محمود سامي أحمد - المسرح المصري.. احتكار الفن

أعود اليوم إلى موضوع المسرح المصري، لأكتب في ناحية أخرى غير تلك التي تناولتها في مقالتي السابقة، ناحية كان لها أثر كبير في ركود ناحية المسرح. ويؤسفني أن أقول أن الممثل هو سبب هذا الموت أو ما يشبه الموت الذي حل بالمسرح.

كان في مصر نهضة مسرحية رائعة فيما قبل عام 1930، وكان من أهم أسباب هذه النهضة تلك المنافسة القوية التي كانت قائمة بين الفرق التمثيلية المختلفة، فكانت كل فرقة تنتقي أحسن ما كتبه مؤلفو الغرب من مسرحيات، وأقوى ما يكتبه المؤلفون المصريون، بل كانت تجتذب إليها كبار الكتاب ليكتبوا للمسرح وذلك لتفوز بإقبال الجمهور دون الفرق الأخرى. وأظن أن الكثيرين منا يذكرون تلك المنافسة القوية بين فرقتي رمسيس وفاطمة رشدي، وتلك المنافسة الشديدة بين فرقتي الريحاني والكسار.

لم يكن التمثيل في ذلك الوقت قاصرا على لون بعينه، بل كانت المسارح المختلفة تعرض ألوانا شتى، من مآسي إلى ملهاة إلى أوبرا أو أوبريت، وهكذا كان الجو المسرحي جوا نابضا بالحيوية والنشاط.

أما بعد أن تكونت الفرقة القومية ثم المصرية فالحالة تغيرت وتطورت، ولم يكن هذا التطور نحو النهضة، وإنما حدث العكس، فقد انحط المسرح، وركدت ريحه، وحل به ما يشبه الموت إن لم يكن الموت نفسه.

وقد عجب كثير الناس كيف يموت المسرح بعد أن تكونت فرقة تعينها الحكومة بالمبالغ الطائلة نسبياً، وتجمع كل نابغة ونابغ من الممثلين؟ والحق إن هذه الأسباب نفسها هي سبب تدهور المسرح.

والمسألة بسيطة واضحة، فقد أحس الممثلون أنهم أصبحوا من موظفي الحكومة، ولم يعد أحد منهم يخشى على عيشه، فانتابهم الكسل، وفقدوا الدافع إلى العمل والتبريز، ولم تعد هناك فرقة أخرى تنافس الفرقة المصرية بعد أن جمعت أكثر الممثلين، فاحتكرت الفن، وأصبحت تعمل في السنة فترة لا تزيد عن أربعة أشهر أو خمسة، ثم يقضي أعضاؤه بقي من شهور العام في النوم اللذيذ والكسل الحلو، وكلنا يسمع سنويا في الصيف عن الاستعداد الضخم للموسم المقبل، فإذا ما حل الشتاء وبدأت الفرقة عملها، إذا بالجمل يتمخض فيلد فأرا هزيلا لا حياة فيه. وكيف نرجو نهضة من فرقة لا تقدم في الموسم الكامل إلا روايات تعد على أصابع اليد الواحدة، ثم تعيد فيما بقي من الموسم القصير روايات سبق أن مثلت مرارا وتكرارا حتى ملها الجمهور؟

هذا الاحتكار هو أول معول هدم صرح المسرح المصري.

رسالة الفرقة المصرية:

المفروض أن للفرقة المصرة رسالة، ورسالة ضخمة تتناسب وما يجتمع فيها من كبار الممثلين.

والمفروض أن رسالة الفرقة هي العمل على رفعشأن المسرح المصري بتقديم أروع ما كتبه المؤلفون المسرحيون بين مصريين وأجانب.

والمفروض أيضا أن الفرقة لم تكونها الحكومة للكسب، وإنما كونتها للقيام بأعباء هذه الرسالة الثقافية الكبيرة.

فهل أدت الفرقة فيما سلخت من أعوام رسالتها؟

يحز في نفسي أن يكون الجواب بالنفي.

وأنا لا أبني فشل الفرقة في أداء رسالتها على قلة الإيراد، فهذا آخر ما يجب النظر إليه، وإنما أبني هذا الفشل على ما تقدمه الفرقة من روايات.

كم رواية تاريخية قدمتها الفرقة في تاريخها الطويل؟

لن أستطيع أن أبخس قدر الفرقة فأدعي أنها لم تقدم شيئا من هذه الروايات، ولكن ما قدمته منها ضاع في غمار ما قدمته من مسرحيات فاشلة أو سوقية تقوم على التهريج من نوع المهازل فهذا النوع أجدر به أن يمثل في دور الرقص والفن الرخيص.

وأين رسالة الفرقة وهي تعيد روايات مثلت قبل تأليفها، والمفروض أنها ما كونت إلا لتقدم نوعا آخر من الروايات غير ما كانت تقدمه الفرق الأهلية؟ لا شك أن الفرقة مقصرة.

أنا لا أفهم السر في قصر عمل الفرقة على نوع واحد من المسرحيات، وهي الفرقة الغنية بعناصرها الفنية، فلم لا تتكون من هذا العدد الضخم فرقتان أو أكثر، فرقة تعمل باستمرار في القاهرة وفرقة تجوب الأقاليم المختلفة؟ ولماذا لا تتشعب منها شعبة للملهاة وثانية للمأساة وثالثة للأوبرا والمسرحية الغنائية؟

إن كان غرض الفرقة أن تقتصر رسالتها على الكسب المادي فلتنشأ إلى جانبها فرقة أخرى لا تهدف إلا إلى عرض الروائع المسرحية الخالدة، غير ناظرة إلى كسب مادي أو إلى أي عراقيل فنية. لتكن فرقة تجارب تثبت أقدام الأنواع الجديدة، فإذا ما استساغها الجمهور عرضت الفرقة المصرية منها وهي واثقة من إقبال الجمهور، فوجود فرقة التجارب هذه أمر واجب حتم لرفع شأن المسرح المصري.

وإني لأرجو أن يأتي اليوم الذي أغشى فيه مسرح هذه الفرقة فأراها تقدم عددا من المسرحيات ذات الفصل الواحد مثلا، أو أراها تعرض مسرحيات مما ترفض الفرقة عرضه الآن، فإن الفرقة المصرية ترفض الكثير من أروع المسرحيات محتجة بأن الجمهور لن يقبل عليها. ويكفي أن يعلم القارئ أن الفرقة رفضت مسرحيات لهنريك إبسن النرويجي مؤسس المسرح الحديث وأستاذ برناردشو، كما رفضت مسرحيات لسومرست موم الكاتب الإنجليزي العظيم.

المسرح والسينما:

وقد يدعي البعض أن السبب فيما حاق بالمسرح إنما هو انتشار السينما، فهي تتفوق على المسرح بوفرة مناظرها وتنوعها، واستطاعتها الجمع بين كبار الممثلين في صعيد واحد، وبرخص أسعارها بالنسبة للمشاهدين لإمكان عرض الرواية مئات المرات دون أن يدفع للممثلين أجر عن كل مرة، ثم لأنها اجتذبت كبار ممثلي المسرح بما تدفعه لهم من أجور عالية.

وهذه مغالطة، مغالطة ضخمة، لجأ إليها المتقاعسون عن العمل على رفع شأن المسرح، لأنها أسهل حجة يبعدون بها اللوم عن أنفسهم.

وما المسرح والسينما إلا كالرسم والتصوير، فإذا كان التصوير الفوتوغرافي قد قضى على الرسم بالفحم أو بالزيت، فإن السينما يمكن أن تقضي على المسرح. فالمسرح بالنسبة للمشاهدين شيء فيه حياة وروح لأنهم يرون الممثلين أمامهم بأشخاصهم، أما السينما فهي خيالات تعتمد على شيء كثير من خيال الجمهور ليوهم نفسه بأن أشخاصها أشخاص حقيقيون. ولهذا يفضل الناس الذهاب إلى المسرح، فالشخص يذهب إلى دار السينما في كثير من الأحيان، ولكنه إذا أراد أن يحتفل بمناسبة ما وأراد قضاء سهرة خاصة خارج البيت فإنه يقصد المسرح.

وكذلك الحال بالنسبة للممثلين فإنهم يفضلون العمل في المسرح على العمل في السينما، وكل مطلع على أخبار الفنانين يسمع عن انصراف بعض ممثلي السينما في أمريكا وأوربا إلى المسرح بعض الوقت إرضاء لميلهم الفني، لأن المسرح يغذي فيهم الحاسة الفنية.

الرواية المسرحية:

لا جدل في أن الرواية المسرحية هي أحد الأعمدة التي يقوم عليها فن التمثيل، لذا يجب العناية بالتأليف المسرحي أكبر العناية حتى يظهر بيننا المؤلفون المسرحيون الذين يعتد بأعمالهم. وإني لا أنكر أن في مصر بعض مؤلفين ممتازين، ولكن ليس بالقدر الواجب توافره. والكتابة المسرحية تختلف عن أنواع الأدب الأخرى في أنها قائمة على الحوار، وإن بنائها يختلف اختلافا كليا عن القصة أو القصيدة مثلا، فالمسرحية لها قواعد خاصة يجب أن يلم بها المؤلف، فهي له كالنحو للكاتب لا يمكن أن يكتب كتابة سليمة إلا بمعرفته، كذلك لا يستطيع مؤلف أن يكتب مسرحيات صحيحة من وجهة النظر المسرحية إلا بدراسة هذه القواعد.

ولما كان أدبنا العربي لم يعمل في هذا الميدان إلا في السنوات الأربعين الأخيرة، فليس فيه أساس يبني عليه المحدثون، فواجب علينا لمن نطلع على ما كتبه الغربيون في هذا النوع، وأن نطلع على الكتب التي ألفت في دراسة المسرحية.

ولما كان عدد من يعرفون اللغات الأوربية قليلا في مصر، فإني أرى أن من واجب وزارة المعارف، ولجنة ترقية التمثيل، والمعهد العالي لفن التمثيل العربي، ودور النشر المختلفة، أن يتكاتفوا جميعا وينشروا ترجمات روائع المسرحيات من مختلف اللغات، وترجمات لكتب الفن المسرحي.

ومن الغريب حقا، أن دور النشر، وهي تعرض في الأسواق كل يوم عشرات من الكتب، أهملت المسرح والمسرحيات، ولم تنشر منها إلا أقل القليل، وهو أمر غريب، غريب حقا أن تتكاتف دور النشر جميعا على إهمال المسرح هذا الإهمال المشين.

ترجموا المسرحيات الجيدة، وأنا الكفيل بأننا سنرى بيننا بعد بضع سنوات عددا كبيرا من المؤلفين المسرحيين المجيدين.

وسائل النهوض بالمسرح:

وأخيرا، ألخص ما يجب علينا عمله لننهض بالمسرح المصري من كبوته فأقول:

انشروا حب المسرح بين أفراد الشعب وخاصة طلبة المدارس، وأكثروا من الفرق التمثيلية ليكون بينها تنافس يدفعها إلى الكمال، انشروا بين الناس ترجمات صحيحة جيدة لأروع المسرحيات ولأكبر ما كتب عن فن المسرح.

هذا هو السبيل، وهو بين واضح لمن يريد العمل على نهضة المسرح؛ أما غير ذلك فلغو باطل لا خير فيه.

محمود سامي أحمد


مجلة الرسالة - العدد 872
بتاريخ: 20 - 03 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى