على حزين - نتوءات.. قصة قصيرة

عندما قامت من نومها .. وقفت أمام المرآة .. و بعدما خرجت من الحمام .. كالعادة بشكيرها علي رأسها.. لم تدندن بالغناء مثل كل يوم.. برغم جمال الطقس.. والجو الرائع البديع , والشمس التي تطل من كل النوافذ , وتمرح بخيوطها الذهبية في المكان .. وقفت .. تهيئ نفسها قبل الخروج .. نظرت في وجهها .. فاكتشفت بأن هناك خطوطاً , بدأت تظهر علي وجهها , تجاعيد صغيرة , نتوءات , راحت تظهر بشكل ملحوظ , مسحت وجنتيها بيديها .. ثم شرعت في وضع الطلاء " المكياج " لتخفي عوامل الزمن .. ثم مسحت تحت عينيها الواسعة , التي طالما سحرت بها قلوبا , وسلبت بها عقولا .. لم يبق من سحرها إلا القليل .. تحسست رقبتها , وذقنها بأناملها الطويلة , تلك الرقبة التي كانت تشبه أبريقاً من الفضة , راحت هي أيضا تفقد لمعانها , وبريقها , تتأوه , وهي تدس يدها في صدرها , تتحسس نهدها الصابئ , وكأنها تريد أن تسكت تمرده , وصراخه , وتمسح دموعها الشاكية , الباكية , فرغت من وضع الطلاء , وإعداد وجهها الخمري علي المرآة وقد صففت شعرها الناعم , الذي غزته بعض الشُعيرِِات البيضاء , ثم قالت : بصوت لا يسمعه غيره أو هي ترتدي باقي ثيابها للخروج
ــ دوام الحال من المحال , فسبحان مغير الأحوال .. وسبحان من له الدوام ..
كانت زهرة يانعة , وثمرة شهية , ووردة متفتحة بهية , تفوح بالعطر وبالعبير , مبهجة للعيون , وكانت في مشيتها تتصنع , وفي نظرتها تتدلل , وكان الكل يطلب رضاها , ويخطب ودها , وهواها , ويتمني لها الرضي لترضي , فكانت تتمنع , وترفض طالب كل ودٍ , وتتمنع علي محبيها , والراغبين فيها , والارتباط بها , حني يئس المعجبون , والمحبون , والمريدون , بعدما تركت في قلوبهم جراحا عميقة , وغصة في الحلق , ومرارة في الفراق , لا ينسيها الزمن , فهي تبحث عن الحب العذري، والرومانسية التي تراها في المسلسلات الهندية , والتي تقرأها في القصص , والروايات, لذا رفضتهم جميعاً , بما فيهم أنا , حتى لما سألتها , ذات لقاء بيننا
ــ لماذا ترفضين الارتباط بي .؟!!
قالت : وهي تضحك .. وقد نظرت نحو الأفق البعيد ..
ــ لأنك لست فتي أحلامي المنتظر ..!.
هكذا كانت تقول لي , كلما سألتها , ثم تضحك مني , وتتركني , وتنصرف , فانعي حظي , وأتمنى لو لم أكن قد أحببتها , وأتمنى أن لو أنساها , فأنا لست فارس أحلامها المنتظر , ومرت سنين وراءها سنين , تزوجت فيها, وأنجبت , وكبرت , وهي مازالت تنتظر , فارس أحلامها المنتظر , ونسيتها تماماً , أو قل كدت حتى كان هذا الصباح , وأنا في طريقي لإحدى المصالح الحكومية , التقيتها في طريقي تعرفت عليها بصعوبة بالغة , فتاة تناهز الأربعين من عمرها بقليل , ترتدي ثيابا متواضعة جداً , وقد فقدت الكثير من بريقها , ورونقها , وجمالها , وأصابع الزمان أبت إلا أن تعلم عليها , اقتربت مني بخطوات ثقيلة , ضعيفة مترددة , فوقفت أنظر إليها , أتأملها , فخلتها وهي قادمة نحوى , كعجوز في سن الأهرامات , أو كأنها مومياء قامت من مقبرتها تواً , أو فرت من إحد المتاحف الدولية , لكنها مازالت تحتفظ بشيء ما من جمالها , ابتسمت لها , وهششت وبششتُ في وجهها , فهي كانت حبي القديم , لا أنسى ذلك , وإحدى أمنياتي التي لم تتحقق , سلمت عليها , وقد وضعت يدها في يدي , وراحت تسألني عن حالي , وأحوالي , وأنا أيضا سألتها بدوري ,عن حالها .؟.. وعينيَّ تنظر في زرقة عينيها لأكتشف أني لم أزل مشدودا نحوها بخيطٍ رفيع , وشيء خفي , برغم طول السنين التي مرت علي البعاد , وبرغم الهالات الداكنة التي صنعها الزمن , ووضعها تحت عينيها , وبدأت تظهر عليها , فلما رأتني , وقد ضعفت أمامها , كما كنت في الماضي .. ابتسمت لي .. ابتسامة رقيقة .. ثم سهمت .. تذكرت يدها .. التي تركتها في يدي , ضغطت عليها برفق , فوجدتها قد فقدت الكثير من نضارتها , ونعومتها , ولينها , وابتسمت لها , ورحت اسألها عن فتى أحلامها ..؟
ــ كيف هو .؟؟ , وكيف حاله ..؟؟ .. وهل ...؟!! .. وهل .. ؟!! ..
سريعاً قطعتْ حبل أسئلتي , الذي ألقيته عليها , لتخبرني بأنها لم تتزوج بعد وإلي الآن لم يأت هذا الفتي المنتظر ..؟.. وبأن العمر قد مر , وفر من بين يدها , وهي كما هي ..؟!.. محلك سر..!!.. وبأنها اكتشفت أخيراً بأنها كانت , تجري في مكانها وتنتظر , بل وتبحث عن سراب .. ؟!.. وكيف انتظرته سنين يأتي .. ولم يأت .؟!. وهيهات هيهات أن يأتي , فالعمر مر , و سريعا فر , وانسل شبابها , وجمالها , وفجأة .. سلت يدها من يدي , وهي تقول لي : بنبرة كلها ألم , وحزن السنين الخوالي ...
ــ كنت محقاً . وأنا كنت مخطئة , في حقك , سامحني
ــ ...........
سهمت قليلا , وشردت طويلا , وسرحت بعقلها , وراحت تسترجع أيام الصبا , وأيام كانت تمشي , وتقول " يا أرض أتهدي ما عليكِ قدي " وهي تمشي في الشارع , فيمشي خلفها طابور من المعجبين , وكانت تطربها كلمات المدح , والثناء عليها , وعلي جمالها الفتان , فتشعر وكأنها تطير في الهواء , فتصدم رأسها بالنجوم , والكواكب الشهباء, وتذكرت كيف كانت تتعمد أن ترتدي الفساتين التي تبرز كل تفاصيل الجسد الساحر, بكل هضابه ومنحنياته ومرتفعاته , حتى تجعل كل من يراها , لا يستطيع أن يقاوم جمالها , ولا يمكن تحويل عينيه عنها , مهما كان من هو , ومهما بلغ من التحفظ , والوقار, كانت بنظرة واحدة من عينيه كفيلة لتجعله يلقي كل أسلحته , ويستسلم , فان استعصى , أو استصعب عليها , ألقت إليه النظرة مع بسمة , تدك كل قلاعه الحصينة , ويلقي كل أسلحته , وما عليه من وقار, وحشمة , ويخلع ما عليه من هيبة, وتحفظ , فلا يستطيع المقاومة ولا الصمود أمام فتنتها الطاغية.. هززت يدي أمام وجهها .. وحتى لا ادعها تطيل شرودها و سألتها :....
ــ من أين جئتِ ,,؟ .. والي أين تذهبين .؟
ــ ...............
ترجع إلي نفسها .. تضحك, ضحكتها المعتادة , التي فقدت رنين صداها الجميل , وراحت تسرد لي , كيف كانت تفكر فيَّ , وكيف ندمت أشدَّ الندم , علي عدم الارتباط بي , وكيف في هذا الصباح , داهمها شعور أكيد , بأنها ستراني اليوم , بالرغم من مرور كل هذه السنين الطويلة ..... و ..... و .....
وكنت أسير , وأنا لجوارها , أستمع لحديثها , وقلبي معها , مشفق عليها , وعقلي في مكان آخر , حتى بدت لي البناية الحكومية التي أقصدها , فتذكرت ما خرجت من أجله .. وقفت فجأة .. استأذنت منها بلطف , مخبراً لها , بأني عليَّ أن أقوم بعمل شيء ما هنا , وقد أشرت لها علي المكان بيدي , هزت رأسها , ثم ابتسمت , وهي تمد يدها لتودعني بابتسامتها الجميلة , نزعت يدي من يدها برفق ورحت أعبر الشارع , وأنا أتفادى زحام البشر , والعربات , وأفكر فيما سأقوم به بداخل المصلحة , وأيضاً أفكر في طلبات المنزل , وما طلبته مني أم الأولاد , من طلبات , وأنا عائد إليها , ظللت أقفز , وأسير , وهي واقفة مكانها , تنظر إلي , وأنا أسير للأمام , لا أنظر للوراء مرة أخرى ,,,,




**********************
بقلم / على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
الاثنين 11 / 6 / 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى