لؤي حمزة عباس - الجثة.. قصة قصيرة

نزلت، (هي) من على نقالتها ذات القماش السميك قبل وقت غير محدد، كانت يدها مسدلة بأصابعها المفتوحة مثل مروحة صينية بلا نقوش تهتز باندفاع بندولي، وكان الرأس ينوء مثقلا
الحادة، ماسحة مع اندفاعة النقالة دفء الوجوه المنطبعة على نثار الوسائد، وآخر العلامات،، بملامحها المتصلبة كذراع نقالة بارد. حركة العجلة الروسية باندفاعها المتخبط، تزيد من ضراوة الأجساد، سريعا. امتدت الأيدي، دونما أجساد بدت، تنبت من الفراغ المعتم أو تغور فيه فقط: كان لملمس أعضائها العارية معنى غريب، يزداد وحشية، مع قسوة الأصوات المتلاحقة، ودبيب البرودة في الأجساد الغائرة في العتمة، والمتمددة بأفواه مفغورة على الرمال، العمودية منها والأفقية.. كانت الأجساد تتقاطع في نقاط لا مرئية (هناك) تسورها لزوجة العتمة الباردة.. لم يكن صوته واضحا لكنه بدا أشبه باستغاثة حيوانية: صارما وقاسيا حرك بعضا من كائنات العتمة تحت الجفون. أحدهم هتف، تصاعدت نقاط نجمية في الفراغ، وغارت نتف من كائنات أخرى، تدفعها رنة الصوت فتتحرك في الصلب المعتم.. قاطعة سكون المسافة بأذرعها النامية كالأغصان (العيون المثقلة تبتكر كائناتها) مستجيبة لنبض العطل في أحد الأعضاء، باب الحوض الحديدية فتحت. حركة متكررة. نثار من أصوات سائلة، يتفجر مع الأنفاس المتقطعة، آخر الأجساد العمودية تمتد أياديها، إنها تبحث في العتمة عن آخر الأجساد الساقطة بعيدا، على الرأس تستقر لحظة ثم تنزل.. كان اليد باردة، تتمسك بقوة (دافعة عنها عار ارتجاف فاضح). في ثقل يرفع الجسد الآن، متهدلا مثل حبل، احمل: قال أحدهم،: آ: قال الآخر. على بعضها استقرت الأجساد، متصلبة، تضيق بها عتمة الحوض الواسعة، فتتراكم الأعضاء، تندس بين الأرجل المنفتحة، والأيدي الملقاة في لا اهتمام أبدي على أرضية الحوض المتعرجة، أو على بعضها.. مع اندفاعة العجلة، بدأت تتداخل فيما بينها في خضوع مقيم، لم يعد في الحوض غير جسد واحد بعشرات الأيدي، ومئات الأصابع والأفواه المفتوحة كعيون معتمة، والمغلقة كالنقاط (مع آخر الأيام الممطرة، ذهب، إنها لا تذكر شيئا آخر، غير حذائه الطويل الرقبة خلف الباب، كان مبللا، لكنه أصر على الرقم من ذلكـ على ارتدائه.). تثاقلت حركة العجلة، فازداد التحام أجساد الحوض مع بعضها.. المنفرشة على الأرضية تزداد انسحاقا مع أنين الفرامل المتكرر، فينز من أفواهها سائل يبدو لعيون الأجساد المتسطحة فوقها، بخرزاتها الجاحظة، بلا لون.. كانت العجلة قد توقفت تماما حينما بدأ أحدهم يفرغ مثانته بهدوء متلذذا بوشيش البول على إطار العجلة، أصداء القطرات الأخيرة تتجسم، لاصفة، كأمطار زئبقية، (تراءت لعينيها ارتجافة خفيفة في حركة أصابعه، وهي تلتف بلا حياة على ورق السيكارة، للمرة الثالثة، يده اليمنى حملت قبضة من التبغ، اليسرى سكنت تحت الورقة المقروضة الحواف، بصق بقايا الحواف المبللة، وأنزل بحركة لاشعورية بعض التبغ، مسح الحافة السليمة، وحدق بعينيها، كانت السماء تمطر منذ الليلة البارحة..). انقطعت الحركة لحظة. استمرت كائنات العتمة في دبيبها، متشكلة تحت سماوات عديدة، صرت عتلة الباب الخلفية فترددت في سكون العتمة آلاف الصرخات الحبيسة، تكررت في رنة حديدية صدئة. لم تكن ثمة نجوم تلوح في أفق ما، لتبرق. قال أحدهم أشياء لم تعلق في الأذهان المنطفئة. ذات اليد امتدت، لتستقر دونما تعيين على الحذاء طويل الرقبة، مازالت باردة، ومازال الحذاء متصلبا، يطعن العتمة المبلطة، (لقد أصر على ارتدائه، على الرغم من امتلائه بمياه المطر، هي حدثته: ماء المطر ينز من فتحات الشريط، أسود، قالت: لم يحدث ذلك من قبل، هو، يعرف أن ذلك قد حدث، مرات. دس علبة التبغ في الجيب الأيسر للقميص، خشخش التبغ قبل أن يستقر في الجوف الأفقي.) اليد تتمسك بحافة الحذاء، تسحب، انسحاب الجسد فوق الكتل الباردة يدفع في صلب العتمة بأجنحة شفيفة، تلوح كأجنحة ذباب مضيئة. ثقل الجسد يزداد على النقالة يزداد مع خطى الجسدين العموديين المتوغلين الى أمام في رواق ضيق لا باب له ربما تركت مشرعة لتسهيل مهمة حاملي النقالات في الرواق.. مسحت ذبالة من ضوء واهن على الوجوه، فارتسمت على الجدران المحفورة ببقايا جمل ودوائر منتظمة، تبدو كرؤوس محتملة لدمى حيوانية أو بشرية، ثلاثة ظلال لوجوه مارة، بدا وجه جسد النقالة أكثر صلابة بأنفه المرتفعة، رعشة ندت عن الشفتين الداكنتين وارتسمت فوق الجدار، لم تلتقطها أي من عيون الجسدين المندفعين بسبب من إغماضة نصفية، أو لانشغالها بالصور الفوتوغرافية العديدة للحدائق وهي تندفع من خلف إطاراتها الزجاجية، بأشجار شوهتها أنوار الفوانيس الواهنة، وحركة الظلال المستمرة.. تباطأت اندفاعة الأجساد وبدأت اليد المنطرحة فوق النقالة تتحرك، باندفاعة مستجيرة، تقطع سكون الجسد المتسطح، وتنتشله من مغاور لم يكن بإمكان شموس الحدائق الفوتوغرافية إضاءتها، فبقيت تنزل في حركة مستمرة إلى أجواء سحيقة.. (كان ظل وجه الزوجة قد ارتسم، داكن الزرقة على الجدار بأنفه القصير، وجبهته المنفرشة على ستارة الشباك، بعصافيرها المحلقة عاليا لم يحدثها بشيء ذلك المساء)، اليد اللائذة استقرت لحظة على ذراع النقالة، إنها ترتفع الآن بجهد لا حدود له، محاولة التمسك باليد المستقرة على ذراع الفولاذ.. أحس الجسد البارد بالأصابع تدب على يده بارتجاف لم يعد بالإمكان إخفاءه (كان نزول الأصابع مستمرا، واحتكاكها بشظايا الطابوق الحادة صار أشد قسوة، فأخذت الأصابع الناعمة.. تتساقط.. في مطر بشري). النقالة تهتز في انحراف واضح فتبدو بارتسام الظل على الجدار منحدرة إلى أسفل. مال الرأس، واندفعت علبة التبغ من جيب القميص مثيرة أصداء متقاطعة قبل أن تستقر على مربعات البلاط بقايا التبغ على البلاط دم متخثر، أو كائنات دقيقة شائهة. إنهما ـ الآن ـ ينزلان النقالة على البلاط. تحت الأذن اليمنى تضغط ثلاثة أصابع، متحسسة نثار الحياة المتشظية في ركام الجسد. قال أحدهما: أجاب الآخر: آ.. انسحبت الأصابع دافئة، وبدأت الخطوات تتقاطر، (إنهما ينسحبان). ظلاهما يبدوان بلا ملامح على الجدار، لم يكن بإمكان أحدهما إكمال المشاهد النصفية للحدائق والأنهار، فقد اندفعا في صمت.. عيونهما تترصد الكوة المعتمة آخر الرواق.. وعلى البلاط كان التبغ ينشر رائحة حادة تحت جسد النقالة المنكشف لأضواء الفوانيس .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين.



* عن وبإذن من:
لؤي حمزة عباس : الجثة (ملف/7)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى