حسن اللمعى - رائحة الكافور.. قصة قصيرة

أجلس الآن بعيدا عن قريتى وأهلى ودارى وخطيبتى التى أعشقها منذ صغرى بعدما تعاهدنا على الزواج فور انتهاء امتحاناتى فى دبلوم الصنايع وسط ترحيب وفرحة أهلنا وناسنا الطيبين .. أتيت هنا إلى بيت خالتى فى المدينة البعيدة حتى أهرب من سطوة وجبروت تلك التى تصرعلى هدم حياتى بأكملها وتشكيلها حسب رغبتها الدنيئة
.. سأبدأ ليلتى الأولى هنا فى تلك الحجرة الصغيرة التى سأشارك فيها أكبر أبناء خالتى بالمذاكرة المستميتة حتى أصل لمبتغاى وقد تحررت من سطوتها وسيطرتها وأنانيتها .
كانت ليلة ليلاء تلك التى ذهبت فيها لأسقى أرضنا فى آخر زمام القرية بدلا من أبى الذى ألمّ به مرض عارض على أن أمضى بقية الليل مع دروسى وواجباتى فى وسط السكون الجميل على ضوء الكلوب الصغير وحولى نقيق الضفادع الذى لايهدأ والذى تعودت عليه منذ زمن . فى منتصف الطريق ولا أحد غيرى هناك بدأت أتشمم رائحة الكافور تملأ الجو حولى وفجأة شعرت بشىء ثقيل يضغط على كتفى فى قوة وجبروت للحظات ثم ينتهى . واصلت سيرى متوجسا على أمل أن أجد هناك جارنا فى الأرض المجاورة لنا يشاركنى ليلتى ويؤنس وحدتى .. هناك ناديت ولم يرد علىّ أحد .. بقيت وحيدا وسط هذا السكون المشوب بالقلق .. فتحت المياه على الأرض واتجهت إلى العشة البوص على حافة أرضنا .. فردت كراريسى وكتبى استعدادا للمذاكرة على ضوء الكلوب الشحيح .. لحظات ورأيت هالة ملتهبة تخرج من وسط الأرض أمامى تدريجيا وتتشكل فى النهاية على هيئة فتاة مكتملة الأنوثة تتقدم ناحيتى دون أن تلامس الأرض وكأنها تطير فوقها بقليل .. انكمشت فى جدار العشة البعيد خائفا مرتعدا ورائحة الكافور تستولى على المكان كله .. انتصبت أمامى .. فارعة الطول وجمالها يسلب العقول لكنها ذات ملامح غريبة فذراعاها طويلتان نوعا ما وطولها يلفت النظر وابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيها المكتنزتين .. عاجلتنى بقولها : اقترب ولا تخف فأنا أتيت لك بكل الخير الوفير .. تتكلم لغتنا لكن بلكنة غريبة .. تكمل : أتيت مُحبّة بعد أن راقبتك منذ زمن ووجدتك إنسانا مؤدبا وشابا تحترم أبويك كما أنك مجدّ فى دراستك وتسعى للنجاح بتفوق .. أعجبنى أيضا صدقك فى حبّك لخطيبتك التى تنوى الزواج منها .. لكل ذلك فقد وقع اختيارى عليك لتكون زوجى الحبيب.. تعيش معى ملكا فى قصرى القابع فى أعماق البحر الأحمر وسط الخدم والحشم .. تستطرد : وطالما أنك ستكون طائعا ومحبّا لى فكل شىء سيكون تحت تصرّفك .. فى هلع يتلبسنى أسألها : من أنت ؟ تجيبنى : نحن من عشيرة تترك للبنت حق انتقاء زوجها عند سن معين ومن أى جنس ولون, وقد استأذنت أبى للمجىء لأعرض عليك الزواج .. سكتت برهة وهى تقتحمنى بنظراتها الغريبة ثم واصلت : هيه, ماذا قلت ؟ أسقط فى يدى وتساءلت مفزوعا وماذا عن أهلى وناسى وأصدقائى, والمهم خطيبتى ؟ ردّت : لابأس, ستقول لهم بعد تخرّجك أنك وجدت عملا فى إحدى البلاد البعيدة .. سأسمح لك بزيارتهم والبقاء معهم أياما تكفيك وتكفيهم لتودّهم وتعطف عليهم .. ثم بابتسامة ماكرة تعلو شفتيها تكمل : و ستتزوج من خطيبتك وتستطيع معاشرتها فى أيام الزيارة تلك .. أنا لست أنانية لدرجة حرمانها منك .. يكفى أنك ستغيّر حياتهم جميعا إلى الأفضل بفضل عطاياى, من ثروتى التى منحها لى والدى فور أن وصلت لسن الاختيار.. ثم فى لهجة آمرة وجهت لى سبابتها قائلة : وأحذّرك من البوح لأحد كائنا من كان بما حدث بيننا الليلة وإلا فإن عقابى ليس له مثيل .. ثم همت بالمغادرة وقالت : احذر غضبى .. اقتربت أكثر وطبعت على خدى قبلة سريعة أحسست بعدها بنيران تشتعل فى جسدى كله.
اختفت, وتركتنى لا أقوى على فعل شىء, إلا أننى تحاملت على نفسى . أسرعت بغلق المياه عن الأرض وجريت نحو القرية لا ألوى على شىء . فى الصباح تعجبت أمى من حالى الذى يبدو على غير مايرام, و من تلك الهالات السود حول عينىّ من قلة النوم.. امتنعت لأيام عن التحدث مع أحد وانكمشت فى حجرتى أفكر: أى قرار سأتخذ؟.. حتى عندما زارتنى خطيبتى ووقفت أمامى لم أرفيها إلا شبحا كريها يطلق فحيحا من فمه, وكرهت شكلها والتحدث إليها.
هربت إلى شاطئ الريّاح لأتنسم بعض الهواء النقى وأستعيد بعضا من هدوئى وسكينتى .. المياه تمر أمامى فى موكب مهيب وكأنها تعزف لحنا جنائزيا خاصّا بى وحدى .. فجأة تنتشر رائحة الكافور حولى, وأراها تتمدد أمامى على سطح الماء مبتسمة راضية, وبعثت لى بقبلة فى الهواء واعدة بزيارتى خلال أيام قليلة لإتمام كل الإجراءات .
فى دارنا ترددت فى البوح لأحد خوفا من عقابها الذى لوّحت لى به .. إلا أن هاتفا قويا أرغمنى على الانفراد بأبى والبوح له بكل ماحدث .. دُهش الرجل أولاً, ثم طمأننى ونصحنى بقراءة القرآن فى كل الأوقات . أخذنى إلى الشيخ ( عبدون ) إمام الجامع والذى قال لى : إنهم خلق يقسّمون العالم فيما بينهم. ولذلك فتلك الفتاة تمتلك هذه المنطقة. وعليك بترك القرية فورا والابتعاد تماماً حتى تخرج عن سيطرتها وبذلك لن تصل إليك.
أنا الآن أمضى ليلتى الأولى فى بيت خالتى لأستعيد توازنى وأبدأ مذاكرتى وأحصل على شهادتى وأتزوج من خطيبتى هنا لنعيش حياتنا التى نتمناها معا . أفتح أول صفحة فى الكتاب ولا أرى حروفا ولا كلمات وكأنها محيت بفعل فاعل .. كل الصفحات بيضاء.. طالعت كل الكتب والكراريس ووجدتها خالية تماما من أى حروف أو كلمات .. فجأة بدأت أشم رائحة الكافور تنتشر صاخبة فى أرجاء الحجرة من حولى .



* نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 10 - 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى