زهران القاسمي - قطار الشمال.. قصة قصيرة

كان القطار متجها إلي الجنوب ، الجنوب الذي لا يمثل إلا وصايا بحار عجوز لحفيده المشلول ، عن الكنوز المدفونة في الجزر النائية ناحية الهند والشرق الآسيوي ، جنوب تضربه الأشعة الشمسية بسياطها الوهاجة ، لترسم منه رملا بامتداده وتلاطمه ونفطه الآيل إلى التحول ، التحول إلى وهج آخر يضرب أرداف هذه الأرض بتلك الآلات الضخمة ، الجنوب بحيواناته الليلية ، تتخذ من عجوة التمر آلهة تأكلها كلما جاعت .

لست ادري منذ متىوانا بهذا القطار ، كنت قابعا في إحدى زوايا عرباته ، صامتا متكوما على بعضي ،وكانت دوائر الضوء التي تدخل من الثقوب في جدران العربة ترسم لي حكاية قصيرة عن ملايين الأقدام التي تشارك مند آلاف السنين في الركض ، كان اللهاث أثرا غير مبلول بالعرق وانما بالآمال أحيانا كبقع الزيت الطافية على الماء يتوزع اليأس ، وكأنه رأس فاغر فاه من الحب يتلصص خلف الأبيات الشعرية لقصيدة كتبها أدونيس

ذات يوم ، وكاد أن يتقيأ عليها ، لعلها كانت اشد مرارة مما توقع ،وكانت مشية القطار الرتيبة تغرقني اكثر في الصمت ، وكان الصمت آلة زمنية ضخمة تقذف بي كفم يقذف البصاق المختلط بطعم التبغ احتجاجا على انتهاء السيجارة حتى آخرها ، كان يمارس في هواياته المحببة ، في جلب أشباحه بزعيقها وأشكالها ولا مبالاتها بالواقع مهما كانت حدته ، لم يكن الواقع أمامها إلا شاشة عرض ضخمة ، كل الممثلين فيها يخلعون أقنعتهم بعد نهاية التمثيل ، ليعودوا إلى الظل مكونين منه درعا لهم يحميهم من العودة ومن التآكل ، متنازلين عن ظلالهم التي لازمتهم طوال روايتهم المعروضة ، وليعودوا كشخوص تشاهد شخوصا آخرين يعرضون مقطوعاتهم اللازمة ويخرجون ، وهكذا دواليك ، كان الصمت هو انعدام الزمن والسرعة والمسافة حسب انعكاس النظرية النسبية في صفحة الماء الراكد تماما ، وكنت كشيء مهمل في هذا القطار الغريب .

كنت خائر القوى ، لا املك إلا النظر إلى المشاهد المنعكسة على الجدران ، كان بعض الوجوه جميل ورقيق ومؤنس ، وكان بعضها الآخر بشعا ومخيفا ، وكان بينها وجوها جامدة التعابير ، أصناما من صنيعة المخيلة ، كالتي كان العرب قديما يعبدونها ، مؤكدين بأن برود ملامحها ما هو إلا ثورة أو إعصارا أو نرجسة على وشك التفتح ، كنت مفرغا من كل شيء ، لم اكن أتألم ، لست سعيدا ولا بائسا ، كنت وحدي وكانت الوحدة غير موجودة إلا باسمها استعارة للموقف ، وكان القطار متجها إلى الجنوب ، الجنوب الذي لا يوجد على الخريطة الجغرافية لوطن الجسد .

قبلها لم اركب قطارا قط ، كنت أراه في الأفلام ولم أفكر في كيفية سيره على حديدتين حتى تلك الساعة ، فأغمضت عيني ونمت .

جاءني فقال لي : من هنا سيبدأ ليلك .

فتحت عيني ، بدا كل شيء مظلم وهامد أحسست أن كل شيء عائم في كل شيء ، كان اثر صوته يرن في أدني ، وكان الوقت هلاميا متلاطما في بعضه ، كانت الأفكار تتساقط حولي كحشرات ليلة صيفية ، تحسست طريقي بين الجدران التي تحيط بي ، علني أجد بصيص ضوء يعيد إلى عيني أملها في الرؤية .. كل شيء بدا اسود لكنني استطعت أن أميز طريقي فخرجت ، كان الفجر حينها بدأ يتفتح كوردة ، عندها بدا كل شيء محبطا من كل شيء .

البداية كانت في إحدى مدن العراق ، خرجت في الصباح الباكر ، وقفت على نهر دجلة ، قلت له : أيها النهر العظيم ، اذكر عندما كنت فتيا ، كنت اشق مياهك في مثل هذا الوقت بحثا عن الحوريات اللاتي يختبئن بين الأحراش النابتة على ضفافك ، كنت تبدي إعجابك بغنائي ، وكان صوتي عبارة عن جواز سفر لك أو تعويذة من الاضمحلال ، كنت حينها تدلني على مواضع كنوزك ، وتعقد بيني وبين الطمي صداقة الفلاح ، أتذكر سعيك لملاعبتي ، وسخريتك من ضعفي ، كنت حينها وحدي ، ولكن كنت أنت أيضا وحيدا ، ولم نبد تذمرا أبدا ، وكانت الآلهة تغطي الجبال البعيدة التي تسكنها حسناوات الجان بالضباب والبرد . فهل لك أن تحملني الآن إلى ضفتك الأخرى ؟.

كان صامتا غير أنه اخرج لي لسانه بنزق ولوح بي حتى الضفة الثانية .
عندما جاءني وحدثني ، كان الضوء يعيقني من رؤيته بوضوح ، لكنني لمحت لحيته التي يجرها خلفه وهو يختبئ بين الظلال ، كانت تهدهد على الزهور ، وتمسح بدفئها على العصافير الصغيرة النائمة في أعشاشها ، وكدت المح الأشياء تتساقط منها لتتحول إلى كائنات مختلفة ، وكائنات تتشبث بها لتغيب فيها ، وبرغم مشيته البطيئة إلا إنني لم استطع اللحاق به .

مشيت كثيرا ، كانت قدماي تغوصان في الطين تارة وترتطم بالحجارة المسننة تارة أخرى ، مع ذلك لم أحس بإعياء أبدا فمشيت حتى مشارف قرية صغيرة ، فقلت ساستطعم أهلها ، فبدت لي هذه الفكرة جيدة حتى اخرج من شرنقة الصمت الذي بدا وكأنني ألبسه عباءة أو كمامة حول فمي ، كانت القرية هادئة في الصباح الباكر إلا من بعض الفلاحين الذاهبين إلى حقولهم ، حاملين ذريتهم نصب أعينهم خوفا من الانقراض .
حاولت أن أتكلم مع أحدهم لكنه لم يسمعني ، ساعتها لم أتيقن أنني سمعت صوتي أم لا ، لكن عندما مر بي رجلين ، وقد اعترضت طريقهم ، كدت أن اصطدم بهم ، مرا وكأن شيئا لم يكن ، كيف هذا ؟ أنا متيقنا أنني قد قطعت الطريق عليهم ، فكيف مرا ؟ . حينها بدأ الشك يساورني ، لعلني في حلم ، صرخت بكل قوتي ، لكنني لم اسمع صوتي.

ما اجمل أن يعود الإنسان للطفل في داخله بعد كل هذه السنين ليخرجه من مكمنه ، غير عابئ بما سوف يحدث ، هكذا صرت بعدما اكتشفت حالتي شبه الشبحية ، فصرت اصطدم بالأشجار لعلها تعيقني عن التقدم ، لكنني كنت أتعداها من دون أن تؤثر بي ، كنت أرى جسدي ينشق إلى نصفين ، ثم يعود ثانية إلي وضعه ، فأعجبتني اللعبة كثيرا ، وصرخت في آذان المارة لكنهم لم يسمعوني ، ورويدا رويدا بدأ الطفل ينكمش على نفسه ثانية ، ليعود إلى مخبئه وينام من شدة الملل والتعب .

كان حلقي جافا ، وكانت الصحراء ممتدة أمامي حتى الأفق البعيد ، مشيت كثيرا ، لهثت ، وقعت على وجهي عدة مرّات في الرمال المحرقة ، ركضت خلف السراب من شدّة العطش ، علّه يتحول فجأة إلى واقع لبركة ماء ضحلة ارتوي منها ، كانت السماء كئيبة بفعل الرياح ، وكنت وحدي بائسا قانطا من كل شيء موقنا بنهاية قريبة لهذه المتاهة السرمديّة . ماء النبع

وأخيرا وجدت الماء أو هكذا خيل لي ، فبدأت اشرب واشرب ولا أحس إلا بالضمأ يزداد في حلقي ويخنقني ، كدت أن اشرب ماء النبع كله ولكن كلما شربت كلما زاد عطشي ، حتى أحسست بالغثيان ، فانقلبت أمعائي خارجا وسقطت من شدة الإعياء .

عندما استفقت ، كان على مقربة مني ضب يزحف باتجاه جحره بهدوء ويقين ، صرخت عليه ، رويدك رويدك ، هل لك أن تدخلني إلى جحرك لكي استريح بقية هذا النهار ، التفت ناحيتي وقال لي : ومن أخبرك بأنني صنعته لقاطعي هذه الصحراء ، انه ملك لي فقط ، فاذهب وابحث لك عن جحر مهجور تقضي فيه عمرك أن شئت .

لم أتعجب حينها من أنني استطعت أن استنطق هذا الضب الصحراوي ، ولكنني عندما نويت أن اسأله بعدها ، كان قد دخل جحره .

مشيت كثيرا في هذه الصحراء العقيمة ، حتى سقطت إعياء ، استفقت بعدها على صوته واقفا أمامي ، صوت يشبه الجلجلة ، قم لقد انتهى دورك .

كان قطار الشمال مستمرا في سيره ، كان فارغا من كل شيء سواي ، وعندما توقف في إحدى محطاته استجمعت كل قواي وقفزت منه ، حينها فقط بدا كل شيء خارجا من كل شيء .

قطار الشمال
التاريخ: القراءات:(853) قراءة التعليقات:(2) تعليقان
gift.gif

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى