نزار حسين راشد - حياة مثقلة بالعاطفة.. قصة قصيرة

تمّ نقلي فجأة إلى بلدة نائية، وشعرت أنني طفلٌ انتُزع من حضن أمّه، وكانت تلك حقيقة لا مجازاً، فقد كنت شديد التعلّق بأمي التي تقيم معي، كأعزب يرتّب خطواته للزواج القادم، كانت أمّي مؤنستي وناصحتي، وفيما عدا ذلك كانت مديرة شؤون حياتي، وشجرتي الظليلة، التي آوي إليها من هجير العالم ، أما ذروة المأساة وجرحها المفتوح، فكانت أنني سأنقطع عن رؤية ليلى، التي تصنع بهجاتي الصباحية، بزيها الأخضر المقلّم بالأبيض وعينيها الربيعيتين وابتسامتها الوادعة، وجبينها الواسع، وكل تفاصيل كيانها التي تمنح المعنى لحياتي الفارغة، في تلك البلدة الحافية، التي تشحّ فيها العلاقات، ولا يكترث أحدٌ لوجود الآخر!

انتقلت فعلاً إلى عملي الجديد، في ذلك الريف النائي، وتذكّرت توفيق الحكيم، ويوميات نائب في الأرياف! إلا أنني لم أتمتع بروحه المرحة التي تعينني على تقبّل هذا الوضع الشاذ!

لقد أتاحت لي الوحدة، وأوقات الفراغ الطويلة، أن أعيد النظر في التخطيط لمستقبلي، وقرّرت التقدّم لوظيفة في أحد بلدان الخليج العربي، وكان تخصصي الجامعي مطلوباً وبالتالي ففرصتي كبيرة في الحصول على عمل براتبٍ جيّد، وهكذا سأختصر مشوار حياتي، وسأوفر المال في فترة قصيرة، وأعود لأتقدم لطلب يد ليلى، دون أية موانع!

في الخقيقة فإن ما كان يمنعني أن أفعل ذلك، حتى ذلك الحين، أنني لم أشأ أن أترك أمي وحيدة، أما وقد أصبخ الأمر سيان، وأصبح العيش بعيداً عنها أمراً واقعاً، فلا بأس أن أنتهز الفرصة، ما دمت لا أعلم كم ستطول إقامتي هنا، فقرار النقل مفتوح، وقد أبقى عالقاً هنا لسنوات ، وهكذا كان.

انتقلت للعمل في دولة خليجية بعد أن قدّمت استقالتي، ولم أكن أعلم أنّ إغراء المال سيفتح شهيتي، ويؤجل مشروعي سنة بعد سنة حتى أضمن لليلى حياة رغيدة وعيشاً وثيراً تستحقه، وفي كل إجازة صيفية كنت أطمئن إلى أنّ الوضع على حاله، وأن أحداً لم يتقدّم لخطبتها، فأؤجل خطوتي للعام القادم!

ورغم أنّ امي نصحتني أن لا أبالغ في التأجيل لأن البنات كالزهور تخطف في أوجها، إلا أن شيطاني أغراني بجمع المزيد من المال، لأحقق حياة مستكملة الشروط من بيت وسيارة وجهاز فاخر!

إلى أن وقع المحذور وتلقيت مكالمة من أمي بأن ليلى تمت خطبتها، فأسقط في يدي وتقدمت بطلب إجازة طارئة استغرقت أسابيع للموافقة عليها، وما إن حطيت في أرض الوطن حتى تلقيت النبأ الصادم، كصفعة مفاجئة على وجهي، بأنّ ليلى كتب كتابها!

أمي لم تقدّر فجيعتي تماماً أو لم تشأ أن تلقي علي باللوم، بتلكؤي وتسويفي، حتى لا تزيد آلامي تبريحاً، وقالت ببساطة:

- اللي خلقها خلق غيرها، بنات حوى كثار!

لم يخفف ذلك من عذابي شيئاً وقرّرت أن أبقى على عزوبيتي، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا!

انتقلت من الوظيفة إلى عالم الأعمال، وتراكمت ثروتي وتعاظمت، وابتنيت فيلا جميلة في حيٍّ راقٍ، انتقلت امي للعيش فيها، لأنها كانت ترفض أن تعيش في الغربة ولو إلى جانب ابنها الوحيد، وكثيراً ما طلبت إلي، أنه يكفي وأن أعود عودة نهائية!

في آخر إحازة لي، وكنت أحزم متهيئاً للمغادرة، أحسست أن أمي تريد أن تبوح لي بشيء، وأن صمتها المريب، يحمل كلاماً يقف على شفتيها، وتوجست أن تكون تكتم عني مرضاً ألمّ بها، وذهبت بي الظنون كل مذهب، حدّقت بها جيداً ولم يكن في ملامحها أو هيئتها ما ينبيء بأي عارض، كانت طبيعية تماماً ووجهها ينطق بالصحة والعافية، وأخيراً نطقت:

- لقد علمت من صديقة لي أن ليلى تطلّقت، ضميري لم يسمح لي أن أخفي عنك خبراً كهذا، ولكن عليك أن تعلم أن في حضانتها أطفالٌ أربعة!

أسقطت حقائبي من يدي ولم يعد وجهي يسع ابتسامتي التي كادت تبتلع أذني، وأعلنت بأعلى صوتي وبسعادة غامرة، أنني لن أغادر بدونها هي وأرانبها الأربعة، ولكن عليك أن تتأكدي يا أمي أن الطلاق نهائي ولا رجعة فيه!

- لقد مضى على ذلك أكثر من سنة يا بني، والرجل تزوج بأخرى ولم يطلب حتى حضانة أولاده، ويقال أن وقوعه في حبائل هذه المرأة، هو السبب في الطلاق!

ولم أملك إلا أن أصرخ بأعلى صوتي:

فليذهب إلى الجحيم هو وزوجته الجديدة، والآن ما عليك إلا أن تذهبي لزيارتها وتجسي النبض وترتبي الأمور!

صمتت أمي لهنيهة ولم تلبث أن أفصحت:

- لقد جاءت لزيارتي وسألت عنك!

لم استطع أن أقول شيئا، وبدلاً من ذلك شرعت بالرقص تعبيراً عن عاطفتي الجامحة، التي لم تسعفها الكلمات!

أما أمي فقد كانت راضية تماماً، لأني سأختتم عهد عزوبيتي الثقيلة التي أرقتها طويلاً، ولا يهم إن كانت بطريقة مختلفة قليلاً عما رسمته لي في مخيلتها!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى