فيكتور لوقالا - مخاض.. قصة قصيرة

أواخر النهار. السماء ثوب صفيق من الصوف الداكنة. النسيم البارد يصفّر مخترقاً أوراق الشجر. السماء تزمجر بهزيم رعد كأصوات البراميل المتدحرجة إلى أسفل تل. الغيوم الداكنة تنشق فجأة عن فرقعة برق أرهب الأبصار. إنه الرعد. ازدادت الغيمة قتامة، تنذر وتتوعد، لتبدأ الرياح الشديدة عصفها دافعة بعنف أغصان الشجر في طريقها، كما لو كانت تريد اقتلاعها من جذورها.

أوشكت أولى أمطار هذه السنة على الهطول.

نشرت الغيمة السوداء الهياج بين الناس الذين فروا في كل اتجاه: حملت الأمهات المرضعات أطفالهن وهرعن بهم إلى أكواخهن خوفاً عليهم من البلل ونزلات البرد والحمى. وتقافز الأطفال الأكبر سناً هنا وهناك متضاحكين.

كان القرويون سعداء بقرب هطول المطر، إذ سترتوي الحقول وتنبت الخضرة ويزرع القرويون المحاصيل. وعند وجود المحاصيل في القرية توجد الحياة فيها. الماء مصدر الحياة.

بدأت قطرات المطر تتساقط مبللة أمنا الأرض... قطرة فقطرة... كانت تقرع الأرض بعنف. ثم فتحت السماء بوابات فيضانها لتعم القرية كلها. أصبحت الرؤية صعبة بسبب المطر الغزير. غطى الضباب والمطر طريق القرية الرئيسي وأكواخها. أصبحت أوراق الشجر والعشب مبللة بالماء وأكواخ القرية يقطر الماء منها كأنها النبع. ومع ذلك، تسلل الدخان بهدوء عبر الأسطح. كانت الأكواخ دافئة، والعقلاء ممن لديهم كيزان ذرة جافة داخل مخازن غلالهم، بدأوا بشواء بعضها لتقوية أسنانهم، تاركين ما تبقى لموسم الغراس الذي كان على الأبواب.

كان طريق القرية الرئيسي مليئاً ببرك المياه التي انتشرت هنا وهناك، وبدا الماء كما لو أنه ينطق بلغته وهو يغرغر مندفعاً عبر المجارير والمزاريب والجداول. أصبح الطريق الترابي المبلل زلقاً، حيث كان موحلاً لزجاً ومنذراً بالشر نتيجة لاستمرار الأمطار الغاضبة بضرباتها دون رادع أو وازع.

بدت على السماء علامات الغضب.

والآن أصبح الضباب يخيم على الطريق.

لاح من بعيد شخص غائم الملامح يترنح وهو يقاوم الرياح في سيره. اقترب من القرية وهو يحاول حماية وجهه من قطرات المطر المؤلمة بيده اليسرى. أخذ البلل يغرق كل جسده ويقطر من سرواله حتى بدا كالذي بال على نفسه. يسير منهكاً كالثمل كأنه شبح. إنه لأمر سيء أن يحاصر شخص في مثل هذا الطقس الرديء. كان يرتجف كالذي استولت على جسده حمى. ربما شعر بالجوع. وسيكون حاله أشد سوءاً لو كان ثملاً، إذ سيسقط في بالوعة وربما يغرق.

توقف الرجل الوحيد ليلقي بصعوبة نظرة مستقصية على القرية. ودون أن يدري، انحرف تلقائياً عن الطريق الرئيسي. بدا من خلال الجهد الشاق، الذي كانت ساقاه مع جسده الهزيل يبذلونه، كأنه فقد إحساسه بالاتجاهات، وهذا دليل على كونه من قرية أخرى بعيدة. حمل بيده اليمنى متاعاً قليلاً داخل كيس من الخيش. بدا كيس الخيش كالحجر لكونه غارقاً في ماء المطر. من الواضح أن الرجل كان مضطرباً وربما مرتبكاً وهو يبحث عن مأوى يقيه شر العاصفة.

انعطف في سيره إلى أقرب كوخ كان الدخان يتصاعد من سقفه ببطء. لابد أن المكان دافئ في الداخل، ظن الرجل الذي كان في أشد الحاجة لشيء من ذلك، سواء كان الدفء اصطناعياً أم طبيعياً. تنحنح وصفق بيديه معلناً عن وجوده. لم يأت أي رد. صفق مرة ثانية، فرأى رجلاً يرتدي سترة بيضاء مهترئة يقف على باب الكوخ يحدق بعينين نصف مغمضتين بالقادم الجديد.

قال الرجل ذو السترة المهترئة: ”ادخل، ادخل يا أخي. تعال واحتمِ هنا. المطر غزير.“

”ادخل، لابد أنك تشعر ببرد شديد، بل ربما كنت جائعاً. اجلس هناك عند الزاوية واعتبر البيت بيتك“. جلس الغريب على كرسي خيزران صغير لا مسند له عند زاوية الكوخ، في حين لجأ صاحب الكوخ إلى غرفة مجارورة. كان الكوخ شبه مظلم، ولم يكن المسافر قريباً من مدفأة الغرفة المجاورة. ارتجف من البرد كالذي يعاني من حالة ملاريا شديدة. كان الكوخ هادئاً عند وصوله. وبدا كأن الرجل ذا السترة المهترئة يعيش وحيداً.

خيم الهدوء على المكان إلا من صوت المطر في الخارج.

انهمر المطر، دون توقف.

سرعان ما بدأت الصراصير شقشقتها، مما دفع الضفادع للنقيق بأصواتها البشعة والمملة.

بعد لحظات، أتى صاحب الكوخ من الغرفة الأخرى ومعه كيس خيش سلمه لضيفه. ”استخدم هذا لتدفئ جسدك، فليس لدينا بطانية إضافية. إننا نادراً ما نستقبل زواراً.“ قال ذلك صاحب الكوخ الذي أدار ظهره للغريب وعاد إلى القسم المجاور الذي كان بمثابة غرفة نوم له.

تابع المطر هطوله، لكن برقة وعم الهدوء داخل الكوخ، لكن البرد ظل مسيطراً على الرجل، فقد كانت ملابسه المبللة ملتصقة بجسده، تختلط برائحة العرق. تمنى لو كان الآن في بيته يتمتع بالراحة وزوجته تعد له عصيدة ساخنة تطرد البرد عنه.

استغرق الرجل في أفكاره الخاصة إلى أن تناهت إلى سمعه أصوات غريبة من الغرفة المجاورة التي دخلها صاحب الكوخ. شخص يتنفس مرهقاً كما لو كان يعاني عذاباً شديداً. عذاب حلو؟ شعر الرجل بفضول وهو يصيخ بسمعه. أنساه الفضول البرد الذي ملأ صدره. أطلق سعالاً مصطنعاً كما لو أنه يقول ’مرحباً‘. تسارع التنفس المرهق الآن. هنالك جهد شاق يبذل، لهاث، أنين، وشتائم.

هل الصوت لامرأة؟

ما هذه المعركة التي تجري هناك في الداخل؟ هل يتقاتل الزوج والزوجة في هذا الطقس السيء، في حين يفترض أن يجلسا متلاصقين ليشعرا بالدفء والسعادة؟ أمرهم عجيب هؤلاء الناس! تساءل الغريب وهو يهز رأسه من اليسار إلى اليمين.

لكن الأنين واللهاث والجهد الشاق المبذول استمر دون كلل أو ملل. كانت المرأة هي مصدر الأصوات الغريبة التي في الدار.

شهقت المرأة باكية.

ماذاااا! إنه صوت امرأة حقاً! ازداد اهتمام الغريب. كان أمله أن لا يتوقف هطول المطر فجأة قبل أن يعرف ما طبيعة المعاناة الشديدة التي تحدث في الغرفة المجاورة. عاد صوت الجهد الشاق الذي يبذل من جديد، ثم بدا أن المرأة كانت تصفع الرجل مرة بعد أخرى وهي تصرخ ”ماما، ماما، أنا أموت…“.

آه! تمتم المسافر لنفسه، ودخل في حوار دار في ذهنه ليسلي نفسه:

لابد أن مضيفي رجل متوحش! كيف يمكن أن تضرب زوجتك في زمننا هذا؟ مؤكد أنت مجنون. رجل مجنون بالتأكيد. أنت ممن يضربون زوجاتهم. أحمق طبعاً، (بصق على الجدار). أم أن المرأة هي سبب كل هذه المشكلة؟ أنا لا أعرف شكلها، زوجة هذا الرجل. ربما لها شفتان عبوستان تتميز بهما كل مثيرة للمتاعب. ربما كان لها شعر وغد مبعثر. ثم حول أي شيء يمكن أن يتقاتلا في هذا الطقس البارد؟ أظن أنها بخيلة. ربما حرمته من مص قصب السكر؟ ولكن كم هي وقحة المرأة التي تفتقر إلى المشاعر في وقت يموت فيه بعضنا من البرد؟

انهمر المطر بهدوء خارج الكوخ وازدادت شقشقة الصراصير ونقيق الضفادع. كان الرجل صامتاً، لكن تفكيره كان في الغرفة المجاورة. تمكن الغريب من خلال شقوق الجدار الفاصل من سماع أنين ألم ربة البيت الذي بدا الآن كما لو كان جميلاً، لكن لا مفر منه.

ابتلع لعابه بصعوبة وتابع أفكاره الجامحة: قد تكون استسلمت. ربما قرصها الرجل من خلفيتها بقسوة. ربما هما يمارسان الحب الآن أو شيئاً آخر؟ لكن لابد أن رجل هذا البيت خبيث جداً ولا يعرف الصبر. وإلا فكيف يمارس الحب مع امرأة بوجود رجل غريب؟ لكن في كافة الأحوال هل هما يعرفاني؟ دعهما يستمتعان معاً.

وبينما كانت هذه الأفكار تتسابق في أعماق ذهنه، بدأ الغريب يفكر بأمر زوجته في البيت. أحس بشيء من الشوق لها وسرعان ما اجتاحه دفء غريب. أشرقت على وجهه ابتسامة بلهاء، وانتابه إحساس مريح. أحس بميل لأن يركض عائداً لبيته.

وقبل أن ينبس باسم زوجته، دِنيا، سمع ربة البيت تصرخ بقوة في حين كان زوجها يحاول تهدئة روعها بكلمات غير مسموعة. همست المرأة ثم تنفست مجهدة.

حل صمت قصير مكان الضجيج الذي أثارته المرأة ثم تبعه صراخ حاد لطفل يصم الآذان.

لقد رزقا طفلاً! بارك الله لكما أيها الطيبان.

توقف هطول المطر. نهض الرجل قائماً، تمطط وتثاءب. نفض مقعدة بنطاله المبلل وأحس برغبة في التبول.

ما هو الاسم الذي سيمنحه الزوجان لمثل هذا الوليد القادم في يوم ماطر؟ لابد أن يكون ’جوكودو‘ أو ’لوكودو‘. تساءل الرجل وهو يحدق في عالم خياله البعيد. فكر في زوجته وأطفاله الستة الذين يعيشون جميعاً تحت سقف كوخ واحد.

آمل أن لا يتسرب المطر من ذلك السقف مرة أخرى. وإذا تسرب الماء فلابد أن يكون أولادي واقفين على أقدامهم ليتجنبوا قطرات المطر الباردة. وحتماً ستعاني زوجتي أيضاً من البرد، يا للمسكينة. ولنفترض أن المطر أطاح بسقف كوخي؟ لنفترض أن المطر شق طريقه متسللاً عبر الجدار الطيني للكوخ؟

بدت التعاسة على الرجل وأحس بميل للبكاء لدى ورود هذه الخواطر السلبية على باله. أمامه رحلة طولها عدة كيلومترات على الطريق الموحل كي يبلغ منزله. شعر بشيء من التعاسة. إلا أنه ابتسم قليلاً عندما ذكره بكاء الطفل المولود حديثاً بمكان وجوده.

عندما فكر ببكاء الطفل الوليد تذكر أطفاله الستة. تذكرهم وهم صغار. ما شكل هذا المولود الجديد؟ هل يشبه أباه؟ يشبه أمه؟ هل هي أنثى أم ذكر؟

ألحت عليه رغبة التبول.

توقف هطول المطر وأخذ الظلام يعم الأمسية الباردة، واليراعات تطير هنا وهناك.

”لم أكن أعلم أني جئت بالبركة لهذا البيت. بارك الله لكم كثيراً أيها الطيبون". أعلن ذلك بصوت عالٍ للزوجين من خلال الجدار الفاصل كي يسمعا وهو يحمل كيس الخيش الذي معه ويضعه على كتفيه ويخرج من الكوخ.

"أترككم على خير وسلامة.“

خاضت قدما الرجل الحافيتين في مياه الأمطار وهو يسير على الطريق الموحل.



* فيكتور لوقالا - جوبا، جنوب السودان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى