نفيس مسناوي, - إعدام شبح أشبه بصلب

إلى الصديق الراحل, توفيق العمراني
وذكرى ليل ملتقى ميسور.


كاخ كاخ كاخ كاخ كاخ كركلاخ عند اليوم الذي تم تنفيذ حكم الإعدام السري على جثتي بست طلاقات رصاص بندقية أصابت إحداها القلب, الثانية استقرت في العنق, واحدة بلغت الأنف, الثلاث المتبقية اخترقت جمجمة الرأس في مناطق مختلفة, تم إيقاف الملعب لمدة شهرين نظرا لحالة الفوضى التي عمت المدرجات مباشرة بعد إطلاق الرصاص على الجثة. كما تم ذكر اسم شبحي مساء ذلك اليوم في البرنامج الرياضي للقناة الثانية والأسباب التي أدت إلى ارتكاب الجريمة الشنعاء ضدي. أبي كان يعلم مسبقا أنهم سيبثون الخبر في البرنامج الرياضي كما أخبره ط ح الذي ذهب إلى الأستوديو لتقديم تصريح حول ذلك, هو من كان وراء اعتقالي واقتيادي للملعب قبل دخول الجمهور. لهذا أغلق أبي الباب من دوني ولم يسمح لفرد من أفراد عائلتنا باقتحام تلك الغرفة بمن فيهم أمي التي كانت تعلم أنهم سيذيعون خبر موتي في البرنامج الرياضي قبل نشرة الأخبار التي تليه فلم تتحمل النبأ على كاهلها, انتفخت وجنتاها لشدة البكاء واحمرت مقلتيها فلم تشبه نفسها كما تعودت على حضورها في البيت, بؤبؤا عينيها اتسعا, سال الكحول على خديها مدرارا, لم تملك ما تقوله لي.
ولما انتهى بث البرنامج قدمت هي وأبي نحوي ولم يجدا ما يقولانه سوى أنهم ذكروا الخبر بلا تنكيل, أني كنت السبب في كل شيء والمسؤول الأول والأخير عما حدث على حد كلام ابن الجار ر ب. كل الأصابع تنعتني وتشير إلي قيلولة ذلك اليوم مع ولوجي الملعب محمرا بالخجل قبل كل المشجعين. أما أنا, لم يفاجئني خبر موتي قط, تمددت على السداري لأحلم بعض الشيء. لم يصلني الروبورتاج عن موتي من الحجرة الأخرى كاملا, أسمع تصريح ط ب, ولم أكن أعرف أنه يخص خبر إعدامي وملابساته. تعرفت على صوته على بعد عدة أمتار تفصلني عن جهاز التلفاز من الصالة, أو قلت قد يكون شخصا آخرا غيره له نفس الصوت. فضلت قراءة أي شيء آخر والتنازل عن هذه اللحظة لصالح لحظة أخرى. كل الأخبار التي نسمعها أخبار عادية, وقد تكون أحيانا صادمة تفسد راحة البال لأيام وشهور وحتى سنوات, تغير من المزاج, تترك أثرا, وتتحكم في نفسيتك كما تود هذه الأخبار. تصفحت كتابا عن الموت قمت بشرائه لهذه الغاية زمنا فلم أف بالقراءة إلى بعد أن تحقق نبأ إعدامي. لم أكن قط أتوقع أن جارنا هو نفسه من سيدلي بالشهادة حول ظروف الإعدام والأسباب إزاء ذلك.
أنا ولا أحد سواي جهر بما جهر, لا مناص. عصموا عيني بقطعة ثوب كستنائية كي لا أحملق في ملاك الموت وأستشعر وجوده من حولي, ربطوا يدي من المعصمين بحبل مشنقة وشدوهما إلى الخلف. سألوني عن رغبتي الأخيرة, طمأنوني أن الأمر لن يمر بالصعوبة التي أتصورها. سأبصر ما سأبصره لأدخل أبعادا حياتية أخرى. حواسي يمكن أن تنخدع برهة لأجل هذا, لم يظهر لي ملاك الموت فتوقعت أن يفشل تنفيذ الحكم على الجثة أو تطول المدة بين اقتيادي إلى ملعب الفتح الفارغ وإطلاق الرصاص على جثتي, أو بالأحرى تأجيل تنفيذ حكم الإعدام لسبب آخر.
وإذا لاح ملاك الموت فيمكن لي عنوة حينها أن أصفه أو أكتب عن ظهوره إن أفلت, الكلمات التي خاطبني بها الملاك, كيف تحسس ساعة التنفيذ وجاء بسرعة براق خاطفة إلى مدرجات الملعب, اللباس الذي كان يرتديه, نوع الابتسامة التي أرسلها لي من ثغره, والشكل الذي ظهر فيه. العالم المقبل الذي بزغ لما أطلقوا الرصاص فالتقطت هذا العالم بعض العيون المتفحصة الحاضرة دون أن يقع إغماء. اكتملت صورة زهدي في مرآة نظراتهم وهم يقتادونني إلى الملعب, الكثير منهم لا يعرفني لكن بعض الرفاق القدامى لم يروني منذ مدة فاشتاقوا إلي, تعرف إلي ع الذي حياني وفضلت تجاهله لأنه كان بمعية قريبته مدرسة الانجليزية التي قالت بأني أنا من أفسدت ع كما يفسد الأكل, ومنهم من لم يستصغ تواجدي كشيخ الزاوية الشاب مهزوما, ومنهم من لم يتمكن من التنبؤ بشيء أو تكهن بالخطأ تماما كما في أوراق اللوطو طيلة نصف أسبوع من التكهن والحظ قبل المقابلة. أي اسم ولقب على بطاقتي التي في جيبي التي جلبتها لأتأكد أني أنا وليس شبيه, الوطن الذي لم أستبدله. فما انفككت أشرب حساء العصيدة الساخن والمسكر, أنتشي طعم السخونة والحلاوة, أتجرع بملعقة بطيئا حلاوته لأعرف قيمة وجودي وخفة اللحظة الاسثتنائية لشعوري بنفسي حتى طرق صديقي وأخي أ ب س باب المنزل لينقل إلي مشاعره ويبادلني نفس الشعور تقريبا الذي يخامرني, لا يزيد أو ينقص لما سمعته من جهاز التلفاز من بعد, دفء المودة الصريحة التي جمعتنا منذ أول وهلة, فقلت ها نحن نلتقي بعد غياب قصير سببه الحرب محتفين بجذورنا, بحلة أجد وتألق عينين.
قال أنه مستعد لأن ينظم حياته على نفس إيقاع الحياة السابقة مدافعا عن نفس المبادئ لكن بطرق مختلفة, أكثر نضجا وتألقا. تأكدت أنني فعلا أمام الموت وليس على خطوط تهيِِِؤات لما تعرفت عليه بعد طرق الباب من خلال الحلقتين اللتين تزينان أذنيه. الأشخاص الذين فقدتهم والتقيتهم يا فرحتاه, الأشخاص الذين فقدتهم أردت التقاءهم وعزلت عن إرادتي, ثم الأشخاص الذين لا أحب لقياهم مرة ثانية, الأشخاص الذين لا أحب التعرف عليهم, المعتقل الذي لم يكن أشد وحشية. لأعتني بك يا روحي أكثر من الأسبق لتثمري.
قال لي أننا بسبب قراءاتنا ولجنا عوالم لا يمكن ولوجها للأميين وأننا مستعدون مهما كلف الأمر الدفاع عن هذه العوالم. أقفلت الباب من دونه بعد أن نزل الأدراج بسرعة خاطفة, سحبته من خلفي بيدي بالهدوء نفسه الذي فتحته. قاموا بمجهود جزافي خرافي كي لا نكتب ونحط حرفا واحدا على أوراقنا, إذ لم نهمس بعد بأي شيء لأوراقنا العذروات. قاموا بمجهود خرافي لخدعنا وتضليلنا بحسدهم وأوهامهم. هذا ملحوظ بالحس واللمس. القصدير يضيق على البرد القارس. قاموا بمجهود كي ننسى ما هو أهم. يخشون شراء تلك الكتب, يخجلون من قراءتها أمام أقاربهم والتمشي معها في الشارع بحرية. يكررون ما يقوله دكتاتور الكلمة, يحسبون حسابا لكل كلمة يقولها.
الأميرة المكسوة بزغب زهوها لا أود أن أصرخ في وجهها بسبب صعقات الكهرباء كي لا تمحي, امحت قبل قليل لما صرخت, لا أعرف كيف امحت ولماذا اختارت هذا الحل من بين حلول أخر, تقضم من خصيتي المخبر ع ب فيصير من دون خصيتين. المخبر هرم, بلا خصيتين. هي تعرف كل الكتب التي قرأتها وتستظهر مقاطعا منها كأنها عاشت لشهور قربي وتريد مطارحتها معي, كتابا كتابا, كاتبا كاتبا. تكاد تكون شخصيتي الأنثوية, تصر على أنها قرينتي, بأفكار جمهورية علمانية مضطربة وخجولة لاستئناسي. تود أن توهمني أنها قرينتي من الجن مصدومة من مشهد البرزخ الذي بينهما, أنها من عالم وأنا من عالم آخر لن نلتقي أو نتعايش, فتستمر في اللهو بجسد المخبر فاتحة أزرار جينزها المثقوب من الوسط, مزيلة حذاءيها الرياضيين النايك, مقتلعة الجوربين إلى الريح, متسللة برتيلاء أصابعها إلى أزرار فتحة سروال المخبر, اختفت وعاودت الظهور في الطرف الآخر من الملعب ترقص منادية اسمي ثوان بعد دخول الجمهور إلى المدرجات مرددا شعارات سياسية طويلا قبل الهتف باسم أحد اللاعبين ذي شعر طويل أشقر قرر العودة إلى فريقه.
تحلق الأميرة أذني بشفرة وتضعها في إناء صقيعي به ثمان مكعبات ثلج. يطعنني المخبر ع ب مبتعدا عن عانة الأميرة طعنات في مناطق من صدري مختلفة كأنما كنت اللغة أو لغة تعبيره فيتلون قميصي. يتكلم الحجر. تطير روحي مثل حمام لاكازابلانكيز عاليا ما أمكن إذ فزعت هذه المرة حقا كأي مخلوق. تطير روحي, تتهاوى على الأرض بسبب خزرة من إحدى الزيجتين اللتين يتوسطهما المخبر. هيئ كل شيء لأطلـق الكتابة وتطلقني, لا يهم... هل انسحبت تلك الطاقة التي تجعلك تقلب الكفة رأسا على عقب, الطاقة الهائلة نفسها التي تجعلك تبدع, الطاقة التي هي أكبر من الحب, طاقة الكتابة, طاقة نبوءتك ونبوغك, هيولى حيواتك ومماتك. المدرجات تمتلئ. يداك مكبلتان. طار حمام أحاسيسك من عشه, جف ريقك فتروي عطشك بموسيقى طفولتك التقدمية الصاعدة من كراج الفليبر ورقصات ر ح أمام فرقة البراريك, جريها وراء الأخريات لترشهن صباح العشوراء, الأشرطة اللذيذة التي تم استخدامها من أجل تجميد لحظات فانية, صور عالمك السياسي المتورم.
المخبر أمامك, تعرفت على هويته يتوسط زيجتين حتى لا يمل جلسته مع حديثك الألف وثقتك فيك. سحنة المخبر الواجمة كتلة من الحقد والمكائد المرتقبة والفائتة المختزنة منذ أمد. الشمس وراءك تقشر ليمونة ظهرك وتطير جلد كتفيك العاريين. تلتفت وراءك لتتأكد ما إن ولج الجمهور بعد إلى الملعب. نعم قد تكون فعلا السبب في كل ذلك وقد خيرت فعلتك, لا أحد غيرك قد يكون السبب. تنزهت مع الموت أربعين ألف مرة خلف العسس بجانب بوليس الكلمة, ولم يكن الموت مرعبا. لهذا لا يخيفك أبدا. تتقزز أسنانك منه, تتهكم عليه كلما سنحت مناسبة وقد تضحك معه طويلا. أحيانا تعجب به وتدخن سجائرا من علبتك الحمراء والبيضاء لجلب إعجابه بك, تقارنه بالرحيل أو القدوم. تنهال الضربات عليك لإرضاء دكتاتور الكلمة الشنيع بخبثه, نعم فيما تجلس ساحرة الفريق إلى جانبك بعد أن استدعاها الواشي الناعتك بأصبعيه معا, تسألك عن الكتب التي أثرت فيك وهل تعرف أنت كاتبها المفضل الذي حررها من كآبتها وضرها. أنت تتحمل كل هذا يصعد بك ينز, وتتحمل أكثر, تتوجع ببهائك, تود لو تكمل نصوصا لم يشب شعر رأسها لما تعود إلى حيك.
"شحال عدموا فينا آ خويا..." تهطل كلماتك أرق من تمزق الماء متسارعة.
ظلمتني, ولم أظلمك. لن أضمك بعد إلى حضني, لن أتصفح كتابك بالطبع. كنت تعرف ذلك من قبل, صروف المراسلات المتبادلة بيننا والوصايا غير المجدية. اضطرابك في آخر مكالمة. أنت لست بأبله قط, ونصوصك الحقيقية رقابية, حظك وحدك, نبرات أصواتنا تتواصل في أذنك. هل مرثية تليق؟ لن أنظم إيقاع احتضارك أي أخي ما دامت أنفاسي متفوقة لغاية هذا الوقت على تكشر سحنات المخبر, أجاريه؟ ما يحتمل أنك كتبته ولم تعثر عليه. ما يحركك. فهمت طريقتك. تنقشع الغيوم وتتضح الرؤيا. تتدافع الكلمات, تندفع لتدور الناعورة. المسافة بينكما قانونية سدا بينك وبين جاذبية الأرض لقمر أحلامك. يهبط الوحي على دفعات. تجلسان وحديكما سويعات دون أن يصير الوحي محسوسا.
المكان هو النبي. ضمآنا, صبورا, تحفر بفأس لتجد الماء. تنسى امرأة في أقرب امرأة إلى كلامك.
شحال عدموا...
..........................
تم تنفيذ حكم إعدامي دون إطلاق الرصاص كما اتفق في المداولات بين أعضاء العصابة الشرذمة, قبل اقتيادي إلى الملعب الفارغ دقائق قبل دخول مشجعي الفريقين على مراحل متفاوتة, قبل ولوج اللاعبين العشب الأخضر للإحماء, قبل ولوجهم الملعب بأقمصة مختلفة عن أقمصة الإحماء, قبل إطلاق صافرة اللعب, وامتلاء المدرجات عن آخرها بالمتفرجين المترقبة سحناتهم الكارثة. تهاوت الجثة بسبب كل ذلك وصارت حطاما. صرخت بشدة أمام الجميع بعد أن تم رميي من أعلى من طرف مرتشين تحلقوا حولي لتطويقي وحملوني إلى السور المنحدر الذي يمكن بيسر تسلقه.
ينشطر الفضاء جزيئات للتموج. دبدبات اهتزاز أجساد المشجعين, ارتفاعها جذبها هياجنها صفيرها صفيقها. أمي تمسك بإناء من البديع مشقوق متآكل وترش قطرات الحليب على زوايا البيت. نساء أمازيغيات غير ملثمات وشم قبلي موحد على جبهاتهن وأيديهن, انضممن جماعة إلى طقس بكائي فجاعي شرعن في مراسيم من الوجع والندب, ينشدن أهازيج رثاء منتظمة مرتقات بنحيبهن رحاب البيت, تدلى لسان إحداهن على قصعة الكسكسي إلى أن نهضت...
شتنبر 2007


نفيس مسناوي,


نفيس مسناوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى