نبيل محمود - قراءة في أقصوصة (البنت التي طارت عصافيرها) لنقوس المهدي

كتابات الأستاذ نقوس المهدي لها طعم مائز ونكهة خاصة وثراء لغوي واضح متأتٍ من امتلاكه لناصية اللغة الفصيحة وحيازته لقاموس لغوي غزير. وتمكّنه من أسرار اللغة العربية وجمالياتها، بحكم ثقافته الموسوعية وسعة اطلاعه على الأدب العربي والإنساني. ذخيرة لغوية وأدبية تسر المعجب بكتاباته، وقد يحسده! عليها بعض الكسالى الذين لا يطورون ملكَتهم اللغوية بكثرة القراءة والاطلاع. وقد يتململ ويشكو قارئ اليوم - ذي النفس القصير الذي تعود السهولة المخلة بالذائقة اللغوية الرصينة والسليمة وأدمن على تداول النصوص السريعة على غرار الأكلات السريعة ! - حيث يجد صعوبة في متابعة نصوصه الباذخة لغويا.
هذه الذخيرة اللغوية مكّنته من وسْم كتاباته بأسلوبه الخاص، مثلا، كثرة حضور المرادفات واستخدامها اللافت في كتاباته، لإحداث التأثير المطلوب وترك الانطباع القوي في نفس القارئ، في هذه القصة مثلاً (خائفة ووحيدة، وتائهة، وذاهلة، وطفلة وصغيرة كانت ). أو يعمد لحشد صور شعرية متلاحقة لتجسيد الموقف، وإيصال ما يعتمل في نفس الشخصية من أحاسيس ومشاعر إلى القارئ (في تلك الأثناء التي اضطربت خلالها المحيطات، واصطفقت الأمواج، وطارت أسراب السنونو، وجفلت الخيل في مرابطها، وتفرقت الفراخ فزعة من شبح باز لاح في الأعالي). واستخدامه كذلك التناص مع بعض العبارات الشائعة والاقوال الجارية على اللسان، إذ يعيد تشكيلها من جديد، مما يمنح نصه تلك القدرة على الإدهاش والحثّ على إعادة النظر والتفكير في المألوف الذهني لوعينا (وتتهجى أسماء الأشياء الحسنى..). وهذا ليس لعباً شكلانياً يطلبه لذاته، إنما هو توظيف محسوب لإثراء نصه وإيصال رسالته الأدبية والفكرية الهادفة إلى نقد وزعزعة اليقين الراسخ في الكثير من أنماط الفكر والسلوك والممارسات المخلة بالشرط الإنساني في الوجود الاجتماعي.
هذه القصة القصيرة مثال بمنحاها الانتقادي وبلهجتها الهجائية، وبتسليطها الضوء على ممارسة ظالمة ومهينة بحق المرأة. تسلب إرادتها وتغتصب روحها قبل جسدها بإكراهها – من قبل الأب، هنا، والذي يفترض به أن يكون حاميا لها وبمفارقة حزينة - على الامتثال لما يقهر إنسانيتها. فتنتقد خللاً اجتماعياً بشكل صريح وغير موارب وتعلن انحياز الكاتب الواضح إلى قضايا المرأة وشجب ما تتعرض له من إجحاف واضطهاد في ظل نظام اجتماعي غير عادل وثقافة متخلفة تجاوزها عصرنا منذ زمن بعيد. لقد آثر الكاتب أن يمضي إلى موضوع القصة مباشرة وأن يعبّر بتلك الثنائية للطيب (البنت) الضحية، والشرير (الشيخ المتصابي) الجلاد. وبتصويره لبيئة اجتماعية - ثقافية ذكورية اعتادت قمع صوت المرأة - الأم هنا - وسحق وجودها الخاص ومحق شخصيتها المستقلة وطمس كل معالم كرامتها وحريتها الإنسانية - البنت هنا -، فاعتمد الكاتب هذه الثنائية لتقديم التناقض والصراع بهذه الحدة والوضوح. ربما يحاجج البعض بأن الثنائيات تغفل التعقيد للشخصية الإنسانية بتناقضاتها وصراعاتها، من خلال رسم صورة مبسطة للصراع وتركيزها على العلاقات الخارجية بين الشخصيات، عبر تقديمها ببعد واحد وسمة غالبة وواحدة، وبذلك فهي تغفل التعقيد الداخلي الشديد لكل شخصية على حدة. تظل هذه القضية متروكة لتقدير الكاتب وتفضيله، بتركيز الانتباه على هذا الجانب أو صرفه عن سواه، خصوصاً في الأدب المعني بتناول القضايا الاجتماعية. فقد يكون هدف الكاتب من الاقتصار على تفاصيل محددة، مبعثه منع التشتّت والتراخي والوهن في مواجهة الشرور، ومقصده إثارة روح الاحتجاج وتأجيج الغضب للوصول به إلى درجة الاشتعال!!!
نبيل محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى