شهادات خاصة وداد طه - حكاية امرأة من ريح ونار..

مسكونة أنا كغيري ممّن طرقوا بقلوبهم باب الأدب، بهواجس عن الحياة والوطن والذّات، ولا إجابات يقينيّة لديّ. كتبت “ليمونةان” كنوع من البوح، أو تحرير الذّات أو الشفاء غير المقصود والواعي للروح، لم أكتبها لأنشر، ولم أكن قد فكّرت فعليّاً وجديّاً في خوض مجال الكتابة الاحترافيّ، قبل أن أسمع بمبادرة من مؤسًسة القطًان، لدعم مشاريع فنيّة للشّباب الفلسطينيّ، وأيضاً بالمصادفة، ولا أعرف كيف أرسل إليّ طلب المنحة، فأرسلت من نصّ الرّواية غيرالكتمل، وبصورته الأولى إلى المسؤولين، فجاءت موافقة على دعم نشر عملي الأدبيّ. بالطّبع فرحت، وحرّرته من شوائب البدايات المرتبكة، لكنّني تركت فيه إصراري على أن يشبه النّصّ مبنىً معنى اسمه “ليمونةان”.
كلّ ما في روايتي الأولى “ليمونةان” يشبهها، من غلافها إلى انزلاق عنوانها، إلى تلك العناوين الفرعية التي اعتمدتها لتسمية هذيان وتداعيات خيال البطلة، في يومياتها المرهقة والعادية والمصيريّة، إلى الّلغة والصّور والأسلوب.
تحكي الرّواية قصّة نور، شابّة فلسطينيّة بسيطة تحيا في عالم كبير، لها أحلامها، وأمامها واقع يقوّضها. تبدأ الرّواية بسماع نور خبر وفاتها على الرّاديو. وتسير الأحداث متلاحقة بعد ذلك، في حبكة من يوميات البطلة. نور فلسطينيّة لذلك فهي تغتصب وترفض وتستسلم وتسعى وتضيع من ذاتها في بحثها عن مكان لها في هذا العالم المتفجّر.
في عرف الكتابة الرّوائيّة المسوّدة الأولى هي أنت تكتب لنفسك، وفي “ليمونةان” هذا تحديداً ما فعلته، لكنّني شاركت مسوّدتي مع القرّاء، لأكثر من سبب؛ أوّلها أنّني لا أكتب أكثر من مرّة الرّواية نفسها، لا.. لست ذلك النّوع من الرّوائيين، فحين أنهي سطري الأخير، أرسل الرّواية إلى صديق روائيّ، وحين يبدي موافقته، وهذا يحصل عادة من القراءة الأولى، أرسلها بدوري إلى دار النّشر. ثمّ لا أعود أحبّ ما كتبت، وحين يرسل إليّ أحد القراء فقرة أو سطراً نالت إعجابه، أكون قد نسيت أنّني كتبتها، بحقّ أعود وأكتشف ذاتي وكتاباتي من خلال المقابلات والقرّاء. لا أعرف لمَ يحصل ذلك، ولكن من الممكن أنّني أهتمّ بالحبكة ورسم الشّخصيّات، وأندفع في كتابتي بوعي “لاواعٍ” لما سأكتبه في السّطر التّالي، رغم تخطيطي المسبق للسّرد وعوالم الحكاية والأبطال.
روايتي هي انفعالي البكر بالحياة، هي ثورتي على واقع فلسطينيّ محاصر فيه شعب بأسره، في مجتمع لبنانيّ يعاني الطائفيّة حتّى في العلاقات العاطفيّة. هي ثورة على العادات الفلسطينيّة والرؤى السّاذجة للذّات، وحتميّة اللّجوء إلى وكالة الأونروا كي يحيا الفلسطينيّ. هي تداعي التّفاصيل اليوميّة المرهقة لفتاة بحجم قلبها، رماها مصيرها في الحياة فصارت هي الحياة، بكلّ ما تحمل الحياة من تناقضات وتشكّلات ومحاولات وموت وولادة.
في “ليمونةان” كتبت شعوري كما هو، ولم أحاول أن أجمّله أو أفلسفه، ولم أملك حنكة الرّوائيين والأدباء الّذين يكتبون عن مشاعرهم المفكّر بها وتأمّلاتهم عنها، أنا فقط سردت يوميّات في حبكة دراميّة لملحمة صغيرة لفتاة فلسطينية. ولا أخفي شعوري بالفخر لأنّني فعلت ذلك، فمن يملك شجاعة تعرية ذاته أمام ذاته أوّلاً والمجتمع ثانياً، ومن يملك شجاعة التّفكير عكس المفكّر به والمتداول، يشكّل مادّة جيّدة لرواية، لأنّ البطل الرّوائي هو بطل يحيا صراعاته مع محيطه وعوالمه الدّاخليّة معاً، وهذا ما كانت تحياه نور بطلتي في “ليمونةان”.
لم أفكر في النّشر قبل “ليمونةان”، مع أنّ لي محاولات منشورة في القصّة القصيرة في جريدتي السّفير والنهار اللبنانيتين، لكنّ وعيي لهويّتي الأدبيّة بل والشّخصيّة أتى متأخراً، ولا أعرف لمَ يلازمني الشّعور بضرورة الانسحاب كلّما جذّفت في المستقبل. “ليمونةان”، محاولة تشبه اسمها وتشبهني عميقاً، لا أعي نقصاناً ولا اكتمالاً ولا أعرف الحدّ الفاصل بين غيبوبة الحياة وصحو الإرادة، وأنا أسير فيّ صوب مصيري حاملة كلّ التناقضات البشريّة الهائلة.
من هنا يمكنني القول إنّ صعوبات النّشر عندي هي صعوبات إيجاد البطل الذي بإمكانه أن يجسّد الفكرة المراد منها العمل. فأيّ شخصيّة تستطيع أن تجسّد في كينونتها مجتمعاً بأسره؟ هل كنت موفّقة في رسم شخصيّة نور؟ لا أعرف، لكنّ نور بطلة بكونها قبلت هذا التّحدي والجنون ورمت بنفسها في أتون القارئ بعد أن خرجت من بطن حوت أيّامها الرّتيبة وقصصها الصّغيرة. وهل من الممكن تصحيح واقع من خلال حكاية لفتاة ساذجة؟ بالطّبع لا، لكّنّني قلت كلمتي الرّافضة لواقع الفلسطينيّ والمحاولة تغييره، وإن بحكاية ترمز إلى ضياعه ثمّ استفاقته من غيبوبة الحياة حرّاً جميلاً وأكثر قدرة على التغيير.
السّؤال الّذي يراودني هو: إن لم أنل تلك المنحة من مؤسّسة تعنى بالشّباب هل يا ترى كنت لأنشر يوماً؟ هل كنت سأقدم على هذه الخطوة الّتي تستنزف العمر والأحلام والمال معاً؟ لا أدري، ولكنّ انزلاق أيّامي منّي بين التّعليم والإذاعة لم يأخذ معه رغبتي القاهرة في الكتابة، رغبتي الجامحة في أن أكتب وأطيل الكلام، فحتّى حين كنت أحضّر موضوعاً للبثّ عبر الرّاديو، كنت أكتب مقدّمات مطوّلة، وكان المخرج يحذف ما يراه أدباً لا يعني المستمعين. لعلّي لم أكن أفهم وقتها أنّني أحاول أن أكتب وأنّني أستفيض ويندلق منّي قلبي وأنا أكتب. والغريب أنّ بين أولى محاولات النّشر في جريدة السّفير، وهي قصّة بعنوان “بحث” وبين “ليمونةان” سبعة عشر عاماً، كنت قد غبت فيها عن ذاتي، كتبت الشّعر ولم أجد قيمة لي فيه، حتّى أنّني ألاحظ أنّ معظم ما كتبته من شعر كان حكايات، أو قصصاً في قالب شعريّ.
السّعادة العميقة عرفتها ككاتبة، حين أرسل لي الأصدقاء من فلسطين صوراً لـ”ليمونةان” من مكتبة في مدينة النّاصرة، وحين علمت أنّهم يوصون إحدى المكتبات بجلب الرّوايتين الأخريين، كانت سعادتي لا توصف وقتها، فذلك تخطٍّ لكلّ معوّقات النّشر الّتي نواجهها ككتاب أوّلاً، وهو تواجد وحضور في فلسطين أخيراً وأبداً.
ثمّ اهتديت ولم أندم، وعدت وكتبت روايتين أخريين بعد “ليمونةان”، وفي رأسي عشرات الأفكار لروايات قادمة مصرّة أنا أن أكتبها قبل أن أموت.
الرّواية تجعلك تتقصّى أعمق ما فيك، وما في غيرك، مثقل أنت بهموم الإنسانيّة وتريد أن تذريها مع الرّيح. الرّواية تجعلك صوت ثقافتك وصداه الغريب في الوقت عينه، تحرّرك، خاصّة كامرأة في مجتمع عربيّ وفلسطيني مركّب وكثير التعقيد، مجتمع يرفض أن تقلب الرؤية للأشياء، أن تتنفّس هواءك الخاصّ، وتحتلّ مساحتك الخاصّة من دون أن يحاول مساسها برؤاه أو يحتلّها بعظم مؤخّرته الرّاقدة.
امرأة من ريح ونار أنا، رافضة ومريدة وساذجة وغبيّة أحياناً، لكنّني أحبّ رؤاي، وأريد أن أحلم، وعندما سُئلت في أولى مقابلاتي الصّحفية بعد نشر “ليمونةان” عن المستقبل الّذي أخطط له، قلت بعفويّة: إنّني سأنال نوبل للآداب يوماً ما، ليس سعياً وراء جائزة لا أعرف مدى نزاهتها في يومنا، وإنّما تحقيقاً لذاتي المحلّقة، ولأنّني سأكتب تلك القصص الّتي ستغيّر قلباً واحداً ربّما، ولكنها قصص حرّرتني، وقصص ستحكي عن الإنسان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى