علاء عبدالمنعم - يَوم تكلمَ الظّل.. قصة قصيرة

كنتَ تظنني مثل عشيقاتك الفائتات، سأقبلُ بانمحاق كبريائي بين رحى غرورك، لا لشيء سوى توهمك عجزي عن الانفصال عنك، فأنا تابعُكَ الذي تستحضره بومضة ضوء وتمزّقه أشلاء بضغطة زرّ.
أعلمُ جيدًا بغضك لي، أتلمسُ لك في بعض الأحيان سيلاً من الأعذار، فظهوري على نحو مفاجئ أفسد عليكَ العديد من نزواتك المحمومة، أضاع منك أحاسيس النصر الملحاحة، وأحالها أشباحًا من القهر والإحباط المقذع؛ أستعيدُ من خدر الذاكرة ملامحكَ الساخطة حين حرمتُكَ لذّةَ المُلامسة المألوفة، كنتَ قد تهيأتَ تمامًا، اخترتَها بدقة من بين كل المُنتظِرين في صالة الاستقبال الواسعة أشهدُ لك بحسن اختيارك، لم تستعجلْ الوقت كعادتك، رأيتَها تهمُّ بمغادرة المكان، حان الوقت إذن، ستبدأ الركض كالمعتاد عندما تشاهدها وهي تمر من بين أضلاع جهاز الكشف عن المعادن، ستقتنص اللحظة بمهارة، ستندفع خلفها مارقًا من بين الأضلاع اللامعة، تزج بنفسك في الفراغ الضيق بينها وجدران الجهاز، وعندما تجلدُكَ بنظراتها المُستغربة ستبادرها بمطولات الاعتذار، تتعلل بالظرف الطارئ الذي استوجب سرعة تحركك فحدث ما حدث دون عَمْد منك، تنطفئ جذوة غضبها وتَعْلكُ باستمتاع كلامَكَ الممزوج بلعاب المكر، بل ربما تكون هذه الفعلة بداية علاقة جديدة.
أعددتُ كل شيء بإتقان ولكنّكَ كالعادة تناسيتني، أخرجتني من حساباتكَ مثل كلّ مرة، ولكنني ما عدّتُ قادرًا على تحمل تجاهلك لي، سأجبرُكَ على احترامي، لابد أن أنتقم لي منك. ترسَّخ التصميمُ بداخلي حين أحسستُ بالمصابيح المُعلَّقة على جدران الصالة الملساء وهي تستصرخني لكي أتحرك، تُعاهدني على المساعدة، أخترتُ الوقت بدقة مثلكَ، لابد أن أبزغ عندما تظن أنَّكَ اقتربتَ من تحقيق هدفك فيكون إحساسكَ بالانكسار أشرس، الآن، تمدّدتُ بشكل مُستنفر، انعكستُ في اتجاهات المكان الأربع، كسيتُ أرض الصالة، واحتضنتُ حيطانها بشبق مسعور، جعلتُ كل من في المكان يتحجر دهشةً، كان لابد أن تراني هي، تنبهتْ لي فأدركتْكَ، أزاحتْ بنفسها بعيدًا عن الفراغ المستطيل وجعلتْكَ تمرُّ وحدَكَ، لم أغضب من سبِّكَ لي طوال الليل كلما تذكّرْتَ شعرَها الفاحم وعنقَها المرمر ويديها الثلجيتين.
أعلمُ أن ذكرياتي معك منذ طفولتك كانتْ مؤلمة، ولكنّه لم يكن خطأي، بل خطأ صديقك البدين الذي فتح فجأة نافذة فصل ثانية رابع الابتدائي، فاندفعتْ أسرابُ الشعاع الأصفر المُتقِد على ذراعك الذي كنتَ قد مددتَه داخل حقيبة مُدرسَتِكَ لكي تقترض منه ساندوتش الجبنة الرومي القديمة التي كنتَ تدمنها، لم يكن اختياري أن أتمدد على سطح السبورة، فأنت تعلم مدى كرهي لرائحة طباشيركم الرديء، ولكنها قوانين الطبيعة اللعينة هي التي أجبرتني على الانبساط على صفحة وجهها البغيض، لم تدركَ هذا لأنكَ أبله، وبدلاً من أن تنتبه كما انتبه كلُّ من في فصلك تماديتَ في فعلتك، وعندما ابتسمتَ من أسفل منضدتك ظانًا أنك نجحتَ في الفوز بالغنيمة وبدأتَ تقضم رأس الساندوتش هوتْ على أصابعك النحيلة المطرقةُ الثقيلة، يومها عدتَ باكيًا إلى البيت، حزنتُ بشدة من أجلك وبللتني دموعك المُتساقطة، وأسرعت إلى أبيك تطلب منه الذهاب إلى مدرسة أخرى، فلا يمكنكَ الاستمرار في المكان الذي قصّوا في طابور صباحه حكايتكَ وما نالكَ من عقاب لكي يرهبوا بك أمثالَك من طويلي الأيدي.
أعرف كمَّ المشكلات التي سببتُها لك ولكني لم أتعمدها كلها، أما أنت فتسعى إلى إذلالي بشكل دائم، تتصيد أخطائي البريئة لتحمّلني خطايا كونِك كلِّها، تبتكر طرقًا جديدة لتجرح مشاعري أمام الجميع، فأنت تسير على الرصيف تحت ظلال الأشجار السامقة ولا تعبأ بتمرغي في أتربة الشارع وقاذوراته المنتنة ونعال المارة الحارقة تدهسني بلا رحمة، تُمسكَ بيد المرأة العجوز لتساعدها على عبور الشارع فيظن المغفلون من الناس أنكَ رقيق القلب، فلو كنتَ كذلك لما تركتني ملقى على الأرض دون أن تخشى علي من أن تصدمني السيارات الفارهة والحقيرة، تتهلل أساريرك إذا ما ألقى علي أحدُهم بقايا الأيس كريم أو المناديل الممخوطة أو الكافولة الثقيلة، وعندما لا تجد من يفعل هذا تبصق علي بنفسك صارخاً برغبتك في الخلاص مني إلى الأبد. اليوم أنا من سيتخذ القرار، سأتخلى عنكَ بإرادتي بلا أسف عليك، فأنت أضعف من أن تقوى على التخلص مني، سأبدأ من اليوم في البحث عن جسد آخر أكثر إنسانية، جسد يَقْبلُني ويحترمني ويعرف المعنى الحقيقي لقدر المشاركة.

د. علاء عبدالمنعم (مصر)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى