محمد المخزنجي - فى السماء أَفْضَل جدًا..

قائدى فى سلاح الطيران كان ابن عمى الذى يكبرنى بخمس سنوات، وقد كان مولعا بهندسة السيارات وحب الحياة الحلوة والأكل الطيب والضحك والطائرات الورقية التى كان أستاذا شهيرا فى صناعتها وتطييرها، وقد تلقيت دروسها المتألقة على يديه، وأصبت حظا من النجاح فى سماواتها، لهذا كان أكثر ما لفت نظرى فى ميدان التحرير فى احتشاد الجمعة الفائتة، طائرة ورقية عفية وفاتنة كانت تحلق بثبات فى سماء الميدان بألوان العلم المصرى واكتشفت فيما بعد أن صاحبها قد وضع علم فلسطين فى قلبها، لكن العلم الأخير لم يكن مرئيا كفاية من الأرض وهى تحلق فوق مبنى المُجمَّع وأعلى منه مرَّتين.
صاحب طائرة الميدان سائق تاكسى من امبابة اسمه أسامة، شاب لايتجاوز الثلاثين بلحية خفيفة وعينين عسليتين وجسم متوسط القامة والقوام كان يرتدى بنطلون جينز و«تى شيرت» بسيطا فاتحا وقد اصطحب معه ابنه «سيِّد» الذى لايتجاوز الخامسة ويشبه عصفورا لطيفا بنحافته وخفة حضوره، وقد جاء «أبوسيِّد» بطائرته التى تطاول قامته ليطلقها فى سماء هذه الجمعة التى لم يحب تسميتها «جمعة الغضب» وإن لبّى نداءها، وقال لى وهو ينتحى جانبا على رصيف مبنى وزارة الخارجية القديم ليرتب أشياءه ومعه طائرته الكبيرة وابنه الصغير تأهبا للانصراف عند الغروب: «أنا باحب الثورة جدا، لكن بصراحة مش عاجبنى كلمة جمعة الغضب. غضب على مين؟ طب جمعة الغضب الأولانية كانت غضبا على مبارك والحُكم اللى غار، لكن الوقت؟! النهارده أنا مبسوط ومش مبسوط. مبسوط ان الثورة لسه موجودة علشان تحقق اللى لسه ما اتحققش. لكن مش مبسوط ان احنا اتفرَّقنا».
لقد ذهبتُ إلى الميدان بعينىِّ راصد أكثر من كونى مشايعا لطرف ضد طرف، ولم أكن مستاء من رفض البعض للمشاركة فى هذه الجمعة، فالأمر فى النهاية اختيارات، واختيارات لايمكن إلا أن تكون حرة، ولكن الذى أثار استيائى وزاد من إصرارى على النزول للميدان يومها هو المكر السيئ الذى حاول البعض من خلاله تحريض المجلس العسكرى على من عداهم، وهى لعبة رديئة لتملق القوة واستقطابها لإضعاف الغير كنوع من معارك السياسة التى لانزاهة أخلاقية ولا إنسانية فيها، ناهيك عن أن تكون روحية. وحسنا أن المجلس العسكرى بعد صدور بيان الاستعداء ذاك قد أبدى قدرا معقولا من النأى بنفسه عن هذه الحيل السياسية القديمة التى أخرجها بعض القدامى من جراب الخبرات البالية. لكن الحق ينبغى عدم إغماطه، فهناك شباب نقى ونبيل من أطياف رفضت تنظيماتها وجماعاتها المشاركة فى هذه الجمعة أصروا أن يمثلوا أنفسهم ولا يتخلوا عن شركاء أيام الثورة الصافية حتى وإن كانوا لايوافقون على كل مطالب وشعارات هذه الجمعة، بل أكثر من ذلك أن بعضهم نزل إلى الميدان ليسهم فى حماية الناس بعد أن تخلت عنهم كل حماية رسمية!
إنها ظاهرة تسامى أرى أنها عين المطلوب لحلم النهوض المصرى الآن، ليس ضد أحد، ولكن مع أن نكون مواطنين مصريين فوق كل شىء آخر، طائفى أو حزبى أو أيديولوجى. وبالتوازى مع هذه اللمحة وجدتنى معظم الوقت فى الميدان أنظر للسماء التى توشَّحت بضباب شفيف قلل من سطوع الشمس وخفف من درجة الحرارة بما أحسبه رحمة من رب العالمين بمئات آلاف من احتشدوا هناك منذ الظهيرة التى قالت التنبؤات الجوية إنها ستكون حارقة، بل كان هناك رذاذ من مطر نادر راح يداعب الوجوه بعذوبة. وفى قلب ذلك المشهد الرحمانى للسماء كانت هناك تلك الطائرة الورقية المبهجة التى لم يفلتها بصرى حتى هبطت قرب الغروب فاهتديت إلى صاحبها: أسامة، أبوسيِّد.
طيارة أبوسيِّد هذه كانت عالية فى سماء التحرير وثابتة فى طيرانها، مما ذكرنى بالمعايير الدالة على جودة صناعة مثل هذه الطائرات ودقة ضبط ميزانها ومتعة تطييرها والتى تجعل الممسك بخيطها على الأرض يحس كما لو كان يطير معها، وهذا بعض ما علمنى إياه ابن عمِّى وقائدى فى سلاح طيران حتتنا، وإن مكثت عاتبا عليه فى صغرى لأنه لم يعلمنى أسرار وحيل المعارك التى كان قادرا على الانتصار فيها بطياراته القوية وبراعة مناوراته، وكان كلما سألته عن ذلك يصف مُضاربات ومُكاسرات الطيارات فى الهواء بأنها «حاجة وسخة»، برغم أنه كان مضطرا لخوض بعضها وإحراز انتصارات مدوية سرعان ما كانت تدخل كتاب التاريخ الشفهى لعالم طيران الحتة بل المدينة بأسرها، لكننى للحق لم أضبطه مرة يفاخر بذلك، بل كان يبدو متضايقا من كل انتصار يحققه كأنه حزين لحدوثه، وهو مما لم أستطع تفسيره أيامها.
ربما الآن أستطيع تفسير ذلك، فى ضوء تفسير آخر لولع البشر بتطيير الطائرات الورقية كنوع من التعويض النفسى عن افتقاد الإنسان لحلم الطيران كما الطيور، ومن هذا المنطلق أرى أن تحويل هذا التعويض النفسى السوى إلى معارك تتمزق فيها الطائرات فى الجو ويتعارك بسببها البشر على الأرض، إنما تمثل حالة من النكوص والتنفيس الشقى عن مكبوت العدوان. والعدوان مُخاتل وخسيس وعنيف بطبعه، وعبثى فى تدميرية نتائجه، وإننى لأتذكر من حيل العدوان فى هذه الساحة السماوية تكتيكات لطالما كانت طياراتى اللطيفة الحبيبة تذهب ضحيتها، فيحدث أن ترحب بطيارة تقترب من طيارتك تحسبها طالبة للصداقة والصحبة، لكنها بغتة تفاجئك بتغيير زاوية طيرانها وإرخاء مُخادِع لخيطها فيما يُعرف فى مصطلحات سلاح ذلك الطيران بأنه «تسييب البازار»، وبغتة بعد التسييب وابتعاد الطيارة المريبة وهبوطها يحدث «شد البازار» فتصعد الطائرة النذلة كما سهم حاقد، وتمزق بصعود خيطها المشدود ذيل طائرتك أو تشده فى اتجاه معاكس، فتفقد رايتك السماوية الوديعة توازنها وتسقط، ثم تفترسها على الأرض غوغائية أيادى الطفولة المشوهة. وكثيرا ما كانت النذالة فى هذا الخداع تصل بأصحابها إلى حد تثبيت أمواس حامية فى خيط وزوايا هياكل طائراتهم لتنحر خيوط طائرات البراءة وتمزق مباهج ورقها الخلاب الألوان!
بدت هذه المعارك مثيرة فى عمر الولدنة، لكننى الآن لا أرى فيها أى جمال ولا حتى نشوة انتصار ذى قيمة إذا ما قورنت بنشوة الشعور بأن شيئا يخصك يرتفع فى السماء ويحلق ثابتا، وترتعش شرائط ميزانه وذوائبه فرحا فى الهواء العالى، وهى نشوة صافية يعرف الإحساس بها كل من أمسك بخيط مشدود ومتوتر لطائرة ورقية قوية تحلق باتزان، فكأنك أنت الذى ترتفع وتطير مطمئنا وتبسط جناحيك بلا عنت لتحملك تيارات الهواء ناعمة القدرة، ولابد أن هذا كان شعور أسامة أبوسيِّد الذى يحب الثورة جدا ولا يُرضيه اسم جمعة الغضب ويشعر بالحزن لحالة الفُرقة التى حدثت بعد الثورة بين صانعيها، وقد جعلنى النظر إلى السماء طويلا حيث طائرته المحلقة فوق الحشود، أفكر فى التشرذم الحادث لقوى الثورة برغم أن الميدان كان ممتلئا فى هذه الجمعة بمئات آلاف الذين تحدوا التخويف والتخوين والتحريض الردىء عليهم.
من أين ينبع التشرذم، ومن أين تنبثق كل هذه المعارك التدميرية الماكرة أو البلهاء لتُفتِّت قوى الثورة الجامعة التى كانت آية إنسانية من آيات التحضُّر البشرى، ومنصة انطلاق عالية الثبات لأمة كانت ولاتزال واعدة إن استعادت آيات تحضُّرها تلك، لتصير صاروخ البشرية الإنسانى فى أجواز الصعود والنهوض والتعويض الجميل عن معاناة وقهر وصبر السنين على نظام قمعى ثقيل وفاسد، استبد بالحكم ولم يسلك غير سلوك عصابة، بل عصابة إجرامية؟!.
سيبدو قاسيا جدا لو فسّرتُ دوافع التشرذم الحالى بأنها نوع من سيكولوجية العصابة، حيث يعزز كل طرف نفسه بالانتماء المتعصب لجماعته أو حزبه أو أيديولوجيته، «عصابة» بشكل ما، ثم لايستقيم لهذه « العصابة « أن تشعر بقوتها وتعزز ثقة منتسبيها فى أنفسهم وفيها، إلا بمعاداة «عصابة» أخرى، حقيقية أو مُختَلَقة، والسعى للانتصار عليها وبكل الأسلحة المتاحة!
لن أقطع بأن هذا هو تفسير ذلك التشرذم المُمَزِّق لقوى ثورة يناير المصرية النادرة، لكننى سأكتفى بأن يسأل كل فرد وكل فصيل نفسه أمام ضميره وأمام الله والوطن: أليست مهمة الائتلاف الجامع لإنقاذ أمتنا التى يتهددها ألف خطر وخطر قريب وبعيد، هى أجلّ وأسمى أمام ضمائرنا والله والناس من تحيزاتنا التنظيمية والعقائدية والفكرية التى لا يشكل تشبثنا بها فى هذه اللحظة الفارقة فى حياة الأمة إلا نوعا من سيكولوجية العصابة؟!
لقد كانت قوة الميدان الجامع فى أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة والفريدة تنبع من تبرُّؤ كل قواها من أوشاب التعصب، كل أنواع التعصب، لا تنازلا ولا تضحية، بل لاكتشاف الجميع أن الائتلاف يسير، وممكن، وصِحِّى، وأنقى وأغلى وأجدى من كل اختلاف. فهل صارت انتماءاتنا التنظيمية أو الأيديولوجية أعز من حلم أمة وأشواق وطن؟ لماذا لانبحث عن صيغ جديدة للوفاق والإئتلاف الفعلى، لإنجاز برلمان قوى، ودستور قويم، ورئيس فاضل، وحكم رشيد مرهون بعقد اجتماعى واضح لايجيز القفز على الديمقراطية ومدنية الدولة التى يكاد لايختلف عليها كل الفرقاء الأسوياء والمجتهدين فى الدنيا والدين؟
وألا يمكن أن يتكون من كل أطياف الفرقاء الأسوياء هؤلاء مجلس استشارى للدولة بمثابة برلمان مُصغَّر فى هذه الفترة الانتقالية يكون قناة تواصل ومتابعة بين الشعب والمجلس العسكرى والوزارة ويضم مصريين ذوى رؤية وصدق وشجاعة فى الحق ونبالة فى الاختلاف والاتفاق، يصارحون الشعب والحكم بما هو أفضل فى هذه الفترة الانتقالية ضمن إطار توافقى ترتضيه الأمة وتطمئن إليه ويخفف من هوج التعبير وهرج المطالبات والتناحرات من أجل التركيز على النهوض والبناء، خاصة بناء مؤسسات ديمقراطية خالية من الخروق والشوائب التى لن تستفيد منها غير فلول وذيول التخلف والتعصب والفساد والاستبداد الذى لاينبغى استبعاد احتمالاته المستقبلية إذا ما غفلت أعيننا الآن لحظة.
مجلس استشارى رفيع الشأن والمهام يمثل الأمة ويضم مصريين ذوى قيمة إنسانية وعقلية أكبر من انتماءاتهم التنظيمية أو ميولهم السياسية أذكر منهم تبعا لما يرد تلقائيا على الخاطر وعلى سبيل المثال لا الحصر: الدكتور محمد البرادعى والمهندس خيرت الشاطر والدكتور محمد غنيم والدكتور حسام عيسى والدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح والأستاذ عبدالغفار شكر والمحامى أبوالعلا ماضى والمستشارة نهى الزينى والمحامى عصام سلطان والدكتور محمد أبوالغار والأستاذ كمال زاخر والدكتور عبدالجليل مصطفى وواحدا أو أكثر من قادة شباب الثورة الناضجين وربما يكون جيدا ضم بعض ممثلى الاتجاهات الدينية الأنقياء من التعصب؟!
أعرف أننى من أبناء الحلم والخيال والضعف الإنسانى أمام النوايا الحسنة التى توصف كثيرا بأنها رومانسية أو ساذجة. لكننى كثيرا ما أردد دعاء شريفا جميلا، نصه أو مفاده: «اللهم اكلأنى كلاءة الوليد، الذى لا يدرى ما يراد به ولا ما يريد». لهذا قلت ما قلته من قلب لا يرتجى إلا الخير لوطن ليس لى ولا لأولادى وأولاد الناس غيره، وهو فى خطر إن تمادت الفظاظة وتمدد الهوج واستشرت التناحرات المجانية واستطال افتقاد الأمان. وقد قلت ما ذكرتُ وليكن السذاجة، فهى السذاجة عينها التى جعلتنى بعد هذا العمر أطيل رفع وجهى للسماء التى تحلق فيها فوق حشود الميدان طائرة ورقية لمواطن بسيط حسن القلب لا يعرف التعصب، ومن إمبابة ذاتها التى أوشكت أن تحرقها وتحرقنا معها شرور الفتنة. وهى السماء نفسها التى توشَّجت بضباب رحمانى خفف القيظ عن العباد، وأمطرت ندى رطَّب وجوههم، فهى سماء الله التى يظل ما فيها أفضل، أفضل جدا، طالما تغوَّل العبث فى الأرض. لا أقولها فى معرِض العزاء، بل أقولها فى إطار التماس الأمل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى