصعد لأعلى, لتختفي في الهواء. أخذ ظلي يتقلَّص, مع زيادة وتيرة الموسيقى والرقص, حتى إنها عندما توقفت الموسيقى, كان ظلي قد اختفى تمامًا, وسقطت هي أرضًا.

هذا الصباح, أفقتُ على وحدةٍ تمزِّقني. دعوت ظلي لكأس كالمعتاد, لم يأتِ. نظرتُ من الشرفة, وجدتها تقف وحدها, تنظر إليَّ بوجهٍ حزين, ظلها لم يأتِ أيضًا. حينها فقط أدركتُ أن العتمة أصابت مدينتنا, تمامًا.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى