بانياسيس - رجلان في طريق - نص بلا هوية

رجلان في طريق - نص بلا هوية

.



قال لصديقه وهما ينتظران باص الوالي على الجانب الشرقي من موقف جاكسون...
- لقد طعن اسبينوزا طعنة كادت أن تودي بحياته..صحيح أنه نجا منها لكنه لم يبلغ بعدها الخامسة والأربعين حتى أصيب بالسل ومات كما لو كان شحاذا..
في تلك اللحظة وقف رجل طاعن في السن في منتصف المساحة الخالية ، كان يرتدي جلبابا رثا ومتسخا ويلف رأسه بعمامة أكثر اتساخا من جلبابه لكنها أبدا لم تكن بمثل عفونة سرواله الذي أنزله لأسفل بعد أن رفع جلبابه ثم أخذ يتبول بولا ضعيف الاندفاع فلم يجاوز قدميه المنغرستين في حذاء أسود قديم...الرجل تسعيني مع ذلك كان يملك ثروة لا يملكها اسبينوزا ولذلك فبعض النسوة دققن النظر إليه وأخريات استرقن النظر دون جدوى من محاولة إخفاء غبطتهن. العجوز رفع رأسه وفكه السفلي يبرز عن العلوي كفك السمكة بلا سنة واحدة. رفع رأسه وأداره كمن يحاول تجنب رؤية الناس له فيختبئ ؛ رغم أن الناس كلهم كانوا ينظرون نحوه...تجاهل وجودهم كما لو تم محوهم فجأة ...
- كنت أرغب في توجيهه ليتخفي خلف أي جدار متهالك أو حتى الكبري.
قال لصديقه فأجابه:
- في هذا السن لا يستطيع الرجل امساك بوله ...
- لقد جعلني أشعر بالزمن رغم أنني لم اتجاوز الخمسين بعد.
- ستتجاوزه.
دار الباص ذو المقطورتين وتهادى أمامهما فهجم عليه الناس واستطاع الرجلان الدخول فيه بصعوبة ولكنهما لم يتمكنا من الحصول على مقعد. صبي صغير يبدو مشردا كان يحوم جيئة وذهابا قرب رجل يجلس في كرسيه ويبدو أن ذلك قد أقلق الرجل فصاح في الصبي:
- ين .... دينك...
امتقع وجه الصبي ونزل من الباص بسرعة..لم يعترض أحد على سب الرجل للدين...وظل الرجلان واقفين وسط المتكدسين ممن لم يجدوا مقاعدا ، وامسكا بالشماعة الأسطوانية ذات الرائحة العفنة. أحس الرجل الأول بلذوجة في يده فأدرك أن احدهم قد مسح مخاط أنفه في الشماعة. مسح الرجل راحة يده على بنطاله ورأى الرجل الذي سب الدين يتشبث ببقجة كيس صغير في حجره فأدرك أنها نقود. سيدة هزيلة جدا بحيث لا يمكن أن تكون بصحة جيدة بأي حال من الأحوال كانت تتأرجح محاولة التشبث بالشماعة قبل أن يتحرك الباص.... وعندما أدار السائق المحرك ، انكفأت على وجهها كلاعب كرة قدم وبرز ساقان نحيلان وجلدهما رقيق جدا. لم يكن هناك فرق بين حجم ساقيها وحجم فخذيها لذلك حاول الرجال رفعها دون خوف من حدوث سوء فهم.. ولما رفعوها اطلق الرجل الذي سب الدين صرخة:
- حراااامي..نشال...
لكن اللص الشاب اخترق المتكدسين وقفز من الباب ثم ذاب كفص ملح في ماء البحر.
نزل الرجل وجسده يرتعش من الصدمة ولم ينتظر السائق عودته بل تحرك ببطء وهو يعرف أن الناس لن تقبل أي مجاملة للمجني عليه على حساب وقتها رغم ان وقتتها ضائع أصلا.
غادر الباص مخلفا وراءه أتربة صفراء جافة ومعها الرجل الذي سرقت بقجة ماله يقف وسطها مرتعشا وحائرا في قلب الأتربة دون أن يعبأ باحتمال استنشاقه لها.
المرأة التي سقطت على وجهها اختفت هي أيضا ، قال الرجل الثاني لصديقه:
- هل أنت متأكد أنها امرأة؟
نظر صديقه اليه بحيرة وقال:
- لا أعرف ..لا وجهها ولا سيقانها بل ولا حتى مؤخرتها مؤخرة أنثى ..في الواقع لم يكن لديها مؤخرة.
تعالى الصراخ فجأة:
- يا حاج ياحاج...
التفت الرجلان وشاهدا عمامة الرجل العجوز المتسخة وسرت همهمات ثم عبر الكمساري بين المتكدسين وقال مجيبا عن حيرة الناس الذين في الخلف:
- لقد تبول ...
دفع الرجلان -كباقي الركاب- الأجرة. وكانت ملامح الكمساري جامدة مشوبة بعدم اكتراث ، بل حتى كان يقطع التذكرة بدون أدنى اهتمام بما لو انقطعت ام تمزقت لنصفها أو ربعها ، كان يوزعها كمن يوزع أوراق اللعب. وحين ابتعد الكمساري قال الرجل الأول:
- يبدو باردا...
- لأنه يعمل مع الحكومة... إنه موظف والموظفون لا يكترثون بالمال العام ... يكترثون فقط بمرتباتهم الشهرية والتي لا تدفع لهم الا بعد مشقة...
- هل تعلم أننا لم نعمل أبدا لا في القطاع العام ولا الخاص.
قهقه صديقه وقال:
- أغلب دفعتنا في المدرسة ظلوا عاطلين عن العمل حتى اليوم..
-دفعة منحوسة...
- نعم...
أبطأ السائق سرعة الباص ثم توقف على مضض لتنزل سيدة بطفلها وهي مترددة لأن سائق الباص بدأ في التحرك البطئ قبل أن تنزل .. صاحت بحنق:
- اقيف يا سواق...
رجلان صاحا ايضا:
- لسة .. لم تنزل...
صاح الكمساري:
- استعجلي يا حجة...
وحين هبطت وهي تبرطم ساخطة بكلام غير واضح أمسك السائق زمنه في سرعة واحدة...لكنه توقف حين رأى العساكر يسدون الطريق ويطلبون من جميع السيارات التوقف. لم يتذمر الناس بل كانوا خائفين من مشهد الجنود المدججين بالسلاح...قال الرجل الأول هامسا:
- مظاهرات..
- يبدو ذلك...
شاهدا سيارة مدرعة تحمل قاذفات مسيل المدوع ، كان الجندي يقف ممسكا بها بخجل فهي ليست سلاح آربجي كالذي يحمله رجال الجنود الأقوياء ...بل مدفع صغير بأربعة اسطوانات قصيرة على رأسها علب البمبان...
قال الرجل الثاني:
- لم أشاهد هذا النوع من قاذفات البمبان من قبل؟
سأله الأول:
- كيف كان شكل البمبان الذي شاهدته؟
التفت الى صديقه وقال:
- لم أشاهد اي بمبان من قبل..
نظر الرجلان للأرتال العسكرية فقال الأول:
- أنا أيضا لم أشاهد بمبانا من قبل...
قال الثاني:
- أغلب زملائنا في المدرسة لم يشاهدوا بمبانا من قبل...
قال الأول:
- لم يفكر أحدهم في الالتحاق بالشرطة أو الجيش...
- لا أعتقد...
- دفعة منحوسة...
- صحيح...
ترنح الباص في مشيته حين بلغ المحطة: شاب في الثامنة عشر من عمره كان يرتدي تي شيرتا برتقاليا ورائحة عطر جميلة تفوح من جسده البض ، تساءل:
- أين المحطة..
أشار الرجل الأول بأصبعه الى الأفق.. وقال الثاني:
- وصلنا بالفعل....
هبط الركاب بتأني عكس تدافعهم عند الدخول ، لقد استقرت نفوسهم الوجلة من عدم الوصول...ونزل الرجلان من الباص وقطعا الشارع المعبد الضيق ثم قال الثاني:
- يبدو أنني سأذهب من هذا الإتجاه...
فعلق الاول:
- مواصلاتك في اتجاه معاكس لاتجاه مواصلاتي..
- حسنا وداعا..
تباعدت المسافة بين الرجلين ...وخلفهما وقف العجوز المتسخ وسط الشارع المعبد واخذ يبول وهو يدير رأسه كمن يحاول الحذر من أن يراه الناس.. رغم أن الناس كانوا يعبرون الشارع من حوله بكثافة...


(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى