صلاح الدين سر الختم علي - الشمس تنطفئ في الظهيرة.. قصة قصيرة

مضي يشق الزحام كمدية وهو يتصفح وجوه العابرين علي مهل بحثا عن وجه أليف ولكن هيهات..!! كل هذا السيل المنهمر من البشر ولامصباح يضئ في الذاكرة بوميض ما..لامست يده الورقة التي أهترأت من طول ما قبعت هنالك فأنتفض وتذكر انها لاتزال باقية تنتظر مثله الفرج بحروفها الاجنبية التي خطتها يد الصيدلي علي عجل قبل بضعة ايام بعد طول تمنع منه والحاح علي ضرورة مقابلة المريضة للطبيب ولكنها ماتزال باقية تستدعي صورة وجه حبيب كان متوردا عافية ذات يوم لكنه يزوي الان كما تزوي زهرة ذابلة من قحط وظل هو يهرول من الصباح حتي المساء كمن به مس بحثا عن فرج ولاشئ يجنيه سوي عبارات الاعذار الرقيقة والابتسامات المحايدةالتي تباري اصحابها في ابداء امارات الأسف واياديهم تربت علي كتفه في نعومة وتلك الورقة لاتزال بجيبه تبحث عمن يطلق أسرها ويحررها وما من مجيب، يصر علي اسنانه بغيظ كظيم وهو يشق جموع البشر فتفاجئه ملامح دهشة مرتسمة علي وجه حسناء عابرة من الاتجاه المضاد فيرتبك قليلا ويعود من جديد لهوة الصمت الكسيف كطفل داهمه أبوه بغتة وهو يعبث باشيائه. يغيب في خواطره من جديد فيتذكر وجه ذلك الصديق وهو يغلق حقيبته الانيقة المكتظة بأوراق النقد علي مهل ويده وهي تمسك بقلم صغير وهو يتحدث بصوت بدا باترا كالسيف وباردا كجثة معتذرا بعبارات ممجوجة لم يطق صبرا علي بلوغها نهايتها فنهض واقفا وصافحه مودعا وبدا له السلم الذي يقوده الي الضجيج قبرا خانقا مسكونا بالعتمةوالسكون وحين بلغ نهايته انفتح المشهد من جديد علي الضجيج وشئيا فشئيا وجد نفسه في قلب زحام السوق العربي وحيدا الا من معدة خاوية وجيوب خاوية الا من روشتة دواء غالي الثمن علي غير العادة وصورة أمرأةبشوشة الوجه ينهش جسدها داء لعين لايجد رادعا له وتنتظر معجزة يصعب تحقيقها بوساطة رجل فقد الوظيفة لسبب سخيف يتعلق بما يحمله الرأس من افكار وان شاء الدقة يتعلق باختيارات اختارها فيما مضي وليس عدلا ان يدفع ثمنها عمره كله لفعل انساني عادي. يفيق من تأملاته علي صراخ وضجيج غير عادي وسط الامواج البشرية السابحة في غيمة من دخان العوادم والغبار ،يرفع عينين متسائلتين فيقع بصره علي جمهرة صغيرة آخذة في الاتساع في منتصفها رجل نحيل ذو ملابس رثة تتساقط حبات عرقه كالمحموم وتدور عيناه الصغيرتان كفأر مذعور حاصره قط شرس بعيدا عن الجحر وأغلق عليه منافذ النجاة، كان القط رجلا بدينا ضخم الرأس غليظ العنق يصرخ بصوت أجش وهو ممسك بالرجل النحيل بأحدي يديه بينما كانت الاخري تتحسس محفظة محشوة بالاوراق المالية في هلع...تجمهر الناس وتباروا في توجيه السباب البذئ والصفعات للرجل ذي العينين المرعوبتين الذي بات في المنتصف تماما وعلي وجهه امارات قنوط واستسلام لمصيره وكان الرجل البدين يهدر كرجل داهم زوجة خائنة مع عشيق والرجل النحيل أكتفي بان يجعل من ساعديه حماية لوجهه وتقبل الصفعات والضربات التي تنهال عليه في سكون في بقية الجسد،ثم انفتحت الدائرة وظهر شرطي نحيف يحمل كيسا من الورق ملطخا من الخارج ببقعة كبيرة من الدم واخذ يشق طريقه بصعوبة وحزم باتجاه الرجل ذي العينين المرعوبتين اللتان تعلقتا الآن بالشرطي القادم في ضراعة بادية كسفينة مثقوبة في عرض البحر لاح لها شاطئ بعيد.. افسح المتجمهرون الطريق للشرطي الذي ماكاد يبلغ الرجل حتي هوت يده بقوة علي قفا الرجل النحيل ثم ارتفعت لتهوي مرة اخري ولكن علي الوجه هذه المرة بقسوة .. انفجر الدم من انف الرجل كما يننفجر الماء من نافورة نزعت سدادتها، مرآي الدماء انساه كل شئ فوجد نفسه يندفع نحو الرجل النازف دمه وقد نسي الورقة المكتوبة بلغة اجنبية والمرأة التي تنتظر المعجزة ، تقدم نحو الرجل النازف دمه وحال بين الشرطي وبينه بجسده واخرج منديلا باهتا من جيبه واخذ يمسح قطرات الدم المتدفقة من أنف الرجل الذي اكتسي وجهه بدهشة صادقة ، تمالك الشرطي نفسه من الدهشة ونظر اليه شذرا فتراجع هو قليلا الي الخلف واخذ يتمتم كمن يعتذر(أنه... أنه ينزف .. ألا تري الدم؟)

عبس الشرطي في وجهه وهو يتفحصه في ريبة وقسوة كقصاب يتفحص شاة قبل ذبحها وقال بجفاء وما شأنك أنت؟ هل تعرفه؟ هل كنت معه؟) هم بالرد علي الشرطي ولكن ملمس الورقة المنتظرة المعجزة في جيبه والنظرة التي ارتسمت علي وجه الشرطي جعلتاه يهز رأسه بالنفي في سكون ويلقي المنديل بدمه علي الارض ويتراجع الي الخلف في خطوات مضطربة ويمضي في الاتجاه المضاد وهو لايلوي علي شئ ولم يستطع حتي ان يدير رأسه للوراء ثانية... قبضت يده علي الورقة الرابضة في جيبه بحزم واسرع الخطي حتي غاب في الزحام ، ثم رفع رأسه صوب الشمس لكنها لم تكن هناك في كبد السماء بل كان ثمة فجوة كبيرة خاوية في مكانها وكان للفجوة شكل اشبه ما يكون بفم حيوان مفترس مفتوح علي اخره وهو يهم بالتهام فريسة ما... اوسع الخطي مبتعدا ثم أخذ يركض ويركض حتي غاب تماما في الزحام.




الخرطوم
1994
نشرت هذه القصة لاول مرة في يوم 16 سبتمبر 1996 بصحيفة قلب الشارع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى