صفاء عبد المنعم - فرجينيا..

فرجينيا تلك المرأة النحيفة التى عشقتها المرة تلو المرة، وظللتُ أهيم بها لسنوات طويلة منذ عرفتها، لماذا أتذكر هذا التاريخ تحديداً؟ عندما أقترب منى فرحاً وهو يمد لى يده بكتاب صغير، قد وجده فى المكتبة، وقال لى وهو يضحك سعيداً : هذا الكتاب يناسب أسلوبك تماماً ياحبيبتى، فأنتِ تكتبين مثل هؤلاء. ثم وضعه أمامى على المكتب، وخرج مسرعاً من الحجرة، يشعل سيجارة جديدة، ويدخن فى شراهة واستمتاع.
فتحت الكتاب بتوجس شديد، وبيد مرتعشة من أثر غسل الأطباق بالماء البارد فى فصل الشتاء.
كانت من بينهم(فرجينيا وولف) ببساطتها والتى تشبه نصل السكين الحاد الذى ينغرس عميقاً، عميقاً فى القلب، فيحدث ثقباً صغيراً، ويظل ينزف ولا تستطيع أن توقف الدم المتدفق خارجاً من ذلك الثقب الصغير، مهما حاولت إيقاف النزيف، يزاداد تدفقاً وأندفعاً، هكذا فعل بى أسلوبها فى الكتابة، فصارت نبراساً لى منذ ذلك العهد.
حتى لو كنتُ قد تمردت على هذا الأسلوب فى مرات عديدة، وقرأت كتباً جديدة وحديثة ومختلفة، وأكثر تطوراً وحداثة من ذى قبل، ولكن يظل هناك الحلم، الحلم بالمجد العظيم يراودنى، وظللتُ بين لحظة وأخرى، أبحث لها عن كتاب هنا أو هناك، وكلما وجدت كتاباً جديداً مترجماً لها، أفرح مثل طفلة صغيرة، بقطعة شيكولاتة كبيرة من المفضلة لديها، ولتكن شيكولاته(كورونا) وظللت حالمة بهذا المصير المأسوى، والذى أضاف إلى تجربتها بعداً مصيرياً مفعماً بالأسى والسواد والعظمة.
(ياألهى) كن رقيقاً، ورفيقاً، فقلبى الضعيف لا يحتمل كل هذا العذاب، كانت هذه هى جملتى التى دائماً أرددها كلما ألمَ بى ألمٌ شديد، أو مأساة!
وكلما قرأت فرجينيا وولف، أشعر أننى طفلة تحبو فى مرحلة الكتابة.
منذ خمسة وثلاثين عاماً وأنا أقرأ وأكتب، وأدون، وأصدر كتب، ولكن كلما توقفت أمام المكتبة المتخمة بالكتب، ومددت يدى، وأخذت كتاباً لفرجينيا، أشعر بمشاعر طفلة مراهقة، تقف فى الشرفة العالية، تنظر إلى ساعتها بتوتر فى أنتظار، حركة يديه وهو يمر من أسفل النافذة ويحيها تحية المساء، تلك الفتاة التى تقف أمام المكتبة الآن، كانت قد تعودت فرجينيا أن تفعل بى هذا الفعل، تردنى إلى طفلة النافذة، إلى البراءة الأولى، والترقب والمحبة المفرطة، والزمن الذى مر سريعاً دون أن أدرى، كيف مر هكذا؟ وأنا على مشارف الثامنة والخمسين تحديداً، لازلت أذكر تلك المرأة المراهقة، لقد تعرفت عليها لأول مرة فى عام 1984 ، عندما قرأتُ لها قصة قصيرة، كتبتها بيد مرتعشة، وقلب صغير محب، مع مجموعة مشتركة من جيل كتاب القصة الحديثة، وكانت أكثرهن جذبا لى، بأسلوبها وطريقتها البديعة فى التعبير عن مخاوفها ومشاغلها، لقد عشقتُ تلك السيدة(دالاوى) وكم من مرة ملأتُ جيوب معطفى بالحجارة، ووقفت أمام النيل، أتخيل صورتها وهى تلقى بنفسها فى الماء.
لقد ذكرت ذلك سابقاً فى رواية(قال لها ياإنانا) وكلما خرجت من مبنى التليفزيون عند ماسبيرو، كلما تذكرت هذه الصورة بوضوح، وأشتقت كثيراً إلى تلك الجيوب المثقلة بالحجارة، وحجرة تخص المرء وحده، يالك من ساحرة كبيرة، أيتها الجميلة المعذبة المراهقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى