فاتح كلثوم - لا.. هي ليست حكاية

وكانَ لديَّ صليبٌ..
وكانَ الحمامُ يُعفِرُ بعضاً مني..
أُرْسَمُ بينَ شفاهِ الخمرِ هكذا، بينما الحربُ تَجوبُ البلادَ بحثاً عنيّ..
بِضعُ هزائمَ زادي
وامرأةٌ أُفتشُ بين ثيابِها عن سكرةٍ بطعمِ الآه
عن طفولةٍ أضاعَتْنا بين الكرومِ، وكُنّا عُراةً كالبدرِ،
يومَها كُنّا نَلعبُ بالقمر
وأبي كانَ عِرزالاً ينتظِرُ أنْ أُحدّثَه عن حوريةِ النّجوم..
آهٍ يا أبي
يَبسَ ذاكَ الكرمُ
وتلكَ الساقيةُ -وضوءُ وَجهِكَ- جففَتْها الضفادعُ
حتى اللهَ رحل عنّا يا أبي،
وتَرَكَ لنا غَصّتكَ وأنتَ تُودعُ روحَكَ بين أيدينا..
خانَتنا الأمانة يا أبي
كما وصاياكَ بصيانةِ حُرمةِ الغريبِ إذا ما الجارُ جارَ على الجارِ،
بِتنا نحنُ الأغرابُ -يا أبي- ولا أحدَ يُجاورُنا
سوى صمتُكَ
وبضعُ همهماتٍ أُجادِلُكَ بها عندما تَعزُّ عليّ مُلاطفَةُ الوسادة..
هي ليسَتْ حكايةً يا أبي
ظَنَنتُها امرأة
فَرُحتُ أغبُّ النساء كأساً بكأسٍ
إحداهنّ بلا نهدين تقف أمام المرآةِ لِتَهزمَ وَجهي،
الأُخرى
كانَتْ بَرداً لا يُبَشّرُ بما يَجنيهِ حفيفُ القَصبِ على تلكَ السّاقية،
اللاحقةُ كانَتْ حرباً،
الرابعةُ،
الخامسةُ،
السادسةُ،
السابعةُ ليسَتْ عدداً، كانَتْ هي البلادُ .. البلادُ يا أبي؟!!..
:
.. وكانَ لديّ صليب،
وكانَ الحمامُ يُعفِرُ بعضاً مني..
أُرْسمُ على شفاهِ الخمرُ هكذا، كلّما أوغلَ بيَّ طول الطريق..
أبي الّذي في الغيابِ، تَضرّعْ لنا
لم يبقَ في ابتهالاتِنا أمٌّ و لا خليلة،
تركوا لنا الأرضَ مَحمولةً على قرنٍ أُحادي المنفى، لذاكَ الثورِ العظيم
بينما الحربُ تَجوبُ البلادَ بحثاً عنيّ !!..
وَكُنتُ على صهوةِ العيدِ صبياً أُعاقِرُ أُنوثةَ الشّجر..
ظَنَنتُها امرأة يا أبي
وكُنتُ بلا آياتٍ محكماتٍ
كأنيّ إلهٌ، وكانَ الحمامُ رسولاً دون سَفر!!..
وكانَ لديّ صليبٌ،
وكان لي وطنٌ، وأختٌ كبيرة،
وابنةُ جارٍ يَحِطُ على ثوبِها صِغارُ الطيرِ،كأنّي أنا..
وكان يُبكيها الغراب:
-قُلْ له إني خجولة،
قُلْ لَهُ أن لا يغيبَ، قُلْ لَهُ أنّ لا يُغادرَ مِن هفواتِ تِلكَ السّاقية،
قُلْ له أيّ شيءٍ، قُلْ لهُ ألّا يطير..
وَكُنّا نَغْرُفُ الماءَ من ريشهِ زُلالاً بارداً كالجمر
وكانَ الثوبُ ساقيةً يَنوسُ بها القمرُ
وَكانتِ الأرضُ تَدورُ بنا،
كانتِ الأرضُ تَدورُ مِثلَ تُفاحةٍ بين أيدِينا كلّما انحسرَ الثوبُ أكثر!!..
:
.. وكانَ لديَّ صليبٌ..
وكانَ الحمامُ يُعفِرُ بعضاً مني..
أُرسَمُ بينَ شفاهِ الخمرِ هكذا، وَيمضي بي إليكِ كلُّ هذا الشَجَنْ،
وبعضٌ مني يَغارُ من دُميَتِكِ قُبيلَ أن يرتَّلكِ الغِيابُ..
هو الليلُ
أَزورُ بهِ طفولةً تُعاتِبُ كلَّ التُراب،
كيفَ لَعِبنا، ومَن أَخَذتْهُ غفوةُ الرّيحِ وشاحاً لذاكَ السرابِ..
لم
نَكُنْ -يومَها- كما يجبُ أن نكونَ، أبي لن يصرِّحَ بذلك
قُلتِ: كفى أن تكون عيدي،
وأكونَ لكِ صبياً مجازاً يُدافِعُ عنكِ بين التلالِ،
وقُلتِ لحمرةِ خديكِ: دَعيهِ يَلعب، يَرُشُني بالطين
كلُّ ثَوبي له، ولهُ كلُّ هذا الانحسار..
وأقولُ: هو العيدُ حرامٌ أنّ تُثنى بين أَشجارِهِ الرُّكبُ
وحرامٌ ألا نكونَ مثلما كانَتْ أميّ تريد..
إليكِ كلُّ هذا الشجن
وأميّ صارَتْ وِهاداً، وأبي لن يَستَريح
يُطارِدُني طيفاً في كلِّ البراري، تُغرِقُهُ دمعةٌ لطالما غنّى لها:
- "يا ديرتي مالك عليّ لوم..
يا ديرتي..
لا تعتبي، لومك على من خان"..
لا تسأليني كأبي عن سرِّ هذا العتب
هو الرّبُ لن يبرحَ بيتَهُ، خُبزُهُ صارَ حرباً
وأبي
ما زالَ كَتوماً، قبرُهُ يسألُ عن ناي الرّعاةِ
عن المزمارِ فينا، وكيف صِرنا خطايا
يَسألُني عن القطيع
عن دربِ التبانةِ، عن الشام، وكيف شاخَتْ فيروزُ فينا،
يسألُني عن العيد ؟!..
لم نَكُنْ كما كانَ يَشتَهي..
قُلتِ: أينَ هي البلادُ،
وكيفَ أُنهِكَتْ تلكَ الأغاني
لأكونَ لكِ صبياً يبحث عن كلّ هذا الخراب!!..
:
وكانَ لديَّ صليبٌ
وكانَ الحمامُ يُعفر بعضاً مني ..
أُرْسَمُ بين شفاهِ الخمرِ هكذا ،بينما الحربُ تَجوبُ البلادَ بحثاً عنيّ..
بِضعُ هزائمَ زادي
وامرأة أُفتشُ بين ثيابها عن طفولة بطعم كلّ هذا الشجن!! ..
إليكِ كلُّ هذا الشجن
وبعضٌ من وطنٍ يبحثُ عنكِ،
يُعاتبني السّفرُ، وهديلُ الحمامِ، والبستاني جارنا العجوز،
هو مازالَ يَزرعُ لنا اشجارَ الزيزفون بين حاجبيه
ويَهِشُّ بنا بقايانا لنلعبَ،
هو مازالَ يَهِشُ بنا بقايا من عتابا لنلعبَ بأمان..
-وَ قُلتِ: أخافُ، هو صديقُ أبي..
-لا تخافي، هو مِثلُ كرمِهِ قادمٌ من سِفرِ الاغتراب
هو مِثلُ أبوينا قادمٌ من بَحةِ الموال
هو مِثلُنا بلا أغصانٍ، بلا قبرٍ، بلا عتبٍ،
هو مِثلُنا اليومَ أضاعهُ العيدُ مرتين!!..
إليكِ كلُّ هذا الشجن..
وبعضٌ من بعضي يحنُ إليكِ..
- قُلتِ :أُقاسمكَ السرير وكلّ ما بحّت به الوديانُ..
- وقلتِ : زادُكَ زادي ..
- وقُلتِ :وإن أردتَ ضعِ الوسادةَ فوق الوسادة ..
- وقُلتِ : أين هي البلادُ
وحرامٌ ألاّ نكونَ مثلما كانَتْ أمي تريد ..
- وقُلتِ : سلامٌ عليّ .. السلامُ لدميتي قبل أن يُرتّلَني الهلالُ ..
- وقُلتِ : سلامٌ عليكَ يومَ لَعِبْنا
ويوم أضاعَنا العيدُ مِثلَ جارِنا العجوز ..
- وقُلتِ : السلامُ علينا يومَ أخذَتْنا البلاد وشاحاً لذاكَ السراب..
***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى