بابكر مبارك كرم الله - آخر فكرة.. قصة قصيرة

كان صغيراً ، فلم يكن عمره قد تجاوز الثانية عشرة إلا بشهر واحد، لذلك لم تك لديه الكثير من ذكريات العمر والحياة لكي تتدافع متزاحمة في رأسه الصغير ذو الشعر الناعم الحديث الحلاقة ، والعينين شبه الناعستين ، والأنف الحاد الشامخ والذي كان دائماً ما يسمع الناس يشبهونها بأنف والده (صالح) أو الشيخ (صالح) كما كان ينادى عادة في القرية نسبة لكبر سنه المختلط بالوقار، والأكبر من ذلك إمامته للناس في مسجد تلك القرية التي تقبع حالمة وادعة على النيل. هذه الذكريات على شحها فقد وجدت لها في رأس (الطاهر) متسعا لكي تلهو، وكل منها تصر على الوصول أولاً والبقاء أطول فترة ممكنة في الرأس الصغير . كان أسرعها في الوصول صورة وجه والده ، بملامحه الحادة التي تقارب القسوة وشاربه الكث ولحيته التي اصطف فيها الشعر الأبيض والأسود بانتظام عجيب حتى يخيل إليك في بعض الأحيان أنها لحية مستعارة. تذكر وجهه وهو ينظر إليه من خلف نظارته السميكة والتي هي جزء من شخصية الشيخ (صالح) ، فلم يكن الصبي يذكر أنه رأى يوماً والده من دون هذه النظارة. تذكره وهو ينظر فيه لا إليه من أعلى إلى أسفل ويصرخ بصوت ينم عن كبر عمر الشيخ :

· لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟ أين كنت؟!! ثم أين ذهبت بعد خروجك من المدرسة؟؟؟

وكعادة الصبي عندما يستجوبه والده في مواقف مماثلة عن سبب تأخره ، يشعر أن الدم أصبح أكثر لزوجة في عروقه، وأن حلقه لم تبق به ذرة من لعاب وحباله الصوتية عجزت عن الاهتزاز لإصدار أي صوت يدل على أنه سمع كل هذه الأسئلة.

* * *

انتزع الصبي من ذكرياته شعوره أن أمواج النهر بدأت تزداد علواً وأن أقدامه لا تجد لها مستقراً . أحس أن الوصول للشمس إذ ذاك أسهل كثيراً من الحصول على ربع ما كان يحصل عليه من أوكسجين قبل دقائق معدودات من هذه اللحظات عندما قفزت لرأسه بعد خروجه من المدرسة في نهاية اليوم الدراسي فكرة الذهاب والسباحة في النيل ، وقد شجعه على ذلك أن اليوم الدراسي انتهى باكراً على غير العادة نسبة لتغيب معلم مادة التأريخ عن الحصة الأخيرة بالإضافة إلى أن اليوم كان شديد الحرارة على عادة أيام شهر مايو، وسيطرت عليه الفكرة حتى أنه نسي أو قل تناسى كل عواقبها.

بالرغم من صعوبة الموقف فقد اغرورقت عيناه بالدموع عندما أطلت على ذاكرته صورة وجه أمه الحنون ذو الثلاثة شلوخ الرأسية المتوازية وهي تبكي وتنتحب :

· لماذا فعلت بي ذلك يا(الطاهر) ؟ لماذا تركتني يا ولدي ؟

كان أكثر ما يشغل بال الصبي ويجعل قلبه ينتفض خوفاً هو أنه إذا ابتلعته هذه الأمواج فإنه لن يذهب غداً إلى المدرسة وسيكون عرضة للضرب والتوبيخ من قبل أستاذ (عبد الله) ناظر المدرسة ، وهو الموقف الذي ظل طوال مشواره الدراسي القصير يتجنبه بشتى السبل.

بدأت عضلاته ترتخي وأحس أنه ينجذب لأسفل كحجر وحاول التشبث بأي ، ولكن يبدو أن الكل قد تخلى عنه في هذه اللحظة ، حتى القشة التي يقولونها في المثل ظن عليه النهر بها. وفي هذه اللحظات وكآخر محاولة للخروج رفع يديه عالياً كأنه كل ذكرياته ، يودع وجه الوالد الشيخ ، والوالدة الحنونة والأصدقاء في المدرسة وحتى الناظر لم يبخل عليه (الطاهر) لحظتها بالوداع.

وفي مسجد القرية عندما كبر الشيخ (صالح) تكبيرة الإحرام للدخول بالناس في صلاة الظهر ، كان النيل لحظتها ساكناً هادئاً كأنه لم يقترف جرماً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى