حسن المسعود - تجربتي في الشعر والخط..

عند دخولي المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1969، كنت أعتقد بأنني سأتمكن من أن أطوّع فلسفة الجمال وتقـنيات الفن الاوربي لما اريد. ولكنني فيما بعد اكتـشـفت صعوبة لبس ثوب الحضارة الاخرى. وكل هذا المشاعر كانت تمرفي البداية عبر احاسيس ضبابية وغير واضحة، لكنما كنت أدرك أنذاك انني في ضياع بالنسبة للمسار الفني.
وعندما كنت أطرح السؤال على نفسي: الى اين الاتجاه؟ تظهر لي صورتي كمن تاه في نفق مظلم ولا يرى النور في النهاية. أنذاك تحسـست بعمق قول فرانز فانون: تأكيد الذات ليس لعبة أنما هوالعذاب.

وتدريجيا وجدت نفسي أعود نحو الخط العربي في لوحاتي، ولكنها عودة لطابق آخر في هذا الفن، اذ وجدت فضاء جديد لم اعرفه من قبل. وكان ذلك في بداية العام 1973 فقد كنت سابقا خطاطا للاعلانات في بغداد وأملك بدايات وتجربة في الخط لعدة سنوات. وهكذا دعوت تجارب الماضي لمساعدتي فاستخدمت الخط في لوحاتي بطرق متعددة، وكانت كلها في البداية طرق تجريـبية وغيرأكيدة. ثم قادتني هذه التجارب الى التفكير بعالم الصور في الفن التشكيلي. الصور المقلدة لما هو مرئي والصورالمتخيلة.
وهنا تبادرت امامي تساؤلات حول اختـفاء الصور في المدينة العربية القديمة. و كيف انتقل المجتمع العربي البدوي نحو الكلام وبعد ذلك نحو الكتابة والخط؟

كنت أتسائل: هل ان الطبيعة المحيطة بالشعوب يمكنها التأثـير على الفنون واعطائها خصوصيات وأساليب تختلف من مكان لآخر؟
و لماذا يغلب التجريد على فنون الشـرق، ولماذا تغلب الرسوم التـشخيصية على فنون الغرب؟ كل هذه التساؤلات بدت لي كضرورة لمعرفة نفسي، وللقول من اين اتيت والى اين اذهب؟

سكان الصحراء الاوائل عرفوا الصور عبر صور السراب، وكانوا يعرفون ان صور السراب هي صور الغدر. فكم تائه في الصحراء انقاد اليها وهي تبتعد عنه كلما سار نحوها، وتاه في البراري حتى الموت.

شاهدت أنا بعيني صور السراب. ومنها في صحراء النجف جنوب العراق، وعمري أنذاك عشـرة سنوات. كنت أركض في الصحراء للوصول الى بحيرة وأشجار أراها قريبة بوضوح، متخيلا انها لاتبعد أكثر من ربع ساعة مشـيا على الاقدام، وبعد ساعات أكـتـشـفت أنها تبتعد دائما بنفس المسافة كلما سرت نحوها. فرجعت خائبا متحملا ً العطش والحر.

وفي مرة أخرى شاهدت صورا غريبة في منطقة ـ شط الجريد ـ بصحراء تونس. اذ رأيت قافلة من الاباعر والهوادج بحجم كبير جدا، تبدو وكأنها ليسـت بعيدة تحت الحر وغبار الجو. لم تكن الصور واضحة، ولكن رغم كونها مشوشـة فأنها لاتوحي بأنها وهما في الفراغ الهائل للصحراء.

من المعروف ان صور السراب هي نتيجة اختلاف درجات الحرارة في الطبقات الهوائية، بالنسبة لقربها وبعدها عن الارض.

ان هذه الصور توحي للمشاهد بوجود الحياة، وتبدو انها بمكان ليس بعيدا في الفراغ اللانهائي للصحراء، ولكنها صور كاذبة ويمكنها ان تقود الانسان نحوالضياع والموت.

هل ان هذه الصور هي التي جعلت سكان الصحراء في شك دائم أزاء الصور المرئية؟
خوف وخشية لاواعية أزاء الصور استمرت فيما بعد داخل المدينة العربية؟ فعملت القبائل العربية قبل الاسلام تماثيل وصور تعبدها كي تـتجنب شرها. ولكن هذه التماثيل والصور لم تعد محببة بعد الاسلام. وهكذا نرى ان ارض الاسلام لم تعد فيها الصورة مرسومة على جدران المعالم المعمارية داخل المدينة. انما الكلام اصبح مكبرا بخطوط متعددة الاساليب.

ولكني كنت في ذلك الوقت في شك لطرح هذه الاسئلة. كنت أتسائل هل انني في دراستي الفنية بباريس على ارتباط فعلي وجوهري بهذه الجذورالقديمة البعيدة؟
ولكن العودة للخط وزميله الشـعر كانا أقوى مني وكنت اتبعهما. لماذا أكون في تعادل عندما اتعامل مع الخط والشعر؟ ولماذا افـقد هذا التعادل عندما أرسم الاشكال التشخيصية؟ لماذا اشعر بانني في بحث فني عندما اتعامل مع اصباغ عملت مع الماء على الورق. ولا اجد ذلك في استخدامي للالوان الزيتية والقماش؟
في خطوطي اشعر وكأنني في حوار مع التجربة الحياتية الاولى، مع عالم الطفولة المنسي، وكل ما اختزنته ذاكرتي من أشكال. اشكال القباب الذهبـية والزرقاء، اشكال بيوت الطابوق ذات الخطوط المسـتـقيمة والفضاء اللا نهائي بأتجاه الافق.
كيف سأقـنع الآخرين وأنا أدرس في أكبر وأهم مدرسة للفن في باريس؟ ولكني أعود في عملي الفني للاشياء القديمة في الخط العربي. أعود الى وصفات الحبر والى تحضير القصبة؟ في ذلك الوقت أي في السبعينات من القرن العشرين، لم نكن بعد نرى تجارب كثيرة حديثة حول الخط العربي نابعة من اساليبه التقليدية، وممن استعمل الحرف العربي في اللوحة أنذاك، كان في اكثر الاحيان كرسم للحرف بالالوان الزيتية وليس خطا آتيا من الاساليب الخطية المعروفة. اما ماكنت اريد عمله هو جذب الحروف المخطوطة حسب اساليبها نحو الفن التشكيلي.
يتجه فكري أحيانا نحو الشعراء متسائلا، هل ان انحسار الصور في المدينة العربية دفعهم فيما بعد الى خلق صور ذهنية متخيلة؟ وان هذه الصور المتخيلة والمرسومة بالكلمات فقط،أدت الى تقلص انتاج الفن التشـكيلي التشخيصي في الصحراء وبعد ذلك في المدن؟ هل ان تقلص الصورة التشخيصية في المعالم المعمارية بأرض الاسلام أصبح بالتالي عاملا لصالح الابتكار في الشعر والفنون الزخرفية والخط العربي؟
انني كفنان تشكيلي ابحث عن طريقة شخصية للتعبـيرالفـني، وجدت في صور الشعراء اقـترابا لما أريد الوصول اليه. وجدت في عالم الشعر عونا لي عندما تغلق ابواب الايحاءات ولا أجد المنافذ للابتكار. ولكن كيف يمكن ان اخلط كلمات الشاعر بحروف مخطوطة، للوصول الى لوحة فنية تنـتمي للتراث الفني العربي، وتكون جديدة وغير معروفة سابقا. وباختصار أريد عمل لوحة معاصرة تنتمي في جذورها لعائلة الخط العربي؟

ان مايدهـش في الصور الشعرية كونها تملك قوة تعبيرية كبيرة، ولكنها في نفس الوقت تستخدم ابسط الاشياء انها تستخدم الكلمات فقط. تستخدم اللفظ فـقط. والخط العربي الاخ القريب للشعر هو الآخر لايحتاج الى اشياء كثيرة، انه لايحتاج الا لورقة وقلم وحبر. كم من خط ادهـشنا ولكنه ليس اكثر من حبر اسود على رقعة صغيرة من الورق.

ولو نرجع لبداية انحسار الصور في الصحراء، لنجد ان بساطة الحياة وقلة المواد حول الانسان كانت من العوامل التي ادت الى ظهور الشعر، وأستخدامه للتعبير بدل التماثيل والصور الملونة. الشعر هو رسم المناظر بالكلمات: رسوم الديار والخيول والخيام.

هنالك عوامل اخرى كثيرة ساهمت في البداية بتقـليل الصور في المجتمعات الصحراوية. منها كون سكان الصحراء هم من البدو الرّحل، ولايحملون معهم الا ماهو ضروري وخفيف. وقلة توفر المواد الاولية للاعمال الفنية.

وهنالك سبب آخر مهم وهو كون ان الصور تعرضت للنقد قديما من قبل الفيلسوف افلاطون وبعض التيارات الدينية في الشرق. فرفضت بعض المدن الصور قبل الاسلام، ولكن بعد مجيء الاسلام فان الصور والتماثيل لم تعد محببة في البنايات بالمدن العربية والاسلامية. بسبب الوثـنية القديمة، وتحولت الصور الى حجوم مصغرة في الكتب. ولم تعد تزين الجدران كما هو في العالم الغربي.

الصور المتخيلة في الشعرتبقى ضرورية في زمننا الحالي. وكما يقول اينشـتاين ان التخيلات هي أهم من المعرفة. وعنده الحق لان المعرفة آتية من التخيلات والتخيلات تسـبق المعرفة دائما. الصور المتخيلة تقابل الصورالاخرى، تلك الصورالتي تمنح نفـسها بسهولة. اذ نرى اليوم صور متطورة تقـنيا متاحة للكل، كما في التلفزيون وفي الآت التصوير، مما يشـبع رغبة الانسان في استهلاك الصور. انها صور سهلة المنال. ولكن اشباع الذهـن بهذا النوع من الصور انما يقلص من امكانية الانسان في التخيل، وبالتالي يقلص من خلق وابتكار الصور الجوهرية، الصور السليمة.
الحل السليم هو بالتعادل مابين الصور السهلة، ومابين الصور الشاعرية المتخيلة الصعبة والتي تحتاج الى جهد لمشاركة السامع في خلقها.

وهكذا وجدت أجواء متعددة في الصور الشعرية تنـشـط مخـيلتي، وتساعدني في انتاج عمل فني تشكيلي مادته الحروف. ومع مرور السنـين وجدتني أعـتبر الشعر من المواد الاساسية في عملي الفني. الى جانب كل المرئيات، ومن هذه المرئيات ما شاهـدته عبر السنين لاشكال الحروف والتشكيلات الخطية.

يؤكد لنا علماء الدماغ بأن تعادل نفسـية الانسان، لايتم الا في تعادل بين استهلاك الصور من جهة وبين انتاج وتحرير الصور من جهة اخرى.
ولتحرير الصور من المخيلة البشرية، لابد للانسان من تأمل الطبيعة ومنتجاتها كالاشجارأوالغيوم. ومشاهدة الاعمال الفنية كالرقص والموسيقى وقراءة القصص الادبية والشعر. ومن الطبيعي مشاهدة الخط أيضا وهو محور هذا المقال الخ. كل هذه الفنون تنشـط التخيلات وتحرر الصور من الذهن. بينما ان يجلس الانسان لساعات طويلة امام التلـفزيون مثلا فأن ذلك الاستهلاك للصور السهلة يقلل من قدرته على التخيل.

كل الشعوب على الارض انتجت فنون نابعة من حاجتها التعبـيرية، وتخضع لمؤثرات الطبيعة المحيطة بها. وبمرور الزمن تزداد تراكمات النتاجات الثـقافية للاجيال المتعاقبة، فتدخل اشكال الفنون في الذاكرة الجماعية للبشر في تلك البقعة. ففي اوربا مثلا استعمل الفنان الصور التشخيصية لديكور المعالم المعمارية، ومنذ الصغر شاهد الطفل في هذه المدن تلك الصور واصبحت جزء من ذاكرته الفنية. بينما في الصحراء والمدن القريبة منها لايرى الانسان الا مساحات صافية من الرمل الاصفر والسماء الزرقاء، فتكون كصفحات نقية لتخيلاته الشكلية. وعندما يدخل المدينة في العالم الاسلامي فانه لن يكن يرى سابقا الا خطوط المعالم المعمارية.
اليوم يمكن القول ان كل تعبير فني له قيمته الخاصة به. ولا يمكن ان نعطي افضلية للواحد على الآخر. كل الفنون هي من عائلة واحدة وكل فن ينير الفن الآخر.
فقدان الصور في المدن القريبة من الصحراء ليس بعيدا عن زمننا الحالي، ففي طفولتي وعندما كنت اسكن مدينة النجف في جنوب العراق، لم تكن هنالك رؤية ممكنة للصورالا ما ندر. وذلك في الخمسينيات من القرن الماضي. ورأيت هذا الحال الآن، في بعض المدن الموريتانية القريبة من الصحراء.

عندما ابحث عن الفنون المرئية التي انـتـشـرت في المجتمع الذي انتمي اليه، أجد ان الخط العربي هو احد هذه الفنون ومن تراكماته تغذيت، عبر خطوط الكتب وعبر ماهو على الجدران والحاجيات اليومية. أمتلات عيوني بأشكاله منذ الصغر. ثم اصبح مجال عملي الوحيد منذ عام 1960 وها انا اجده من جديد وأعود اليه في باريس في الثمانينات من القرن العشرين. اتحد بأجمل ماتركه لنا الخطاطون القدماء. أقدر مدى صعوبة عملهم، وأثمن امكانياته الجمالية، وأن كان الخط قد دخل عيوني منذ الصغر فأن آذاني قد سمعت أيضا منذ الطفولة في المدينة والمدرسة الشعرالعربي.
وها انا ألآن في باريس ألتـقي بالخط والشعركمن يلتقي بسعادة أصدقاءه القدماء. وربما ان الغربة هي التي ساعدت في اتساع زخم هذا اللقاء.
وان ارتبطت الصورة في الصحراء بذكريات صور السراب الغادرة منذ البداية عند المجتمع البدوي، فأن الشاعر امرؤ القيس أول من جاء بحل جوهري لهذه المشكلة، وذلك برسمه الصور بالكلمات. صور شعرية واضحة ومؤثرة، استحـسنها الشـعراء وساروا على نهجها فيما بعد. امرؤ القـيـس اول من رسم الديار والتوقف على الطلول، بكلمات قليلة في جودة من السـبك وبلاغة في المعاني. وأضاف كذلك التعبير الوجداني كما في قوله:

وليل كموج البحر أرخى سدوله على بأنواع الهموم ليـبتلي

الآم الشاعر تحولت هنا الى مايشـابه لوحة فنية، رسم فيها بخياله الواسع الموجات الثـقيلة التي تريد أن تسحقه. ومن يسكن الصحراء ولم يكن قد رأى البحرانذاك، كان البحر بالنسـبة له كنهاية العالم. وحتما ان خيال السامع كان يتخيل منظرا مرعبا وهائلا. ويمكنني كفنان تشـكيلي يستعمل الحرف العربي أن أخط هذه الكلمات في اللحظات التي تـثـقل الهموم فيها قـلبي.
في كل لحظة اترك قلبي يقود يدي وهي تخط، فتـتكرر اللوحات كل واحدة تعكس لحظات خطها. وكل جرة حرف انما سـتمـتليء بما في داخلي من أحاسيس. أتخيل امرؤ القيـس وهو يؤلف بيته الشعري، أعيـش هذه اللحظات بعمق، فتدخل احاسـيس الهموم داخل الحركات الخطية، وتنكمش على نفسها ويتقلص البياض لصالح السواد وهكذا.
أعيد الخط عدة مرات من أجل تحقـيق الصورة المتخيلة في ذهني بالضبط. فأجد أن الخط الذي عملته في الدقائق الماضية سيكون مختلفا عن الخط الذي سأعمله في الدقائق الآتية، لانني وبمجرد خط لوحة مع هذا البيت الشعري، انما حاورت ذاتي عن سبب الهموم، ولما كانت الهموم والافراح نخلقها نحن انفـسنا بسـبب أو بدون سـبـب، فأن هذا الحوار مع الهموم قد يلغى هذه الهموم، أو يقلصها بعد اول لوحة، وعندما اخط اللوحة التالية انما اكتشـف نوع من الهدوء قد بدأ يدخل قلبي المضطرب، ومظهر خطوطي كذلك، وهكذا ان هذا البيت الشعري لأمرؤالقيس يصبح مادة للعمل الفني.

أجد ان رفقة الشعراء تساعدني في الذهاب الى ابعد مما استطيع. عند كل الشعراء وفي كل العصور نجد اجواء وصور متعددة، ولكننا نقـترب أحيانا من هذا اكثر من ذاك، وفي هذا اليوم اجدني اتحسـس الشعر القديم، بينما في يوم آخر اتحسـس الشعر الحديث. وهكذا

ولنعود لصور الشعراء:
ففي بيت شعري لابن الرفاعي يصور أحاسيس مشابهة لما قال أمرؤ القيس:

وفوقي سحاب ٌ يـُمطر الهمّ والاسى = وتحتي بحار بالجوى تتدفق ُ

يعطيني هذا البيت الشعري احساس بالفضاء، بما هو فوق في الاعالي وبما هو تحت في الاسفل. وبما هو افقي بنفس الوقت. فالسحاب تسـير في السماء والبحر يسـير على الارض. فأتخيل المنظر الذي سـيدخل في الكلمات ومن هذه الكلمات وحروفها سيكون الهيكل القادم لهذا الخط. أتخيل الهندسـية الكامنة خلف اشكال الحروف وبنفس الوقت اتحسس المعنى، وامتـزاجهما ضرورة في اللوحة الخطية.

خضع الشـعر لقوانين راقية، قوانين في المعنى والشكل بآن واحد. الايقاعات الموسـيـقية المسـموعة تأتي من التعاقب الزمني للحركات والسواكن. والتعدد في شكل الابيات الشعرية أخذ تنوعا واسعا، فمن أسماء البحور يمكننا تصور الثراء الشكلي للبيت الشعري: الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، والرجز، والرمل، والهزج، والمنسرح، والخفيف، والسريع، والمتـقارب، والمقـتضب، والمجتـث.

وفي الخط يكون الاهتمام بالفراغ أحيانا أهم من خط الحروف نفسها. الخطاط يهتم بأيقاعات الفراغ حول الحروف. وهل ان المهم والذي تنظره عيون المشاهد في الخطوط هو الحروف السوداء ام البياض حول الحروف والذي تحدده هذه الحروف؟ أم كلا الاثـنين؟
ومثل تـنوع البحورفي الشعر، اننا نملك تنوع الاساليب الخطية وهي كثيرة ومنها: الكوفي، والنسخ، والثلث،والريحاني،والمحقق، والفارسي، والديواني،والاجازة، والرقعة. وكما ذكرت أعلاه ان الشعر والخط اخوة ينحدرون من نفس العائلة وما أختلافهم الا اثراء من الواحد للآخر.

ان خيال الشاعر يتجه دائما الى ماهو جوهري فيجعل مشاهد الحياة أكثر حقيقة. والحروف التي يتلفظها هي التي ترسم لوحاته. وكما يقول ابن سنان الخفاجي: ان الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الالوان من البصر.

في بيت شعري لعمر بن يوسف الحنطي أرى بسرعة لوحة خطية عند سماعي لهذا البيت:

أوميض برق ٍ = أم سيوف تـُـبر ق ُ

عند سماع هذه الكلمات القليلة يتخيل السامع منظراً أكبر بكثير من هذه الكلمات، وهنا تكمن اهمية دور الشعر، اذ يجعل السامع يساهم في العملية الفنية ويكون هو ايضا مبدعا. وفي الخط كذلك فكم من تشكيلة خطية توحي للمشاهد كهذا البيت الشعري بأحاسيس متعددة. نرى اشياء تذهب الى ابعد من النص المخطوط. فالمدات الطويلة بين الحروف في الخط العربي لاتعني شيئا، ولكنها مجال الحلم والتخيل للخطاط والمشاهد ايضا.
ارى عند قراءتي لهذا المقطع الشعري، حروف في حركات فضائية بالخط الفارسي او بالخط الديواني.
فبالاضافة للطرب عند سماع موسيقى الكلمات، والتـقــشف الذي مارسه الشاعر في قلة الكلمات لرسم صورته. نربط هنا ذهنيا مابين تمزق السماء بخطوط بيضاء سريعة، وما بين اشتداد معركة بسيوف لامعة.
واستعمال عمر بن يوسف الحنطي لصورة سماوية تقابل صورة أرضية، نجد تفـسير لهما عند ابن سينا بقوله:

المحاكاة هي ايراد مثل الشيء وليس هو

وقول ابن سينا يلخص الكثير مما اريد قوله. ففي لوحاتي الخطية لا اريد ان اخط الكلمات بالاساليب التـقليدية المعروفة ولا أريد ايضا أن أرسم البرق والسيوف بشكلها الطبيعي. انما أريد المحاكاة. اريد عمل خط يكون مثل البرق والسيوف ولكن ليس البرق والسيوف.

يحيط الشعراء في الصحراء فضاء واسع صاف، لايوقـفه الا خط الافق البعيد. خط الافق المستديرمن كل الجهات التي ينظر اليها الانسان. وتــشابه مناظر الصحراء وأنعدام الاشكال الكثيرة، يدفع الشاعر الى التغلغل في اعماقه، فيكثــف احاسـيـسه الداخلية. وبينما هو في لحظات التأمل الطويلة، تـنفجر الصور في ذهنه بمجرد رؤيته لشيء ما يحفز هذه الصورعلى الخروج. كقول سلم بن عمر:

ســقــتـني بعـيــنـيها الهوى وسـقــيـتها

كلمة سقـتـني هي كلمة مضادة للعطـش الذي يعرفه جيدا سكان الصحراء، فهم يعرفون قيمة الماء في ارواء الظمأ. وهنا استخدم الشاعر هذه الصورة الايجابية في الارواء من العيون البشـرية وليس الارواء من عيون الماء.
الذكاء عند الشاعر في طرح صورة العين والسقي، والوهم بين عين ماء وعين بشرية، يوضح صعوبة متطلبات صناعة الشعر، وبالتالي نجد هذه الصعوبة ايضا في صناعة الخط لان كلاهما يتطلبان هذه المهارة السحرية.

وان تكن هذه الصورة قد ولدت من حضور ماهو مرئي، فهنالك صور لغياب الرؤية كما يقول قيس بن ذريح:
وددت من الشوق الذي بي أنـّني = أ ُعار جناحي طائر فأطير

وهنا صورة الشوق طائرة في الفضاء وكم من مجال للخطاط في الهيام بالفضاء لخلق نفس الاجواء. أليست صورة كهذه منشــطة لذهن الخطاط في تصعيد حروفه عندما يجدها ثقــيلة ومتباطئة؟

ولكن شاعرنا قيــس بن ذريح لن يطيرالا في مخيلته فيصف المرأة بهذه الصورة:

ولو لبســت ثوبا من الورد خالصا = لخدش منها جلدها ورق الورد ِ

أية رهافة يصفها قيــس بن ذريح عبر هذه الصورة النادرة. انها نادرة تماما كندرة الورد في الصحراء. وبصورته هذه يطلق العنان لمخيلة السامع في تخيل اشياء كثيرة: الورد والـثوب ونعومة المرأة. وهنا ماعلى الخطاط الا ان يستعمل قلما دقـيقا لوصف هذه الصورأو يستعمل الوانا رقـيقة كورق الورد.

الشاعر العباس بن الاحنف يرسم ويقول نفس المشاعر في البيت الاول لقيس بن ذريح:

أسرب القطا: هل من يـُعير جَناحهُ = لعلي الى من قد هويت ُ أطيرُ

انه يطلب من سرب الطيور اعارته جناح للطيران كي يلتقي من يهوى. فأن هذه الصورة تقول لنا انه في لحظة قول الشعر تمر امام الشاعر الطيور فيـقرر اشراكها بعمله الفني وبأحاسيسه. وكم هي بسيطة هذه الصورة. الشاعـرهنا يعلمنا العـفوية وتحسـس مايحوطنا بدل التـقليد للاخرين بصور ثـقيلة معقدة.
وفي اللوحات الخطية يعلمني هذا الشاعر استلهام الحدث حولي، وهضم التأثيرات المتعددة كاألافراح والآلام وتأمل عناصرالطبيعة، واخراجها على شكل تعبيرفني. ولكن العفوية التي نتكلم عنها ليست آتية بسهولة. انها نتيجة بحث وتأمل مسبق.
الشعر كما يقال صناعة وطبع وبراعة، لذلك لاتوجد سهولة في ســيولة الصورالشعرية. فالكلمات تساهم في تنــشـيط الصورالمتخيلة، ولكن ايجاد الكلمة المناســبة للمكان المناسب يتطلب بحث وتأمل لزمن طويل من اجل بناء البيت الشعري. كما يذكر ذلك الشاعر ســويد بن كراع:

أبيت بأبواب القوافي كأنـّما = أ ُصادي بها سربا من الوحش نـُزّعا

فأن الكلمات يمكن ان تكون متمردة متوحـشة لاتسـتــسلم بسهولة للشاعر. وهكذا تـترك الشاعرامام الباب منتظرا. يوضح لنا الشعراء ان البسيط ليس سهلا. والعفوية هي نتيجة لما قبلها من بحث طويل وأهتمام واسع.

الخطوط المبتكرة تكون كذلك، فانها لاتاتي وحدها انما لابد من الذهاب نحوها وانتظارها. وقد تأتي او قد لاتاتي. وعندما لا تأتي لابد من الانتظار. وهكذا ان الايحاءات تكون احيانا كطاغية متمردة تفرض ارادتها، ولكنها تكافيء بكرم من يعرف حقيــقـتها ويصبر طويلا للالتقاء بها.

وكما قال ابن البواب في القرن الحادي عشريصف الخط العربي وعلاقته بالخطاط:
ان من تعاطى هذه الصناعة ـ يحتاج ـ الى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية بها والكلف الشديد بها، ولوع الدائم بمزاولتها، فانها شـديدة النفار، بطيئة الاستـقرار، مـُطمعة الخداع، وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء، نوار قيدها الاعمال، شموس قهرها الوصال، لاتسمح ببعضها الا لمن آثرها بجملته، وأقبل عليها بكليته، ووقف على تآلفها سائر زمنه.
ونجد في النصوص الادبية القديمة الكثير من الآراء حول الشعر وصوره كقول حازم القرطاجني عن التخيل في الشعر:
تكون بأن يتصور في الذهن شيء من طريق الفكر وخطرات البال، أو بأن تشــاهد النفــس شيئا فتذكر به شيئا ، أو بأن يحاكي لها شيء بتصوير نحتي أو خطي.

وهكذا يعلمني الشاعر مرة أخرى بأن آخذ الحروف، و أعيد تركيبها أو أكسرها وأعيد بنائها. الف شكل وشكل ممكن لكل كلمة في الخط العربي. و من الممكن ان نجد حروف متمردة متوحـشة لا تستــسلم بسهولة للخطاط. ولكن في الصبر والمثابرة يجعلها تســتـسلم في الاخيرلأرادته.

بعض الصور الشعرية جاءت للشعراء عند حلول الظلام. حيث ينظر الشاعر للسماء الآهلة بالنجوم، في سماء ملونة بلون ازرق غامق حتى السواد. ومابين حالة الوعي والنعاس يرى الشاعر هذه الصفحة الكبيرة للسماء مرصعة بالنجوم. وكلما غلق عينيه وفتحها يرى النجوم وقد غيرت مكانها. فتختلط هذه الصور بتأملاته كما يقول لبيد بن ربيعة:

وما المرء الا كالشهاب وضوئه = يحور رمادا بعد اذ هو ساطع

تضمن الشعرالعربي كل افكارالانسان ازاء الوجود، وعلى الخطاط ان يقرأ ابيات الشاعرليخفف من عناء قلبه. وهنا في شعر لبيد فكرة فلســفية تجاه مشكلة الوجود، فكرة تمتزج بحركية الشــهاب وبسقوط الرماد. هنا أرى ذهنيا لوحة تتضمن جوهر كل عمل فني ناجح. ألا هو في الايحاء بنقطة ثبات وموت في الرماد ونقطة حياة وهروب في الشهاب. هذا الشهاب الذي يتحول بلحظة البرق السريع الى رماد. كل تكوين ناجح وديناميكي في الفن يتطلب ان نرى نقطة ثبات في مكان وبمكان آخر نقطة هروب.

ويرسم لنا الشاعر سعيد بن محمد المرواني القمر فيقول:

والبدر في جو السماء قد انطوى = طرفاه حتى عاد مثل الزورق

ارى هذا البيت الشعري كخط ابيض رفيع على فضاء أزرق، ان هذا الشاعر ربما كان خطاطا بنفس الوقت لانه يرسم منظره الحروفي بسهولة. ولابد من القول بأن المجتمع الاسلامي قبل القرن العشرين كان يعلم ابنائه منذ الصغر الكتابة بالخط الجميل وليس كما في عصرنا بالاقلام الرديئة كقلم الحبر الجاف.

وفي رسم آخر عمله لنا الشاعر ابوالحسن التهامي:

ان الكواكب في عـُلو محلها = لتـُرى صغارا وهي غير صغار

تبدو هذه الصورة كوصف سطحي للسماء ونجومها، ولكنها تعطينا صورة مجازية لكل الاشياء التي ترى من بعيد بشكل بسيط لكنما عند الاقـتراب منها ندرك مدى عمقها، وهذا الاقـتراب يسمح لنا بالتعرف على حقيقتها التي لم نكن نتصورها.
ففي الخط أيضا نحتاج الى هذا المجاز أي نقصد شيئا في تشكيل الحروف بينما يرى الاخرون أحيانا شيئا آخر. نخط كلمات ونفكر بالمعنى، بينما المشاهد يعجب بشكل الحروف ومظهرالحبر، أو ان تخيلاته تقوده لرؤية شيء لم نفكر به ابدا. وهذا هو دور ووظيفة العمل الفني في تحرير افكار المشاهد ودفعه للمساهمة في التامل.

ومن صورة اخرى أكثر بساطة للشاعر جميل بن معمر، يعطي فيها للمرأة صورة البدر:

هي البدر حـُسـنا، والنساء كواكب وشـتـّان مابين الكواكب والبدر
في هذا البيت تأخذ الكافات اشكالا متحركة منتصرة تريد الصعود والخروج. مما تسـمح للخطاط بأمكانيات متعددة لتشكيلاته. فالنغم اللفـظي للشعر يمكن ترجمته بسرعة الى نغم خطي.

وعندما يقترب الفجر وتختتفي الكواكب يرسم لنا تميم بن المعز صورة رائعة:

كأن سواد الليل والصبح طالع = بقايا مجال الكحل في الاعين الزرق

هل يمكن للخطاط المعاصران يرسم لنا صورة بهذا العمق وبهذه البساطة بحروف قليلة كهذا البيت الشعري؟ ولكن وبعد استخدام طويل للحبر الاسود في الخط ها ان الشاعر تميم بن المعز يسمح لنا في هذا البيت الشعري بأستعمال الالوان.

ولو نتسآل كيف قارن تميم بن المعز مشهد السماء بالأعين الزرق؟ فيجيبنا الجاحظ في نقده للشعر:

ان الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم. وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع.
وهكذا ان الجاحظ يعطينا درس في الفلسفة الجمالية. يطلب من عندنا الجرأة على التغيير والتجديد. يقول لنا ماهو الابداع في سطور قليلة.

الصور الشعرية تعطي الطمأنـينة للشـاعر عندما تـنـتابه أحاسـيس وجدانية مؤلمة. وهذه الصور تكون فيما بعد مخفـفة لألآم السامع الذي يشارك الشاعر بأحاسيس ألم متقاربة. فهذا ابو الطيب المتنبي رغم الاعتداد بالنفس المعروف عنه، يفـقد هنا ثـقـته بنفسه:

كريشـة بمهب الريح ساقـطة = لاتسـتقر على حال من القلق

أن قوة هذه الصورة الشعرية لاتكمن هنا في قوة الصناعة الشعرية عند المتنبي فقط. انما ايضا انها آتية من كونه فتح قلبه وتكلم عن معاناته. وهكذا اجد في هذا المثال عونا لي في عملي الفني وان هذا البيت ينير طريقي عندما يعم الظلام. ففي الفن لاتكفي المهارة انما لابد من عكس الاحاســيس الآنية الجديدة لكل لحظة. و قول رأي حول الحياة على الارض وحول المسيرة البشرية. وكم هو ممكن عمل لوحة خطية تأخذ فيها الحروف اشكال طائرة بمهب الريح كصورة الشاعر ابو الطيب المتنبي.

وهنا يتعجب أبو العتاهية من نفسه عبرصورة الهلال:
يمرّ ُ بي الهلال لهدم عمري = وأفرح كلما طلع الهلال

يجيب ابو العتاهية عن تساؤلات الانسان ازاء دورة الزمن، ويلخص الحياة والموت بكلمات بسيطة وبفكرة عميقة. وهكذا عند قراءتي لهذا الشعر اقول انما يجب ان أجد صور بسيطة لخطوطي أيضا، صورعندها القدرة على طرح تساؤلات تمس جوهر الحياة أيضا. وعندما تعجز مخيلتي عن خلق هذا الحوار حول الزمن، استمر أطرق ابواب الشعراء مرة اخرى، فيقول لي الشاعر اسامة بن منقذ بعقلانية :

فالدهر كالميزان ماينفكّ ُ من رفع وخفض ِ

وعلى الرغم من كون هذا الشعر يعيد هنا التكلم عن الحياة والدهر، فأن ذهني التـقط شكل الميزان .فالتكوين الخطي هو ايضا ماينفك من رفع وخفض، فهل استطيع التوصل لتكوين خطي متوازن يقول فكرتي عن الدهر؟
كل عمل الخطاط العربي يعبرعنه ميزان هذا البيت الشعري. فالخطاط يريد دائما ادارة ووزن الكلمات ويتولى معادلتها داخل تكوين متحرك، وفي صراع مع قانون الجاذبية وضغوط الفضاء. الحرف العربي عنده اشكال مختلفة، مرة صاعدة وأخرى هابطة. حرف ينام على السطح الافقي، وحرف يتعلق بخط الافق. وآخر يصعد مائلا أمام آخر ينساب بسيولة. حرف ينسحب من هنا وآخر آت من هناك. حرف متباطيء يسمح لحرف آخر بالظهور منتصرا.

وفي بيت شعري آخر لأسامة بن منقذ أيضا يرسم صورة الشمعة. ولكنه حتما انه يقصد الانسان الذي يضحي بحياته من اجل الآخرين:

أنظر الى حسـن صبر الشـمع يظهر للرائين نورا وفيه النار تسـتعـر

وكم من مرة اوحي لي هذا البيت بصور خطية، لقد اعدت خطه عشرات المرات، وكل مرة أشعر انني لم استطع أعطاء هذا البيت حقه. لاني ارى الصورة الاخرى غير صورة الشمعة. فمن غير الممكن ان يقصد ابن منقذ الشمعة انما اتخذها كصورة مجازية للتكلم عن الانسان.

وللعباس بن الاحنف نقرأ نفس الصورة ولكنه يقول بوضوح ان المقصود هو انسان وليس الشمعة:

وفـتـيلة المصباح تـُحرق نفـسها = وتضيءُ للساري وأنت كذاكا

وهكذا ان الكلمات هنا تـُسبك لخلق جو فني تختلط فيه التـقـنيات والاحاسيس والحكم والاخلاق, وهذه الطريقة الشعرية هي مشابهة لبحث الخطاط. وما قيل عن الشعر من تحليل يمكن ان يكون لنا عونا في مجال الخط. ومن عبارة لابن طباطبا العلوي يقول فيها:

ان الشاعر كما الصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين. فيعـيد صياغتهما بأحسن مما كان عليه.

أعادة الصياغة. منذ سنين طويلة اريد اعادة صياغة الحرف العربي، وكل يوم اريد ان اتوصل لخطوط باحسن مما عملته بالامس. اريد خطوط جديدة لها شكل يتلائم وعملي كفنان تشكيلي. وأعادة الصياغة تفرض ايجاد نفس القوة للخط ولكن بشكل لايشابه ما سبق.

بعض الصور الشعرية تكون كلوحة بالالوان، ونرى هذا في البيت الشعري للحسين بن مطير:

وصفرٌ تراقيها وحُمرٌ أكفها = وسودٌ نواصيها وبيضٌ خُدودُها

عندما اسمع هذا البيت الشعري، ارى ان على الخطاط ان يستطيع استعمال الالوان أيضا والاستفادة من قوتها، مما يعزز رغبتي المسـتمرة في البحث عن اصل الالوان، ووصفاتها المستعملة عند الخطاطين القدماء، ومحاولة تجديدها واثرائها بما يتوفر اليوم من مواد مبتكرة. أعطاء روح العصر الذي نعيش فيه دون قطع الجذور مع الماضي.

وبعد مرور القرون وأهتمام العرب بالحدائق. وخصوصا في بلد كالاندلس، ولدت صور شعرية جديدة. حيث استلهمت حساسية الشاعرالمحيط الجديد. فترك لنا الشعراء صورا رائعة وبألوان زاهية للطبيعة.
وهنا بيت لابن الرومي:

وقد ضَرَبت في خُضرة الروض صُفرة = من الشمس فأخضرّ اخضرارا ً مُشعـشعا

وقد قادتني الاشعار التي تصف مباهج الطبيعة والاشجار والاوراد والاثمار، الى عمل مجموعات متعددة من الخطوط. يكمن فيها بآن واحد صور الطبيعة من جهة، ومن جهة أخرى ما أراده الشاعر في التكلم المجازي عن الانسان. ومن صورة لأبن زيدون تـتطلب من السامع تذكر قصة حياة الشاعر أو تطلق العنان لمخيلته لتصورمايريد. كقوله هذا البيت الرائع:

واذ هصرنا فنون الوصل دانية = قـُطوفها فجنينا منها ما شينا

يحكي هنا ابن زيدون قصة حبه الكبير نحو ولادة بنت الخليفة المستكفي، ويمثل تلك اللحظات السعيدة لأيام الشباب. كغصن مليء بالثمار يكفي أمالته قليلا لقطف ثماره. وكم هي قريبة اشكال هذه الغصون الى الحروف العربية، وعندما نتخـيل غصون ابن زيدون وهو يسحبها نرى صورة للخط العربي. ولكن اية صورة مجازية رائعة للتعبيرعن حبه الى الشاعرة ولادة.

وسأذكر البعض من الصورالشعرية التي توقفت عندها كثيرا:

ومن ذا يرد ُّ السـهم بعـد مضائه ِ

صورة قوية للشاعر كثــيّرـ القرن 7 ـ أيضا انها آتية من عالم الصحراء البسيط والرهيف، صورة السهم النحيف والمنطلق نحو الهدف. الشاعر كثــيّر يريد لهذه الصورة التعبــيرعن كل حدث او قول خطير لايمكن التراجع عنه، ولا يمكن تغــيـير مساره. والحكمة هنا، انه دعوة للانسان للسيطرة على أفعاله.

وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا؟

ـ الشاعر ابن خفاجة يقول لنا انه لايستطيع النوم. وان الارق يجعله يقظا يحلم فيما يراه من صور في السماء. هذه السماء المليئة بالنجوم. فيتخيل صورة الراعي ويلصقها بالنجوم، فيتخيل نفسه راع لهذه النجوم.

ألؤلؤ ٌ دمع هـذا الغــيث أم نقط؟
كم صورة عمل لنا الشاعر ابن هاني الاندلسي في سـتة كلمات فقط؟
اولا ً اللؤلؤ، ثانيا الدمع، ثالثا الغيث، رابعا النقط. انها صور واسعة ومكثـفة يشحنها داخل مجال صغير.

ويعطينا الشاعر ابو عامر بن الحمارة ـ غرناطة ـ بيت شعـري، يعادل مابين الوعي واللاوعي فيرسم لنا صورة معقدة تتطلب تخيلات واسعة لأدراكها:

اذا ظن وكرا مقلتي طائر الكرى = رأى هدبها فأرتاع خوف الحبائل ِ

فأنه في حالة الارق ولا يستطيع النوم، فيصور النوم على شكل طائر، ويقول ان هذا الطائرلايدخل عيونه ،لأنه يتصوران عيون الشاعرهي وكر، بسبب رؤيته للأهداب في مدخل العيون، فـيتخوف ان يقع في الحبائل.

وأختم هذه السطور ببــيـتـين لأبن الرومي يرسم لنا منظرا للحديقة، منظر يكاد ان يكون مشــهد لاحد المعالم المعمارية الاسلامية حيث تمتـزج الغصون والاوراد بالخطوط:

أجنينك الورد أغصان وكثبان = فيهن نوعان تـُفاح ورمان ُ
وفـوق ذينك أعناب مُهدلة = سُود لهن ّ من الظلماء ألوان ُ


حسن المسعود ـ اكتوبر ـ 2008

* منقول عن موقع الخطاط حسن المسعود

arabic calligraphy, Hassan Massoudy مقالات عن الخط العربي ـ بقلم حسن المسعود

لايجوز اعادة النشر دون موافقة الكاتب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى