أحمد البدري - كابوس.. قصة قصيرة

ثوبها الأسود ينبئ عن حياة بائسة ، عندما أخترقت الجموع بلا مبالاة لم يعقب أحد لم يهتم أحد، تقدمت أسرعت خطوها حتى وصلت إليه، جلست القرفصاء حملقت إليه جيدا، وكأنه يراها أو ينهرها كعادته معها، دموعها المتساقطة المختلطة بالخوف والحزن جعلت وجهها أكثر توهجا، تلوك بين شفاه يابسة حروف مبتورة، وكأن تلك الشفاه لم تلامس الزاد من سنين غابرة، كانت حركتها ثقيلة جدا وبطيئة جدا، وكأن تلك حروف حملا ثقيلة عليها، مما ساعد على امتزاج الحروف وتداخلها لا يكاد أن يفقه منها شيئا، إلا أن وجود الغمازات النائمة بجوارها لطفت قليلا ، وأضافت بهاء وبريقا خفف من تجهم وجهها ، بينما تعدل من جلستها وتقتل وحدتها تقدم نحوها رجل كفيف يتلو بعضا من الآيات، لم تكن حروفه أكثر وضوحا كان يخرج طنينا مرتبا، امتدت يديه المرتعشة نحوها

هيأت نفسها لمنحه قليلا من النفحات، همس بصوت واهن (رحمة الله عليه) كانت يده الأخرى تصطدم بجسدها، أغفلت ما أحست به ، أرتفع صوتها عندما وجدت يده تروح وتغدو بين ثنايا جسدها، ودون أن تشعر كانت كفيها تهبط على وجهه كالبرق وقد أحدثت صوتا تجمع له زائرو المقابر الأخرى، تسلل الأعمى من بينهم كفئران مذعور، بينما كلمات اللوم والمواساة متشابكة تخرج من الأفواه تقليدية لا تضيف جديدا، و قد ملت سماعها وخاصة من الجارات وهي مصاحبة لأماطت شفاهن التي تقول كلام كثيرا فوقها ، نظرت إلى الشاهد ترسل إليه بعبارات اللوم والعتاب، كلما أوغلت في الحديث تصدع الشاهد وزادت التشققات تخليت أن التصدع يصاحبه أنينا ومرات زمجرة قط غاضب، ارتجفت..أصابها الرعب مصاحبا لقشعريرة في البدن لم تجد ما تتدثر به ….

من بعيد ..واقفا وحيدا مندسا خلف أحد القبور يتابع ما يحدث بعناية شديدة، بهدوء تقدم إليها داهسا نبتات الصبار أسفل قدميه غير عابئ بأنينها وقلة حيلتها، رسم في عينيه دمعتين، أقترب منها مد ذراعيه رفعها عن الأرض قليلا ، بنظرة حانية احتواها .. أباحت له قيادتها دون شرط وقيد، بوقار زائف وحزن مصطنع مغلف بعبارات ودودة قدم لها واجب العزاء، اخترقت عيناه صمتها المتحفز، تكسر ما تبقى من حصونها الهشة، نامت يداها بين راحتيه في سكينة تامة، أزداد وجهها اشتعالا من بريق كلماته في أذنيها، همس إليها أنه صديقا و أخا للمرحوم ، سرد عنها وعن المرحوم الكثير .

بث الأمان و الطمأنينة في قلبها ..أيقنت صدق كلماته ، اتخذا طريقهما للخروج من عالم الموتى، أسكرتهما رائحة الحياة، حاول أن يزيح عنها تراب الماضي، تبدل حديثهما، لم تنطق الشفاه .. كانت العيون كفيلة أن تقوم بدور استثنائي هذه المرة، اعتذرت منه اخترقها بابتسامة ..تكتمت أنفاسها المستعرة داخلها،رفعت جفنيها ببطء شديد تشكره، دس بين كفيها عدة أرقام، تمنى عليها أن يقدم خدماته وفي أي وقت، احتوت الأرقام بصدرها أرخت جفونها ببطء شديد تبسمت ورحلت بعيدا عنه .

ظنت أن المسافة بين حدود المقابر ومنزلها أميالا، أحست وأن خدر يغزو جسدها ، أخذت في الترنح وقد عجزت أقدامها على حمله، تصاعدت أنفاسها وكأنها في مضمار عدو تبحث عن خط النهاية.

ألقت بنفسها على سريرها الجريدي وكأنها لم تنم دهرا،ظنت أنها بعد هذا اليوم في انتظار زائر الموت، تركت لأناتها المكتومة داخلها حرية الانطلاق، أخد صدرها يعلو يهبط، راحت في عالم سحري جديدا عليها بعيد عن الآخرين ….

كاد سقف الحجر ينطق على الأرض والجدران تتلامس ووحداتها تتساقط على وجهها، كثرت حركتها العشوائية محاولة الاستفاقة من هذا الكابوس.

أخذت نفسا عميقا ضمت ملابسها المبعثرة وبقايا من حطام روحها المبعثرة، نظرت إلي النافذة المفتوحة على مصراعيها وضوء شاحب يتراقص، لم تقو على ترك مخدعها ، استسلمت للنوم من جديد، أطبقت جفنيها لكن مازالت صورة الشاهد المتشقق تزاحمها وتلك القطة تموء في أذنيها وهي تزيح عنها تراب الموت، أحست بأن هذا التراب يخنقها وأن رائحته قريبة منها،تمد يديها تمسح على عينيها وتحاول طرد تلك الصورة من داخلهما تحاول مرات ومرات لا تفلح، تيقنت أن القطة تجلس أمامها وسرعان ما تجسدت صورة المرحوم نظر إليها موجها إليها قذائف من غضب واستنكار، لفها الخوف والرعب لا تملك سبيل لطرد ما هي فيه، تماسكت قليلا بحث عن تلك الأرقام في صدرها لم تجد لها أثرا


كابوس ..قصة: أحمد البدري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى