أدب السجون ناصر الثعالبي - حكاية لاجئ سياسي (14) .. علي دوده رجل الأمن الغريب

كانت نهاية تموز من عام ( 1978 ) في معتقل أمن البصرة جحيما لا يطيقه إلا من تلحفت طفولته بشمسها، واستحم بندى شرقي هوائها ،وتعلم كيف تحترم ذاكرته أيام عزها. في هذا الشهر شن نظام صدام حسين حملة واسعة لاعتقال أبناء مدينتي كمقدمة لاعتقال العراق ؟
والتأريخ يحفظ لهذه المدينة من خراب الطغاة، ما لم يحفظه لمدينة أخرى في وطني ويكفي أن يكون المثل القائل (بعد خراب البصرة) شاهد لا يمحيه تقادم العصور والأزمنة
نحن المعتقلين الشيوعيين والإسلاميين وتحديداً الأخوة أعضاء حزب الدعوة. حشرنا في أحدى غرف سرداب مديرية الأمن ،مثل سمك السردين المعلب.هنا لا أود الحديث عن التعذيب والأضطهاد، فلقد ملّ الناس من الدم والقتل الذي رافقنا منذ طفولتنا وإلى الآن ومع أختلاف أنظمة الحكم .لكنني وددت أن أسرد معايشة المعتقلين مع جلاديهم
قبل العيد الكبير قرر رفاق الحزب الشيوعي العراقي الأضراب عن الطعام، هؤلاء الرفاق كانوا عينة لما سيحدث في مواجهة الجلادين .آنذاك كان مؤتمر القمة سيعقد في بغداد، بلد التصدي والمواجهة كما أعلنت سلطة النظام وإعلامه .وهي تغطية جيدة لإبادة القوى السياسية التي اعترضت على سلوك السلطة الدكتاتورية حتى ولو بالهمس- مثلما فعلنا نحن الشيوعيين- فحلت إبادتنا للمرة الثانية بعد عروس الثورات الفاشيه. العالم الداخلي والخارجي متسمر الى جانب المذياع والتلفزيون ، وثوار العالم يستبشرون بقرارات ثوريه . بادر اشهر الثوريين لتقليد صدام حسين أعلى وسام في كوبا (لثوريته) أما نحن ضحايا الإضطهاد فليس لنا غير التعذيب مكرمة من القائد الثوري جدا في بلدنا!!
من المألوف في بلد مثل العراق أن يهان سياسيوه وبتراتبية بائسه، يمضي نظام ويأتي آخر فيقوم المظلومون بدور الظالمين، ناسين ما أصابهم - وألأيام دول - ولكن من غير المألوف سلوك أحد صبية أمن البصرة حين يقوم بخفارته يكون العمل الاول له سب الشيوعيين دائماً !! مع إنه يقوم بواجب الحراسة.
صبي لا يتجاوز السادسة عشر من العمر . هو الأخر سجين مثلنا إنه حين ينزل درج سرداب المعتقل يقفلون عليه الباب من الخارج. وكي يكسر رتابة وحدته لابد له من السباب .أحيانا يدفعني الفضول لمراقبة إنفعالاته أكثر مما يراقبني هو . أنا الآخر أحتاج أن أرفه نفسي برؤية أنسان له وجه غير مشوّه وإنفعالات يتميز بها وحده لغرابتها، ربما تكون تلك في وضعنا حالة نادره.
الصبي حين يسود المعتقل الهدوء - بإستثناء صراخ التعذيب وقد أصبح عاديا، فلقد ألفه أغلبنا - الصبي يرسم إشارات بيديه تؤشر مأزقا نفسياً عميقاً تدحرجتا من عينيه دمعتان بعد أن اكمل مسرحيته في فضائه الداخلي ،ملقياً بشروده في ضياع شئ ربما فقده الى الأبد!
علي دوده أكتسب إسمه من أحد المعتقلين ، وصل الضجر بالرجل حد التحدي، حين قال لصبي الامن (علي لك إنت بيك دوده إلا إتسبنا ؟) ومن وقتها لم ينس المعتقلون لقب علي الجديد.
معاون مدير أمن البصرة أحمد الخفاجي كان فنانا في محاولة كسر ألاضراب .أحمد الخفاجي عينته حكومة العراق الجديد في منصب عال،على ما يبدو مكافأة له لدوره السابق في خدمة النظام الفاشي؟؟؟ إلتجأ الرجل إلى طريق تشتيت وحدة المضربين، فنقل بعض الرفاق إلى غرف المعتقل الأخرى ،متوهما أن يضعف إرادتهم لكنه فشل.
الحر عذبنا جميعا في السرداب، إلا إنني ربما كنت أشعر اكثرهم عذابا بسبب سمنتي المفرطة. عبد الله أحد مناضلي حزب الدعوة يحتل موقعا متميزاً في الغرفة، فهو ينام قرب الباب،تأتيه نسمة من الهواء على قلته .كان يلاحظ ما أعانيه .أقترب مني وقال هل تسمح أن تبادلني المكان؟ إنتابني شعور غريب، هل ضعفت إلى الدرجة التي يتكرم بها أحدهم ليعطيني مكانه؟ رفضت قبول الامر أولا. وبسبب إلحاحه الصادق وافقت عليه، عبدالله لا تفارق الابتسامة محياه المشرق، لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاما تحمّل في المعتقل ما لم يتحمله جمل في الصبر- بعد سقوط النظام لم أرَ له صورة في الصحف ولا حتى في التلفزيون ،ربما هو ليس من يتقاسم الغنائم ( لك المجد أيها المناضل أينما كنت).
طالت أيام الأضراب عن الطعام. بدأت الدمامل والالتهابات الجلدية تغزو اجسام الرفاق وكأنها في شراكة مع رجال الأمن ! كان معتقلا معنا رفيقا خبيرا في الكيمياء، يعمل في مختبر لشركة النفط الوطنيه ،قال إننا بحاجة الى السكريات لمكافحة الدمامل فان نقص السكر في الدم يفرز مثل تلك الظواهر.
أردت الاقتراب من علي دوده علنيّ أفلح لإقناعه بجلب شيئاً من السكر !
علي يعرف إن الجميع لا يحبونه وأن جامله أحد فهي ليست الا عطفا عليه وليست مودة .
أرتفعت أصوات الصراخ الى الدرجة التي لم يستطع أي منا النوم، جاء علي دوده كرجل أتعبته المسافات فاتكأً على ظله فارشا رجليه على الارض .هو الاخر أزعجه الصراخ وإن أدمن عليه، لم يرد علي دوده على إستفساري عن صحته كبداية مجامله ، بل نظر إلي بعينين زائغتين و بوجه لا يفسر. ثم مد شفته السفلى بطريقة لامبالية ،
في الصباح الباكر نزل إلى السرداب شاب هزيل مثل رجل أثقلته خطاياه .القى بنفسه دون سلام او كلام فوق ركام الجمع المتهالك،متوسداً يديه دون مبالاة لدمائه النازفه.
تبين إنه سائق في مؤسسة النقل البري ،أغراه أحد مهربي الاغنام فملأ سيارته القاطرة والمقطورة بالأغنام متجها إلى صفوان، المنطقة الحدودية مع الكويت.وحين أنزل اغنامه خلف الكثبان الرملية، كسرت رجل أحداها ولم تكن لدى المهرب حيلة غير تركها للسائق كرما منه .أحد الوشاة من المهربين أخبر الامن الاقتصادي في مديرية أمن البصرة .خرجت مفرزة الأمن تجوب الطرقات، سائق السيارة أوقفها في ساحة إم البروم - إحدى الساحات الشهيرة في البصرة - ليملأ معدته (بالباجة) الأكلة الشعبيّه الطيبه. رجل الأمن يعرف مزاج سواق المسافات الطويلة، حين وصولهم البصرة تكون إم إلبروم دار إستراحتهم والباجة أجمل ضيافتهم، فاتجه إليها وعثر على مجموعة من السيارات فحار أياً منها تلك التي نقلت الأغنام؟ صعد الثعلب إلى السيارات الثلاث فوجد طريدته في السيارة الثالثة حيث يرقد الخروف مكسور الرجل وسط كوم من نفايات الأغنام . إنتظر ضحيته بصبر صياد محترف، فقاده إلى الأمن مصحوبا بركلات وسياط كانت مصدر كل الصراخ الذي سمعناه. أخبرني علي دوده بعد أن اصبح مزاجه رائقا، حين سألته عن الحدث؟؟ تطورت علاقتي بعلي دوده كثيراً، أخبرني إنه من مدينة الحلة، وأنه أحبّ فتاة لا يستطيع نسيانها ،وحين عرف مديره بالأمر نقله إلى البصرة .. قد يكون الحب في زمن الفاشية محرماً، لا مثل ما كتبه غارسيا ماركيز(ألحب في زمن ألكوليرا) قاسمته عواطفه صادقا هذه المرة. وأشرت إليه بطريقة غير مباشرة، بأنهم نقلوه إلى مدينة أخرى حتى يكون أكثر قساوة على أهلها باعتبارهم غرباء عنه، ورجوته أن يكف عن السباب فلعل هناك من يتعاطف معه مثلي !
مرت ليال وعلي هادئ لم يتعود نزلاء السرداب على مثل هذا السلوك !تطورت علاقتي أكثر معه، فكرت في ضرورة طرح قضية السكريات عليه، ولكن كيف؟ وصلت الى رأي مفاده إثارته عاطفيا ليتحدث عن حبيبته، فهو على أي حال بشر. فسألته هل تراسلها ؟ تغيرت ملامحه بشكل أقرب إلى سكون التصوف. ثم بدأ يسرد اللحظات السعيدة التي يعكرها الواجب الامني - حسبما طرحه متضايقا منه - بعد أن هدأ طرحت عليه إنني بحاجة إلى (جكليت) ! إستغرب علي دوده (قائلا إنت مو مضرب عن الطعام، ليش إتريد جكليت ؟ أثاري انت تضحك علينا، لك إنت واحد سيبندي، مستطردا، زين إتسوي ليش إتموت بلاش، صدكني محد يسوى) أرتفع الدم إلى رأسي أيّ ورطة أنا فيها؟ جرى صراع خاطف سريع بين موقفي كشيوعي إعترف إنه شيوعي ولم يعط شيئا ،وبين (السيبندي) التي لا أعرف جذرها اللغوي ،وبين حاجتنا إلى السّكر إن صدق الرفيق الكيمياوي! ولكني فضلت أن أغامر ،ماداً يدي لعلي بخمسة دنانير، هي اخر ما عندي في السرداب، بعد أن تفحصت الفوق وهو مكان الدائرة والضباط وحرس المراقبه. أرتبك الرجل مصفراً وهمس( إشلون أجيب الجكليت؟)عرفت إنه سيفعل . قلت إنزع ورقة وإحمله بكيس نايلون، ثم إن الكميه قليلة نصف كيلو فقط . تردد قائلا(أخاف تعترف عليّ) قلت له أنت كنت شاهداً على التحقيق معي، فهل أعترفت ؟ قال لا ولله
فأقسمت لو قطعوني ما أعترف عليك. تناول النقود مبتعداً عني . في مساء اليوم الثالث كان علي يدس كيسا صغيراً بيدي مبتعداً ثانية. حين سألني الرفيق الكيمياوي أخبرته إنني اشتريته من الباكستاني، كان معنا في السرداب باكستاني خرق حدود البصرة قادماً من الكويت . لم يصدق الرفيق القصة وأن تظاهر بالتصديق.
كنا نحتاج أن نقرأ شيئا عن ما يدور وهي حالة من الاستحالة ،وليس لدي نقود لأرشي علي . جريدة الحزب لازالت علنيه، والرفاق ممثلينا في الجبهة الوطنية يحضرون اجتماعات الجبهة، ونحن في البصرة ندخل إلى مسلخ رهيب. غريب جدا ما يحدث ؟ قادتنا ينوون ترميم الصدع وإكمال المسيرة مع البعث ! وليس لدينا نحن أهل السرداب غير إيماننا وعزيمتنا.
بعد عشرة أيام وفي فترة التواليت والحمام ،أستدنت من رفيق كان يعمل معي عشرة دنانير وفي المساء أنتظرت علي دوده ولكنه لم يأت. عرفت عندما عاد إنه كان مجازا وإن أحد أبناء عمومته أعتقل بتهمة إنتسابه لقوى دينيه دون أن يشخصها ، راودني خوف أن يكون علي دوده يستدرجني ويسجل حديثي وهو وارد في ظروف الأعتقال . حاولت مجاملته ومواساته وبنفس الوقت وبشكل غير مباشر أشرت إلى إن ليس هناك من لا يدخل بدائرة الشكوك. مشيراً إلى إنه يجب عليه ان يحتاط . مر أسبوع آخر وعلي لم يقترب من الباب ، لكنه يغافلني النظر بتفحص إستقرائي شديد .أنا الآخر كنت أراقبه بخوف. بعد ليلة هادئة في السرداب، تصورتها ليلة العشاء الرباني التي تفجرت الخيانات على طاولته ،وانتظرت أن يأتي يهوذا السرداب ليجرني إلى الموت ، بنفسية رجل أتقن لعبة الموت، أنتظرت عليا . تاركا لتصوراتي إحكام اللعبة، قدم علي بشوشاً ودوداً هامسا أطلقوا سراحه! من يا علي؟ أبن عمي ،كانت وشاية من صديق له كأخ!!
سارعت لأدس بيده عشرة الدنانير مشيراً ( إكمل فرحتك واشرب ). لم يرفض النقود قائلا جكليت مرة ثانيه، قلت (لا .. هالمرة جريده!) ضحك الرجل هازئاً (يابه يا جريدة إن شاء الله جريدة الشيوعيين! تعمدت الضحك والسخرية مجيبا (إي شكو بيهه بلكن إتصير رفيق) على صوته ساباً الشيوعيين، ولكن بصوت أعلى من سابق عهده. إنحنى جانبا وغمزني بعينه وبنصف إبتسامة ،غادر ليبدله حرس آخر لم أنتبه له.



حكاية لاجئ سياسي (14) .. علي دوده رجل الأمن الغريب / ناصر الثعالبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى