على حزين - المسحراتي.. قصة قصيرة

أطفال قريتنا يحبونه .. ولا ينامون حتى يأتي إليهم .. ويرونه , ويسمعون صوته .. ويجرون خلفه ليتبعوه بفوانيسهم الصغيرة الجميلة, الملونة غالية الثمن , فما أن يسمعوا صوته قادماً من بعيد .. حتى ينطلقوا نحوه كالفراشات الملونة التي رأت النور وهم منفلتين .. يلتفون حوله في فرح وسعادة .. مبتهجين .. بصياحهم .. والضحك الجميل , مع الضجيج الذي يوقظ النائمين .. قبل أن يوقظهم هذا القادم من بعيد .. وبراءة الأطفال تملأ شارعنا الضيق الطويل الذي يشبه إحدى ممرات الدفن الفرعوني في القديم .. أو قطار السكة الحديد المتجه من القاهرة إلي أسوان
ــ عم عيد جاء .. عم عيد جاء ..
الساعة الثانية بعد منتصف الليل ــ لا بأس ــ فلم يزل هناك متسع من الوقت .. أنظر من النافذة ..أرى الأطفال يملئون ألشارع .. بعضهم يحمل الفوانيس , والبعض الأخر يتشاجر أمام احد البيوت , وقليل منهم يعبث مع زينة رمضان التي قد غطت كل ركن في الشارع تقريباً .. الورق المقصوص الملون بأشكال الطيف , والفوانيس الكهربائية المعلقة , والمصنوعة من الخشب , وأعواد الجريد , والشرطان الكهربائية المضاءة .. تقلب الليل إلي نهار صاخب ....
ها هو عم عيد يقترب صوته قليلا من بيتنا .. وأنا أنظر إليه من بعيد .. وأنتظره حتى يأتي إلي بيتنا .. وحبل الذكريات يشدني إلي أيام الطفولة التي ولت بلا رجعة وتركت بدواخلنا أشياء جميلة .. آه علي الزمن الجميل .. وليت الزمان يعود ..
تذكرت تلك السنون الخوالي التي مرت وانقضت من عمري .. وعادت لذاكرتي تلك الأيام الجميلة , وانبعثت من جديد بداخلي كل الذكريات.. فرأيتني أجري مع الأطفال الصغار في شارعنا , وبيدي الفانوس , حتى أحظى بمكان قريب من عم عيد " أبو عبده " أسير بجواره, وهو يضرب علي طبلته الصغيرة التي ورثها من أبيه وهو ينادي علي الناس .. كي يستيقظوا ليستحروا .. وأنا احمل في يدي فانوسي العجيب الذي صنعته بنفسي لنفسي .. وهو عبارة عن حق من الصفيح لا أذكر ما الذي كان فيه .. ربما كان حق سمن صناعي .. وربما كان مجخياً ــ لا اذكرــ .. فتحت فيه نافذة صغيرة , وربما كانت إثنتان .. وقد وضعت الشمعة التي ُصنعت من الشحم .. وقد ربطت الكوز بالدوبارة , وأظل أسير معه , أو لجواره , اتبعه حتى يفرغ من إيقاظ الناس للسحور .. ثم أعود إلي البيت لأتسحر , وأذهب لصلاة الفجر , ثم أعود أدراجي إلي البيت , لأنام حتى الظهيرة .. ولا يوقظني أحد ...
الأطفال يقطعون بأصواتهم المرتفعة حبل ذكرياتي المتداعية الممتدة نحو الماضي الجميل .. وأنا قد مُلئت سعادة , وبهجة كالأطفال تماماً بتمام ..
ــ عم عيد جاء .. عم عيد جاء ..
يقترب عم " عيد " من بيتنا, يسبقه صوته القوي, فبرغم كبر سنه إلا أن صوته لا يزال شابا .. توارث هذه المهمة عن أبيه .. الكل يعرفه فهو نار علي علم ....
كان في الماضي مقضيها بالطول والعرض..وذلك قبل أن يموت أبوه, ذلك الرجل الطيب الذي لم يفوت ولا صلاة واحدة إلا وصلاها في الجامع الكبير جامع الشيخ "عبد العال " بجوار مزنوقان المحطة, لا في حر, ولا في قر, صيفا وشتاءً, صلاته كلها في الجامع, وكان في رمضان, أجتمع أنا وهو وبعض الصائمين بجوار المحراب بعد صلات العصر , وبعد أن يفرغ الأمام من الدرس , والصلاة , نجلس نقرأ القران , وكنت أحب ذلك الرجل الطيب , الذي يحب رسول الله " صلي الله وعليه وسلم " ويحب الصلاة علي النبي كثيرا " صلي الله وعليه وسلم .....
أشهد أنه كان رجلا طيبا , وكان رجلا صالحا , وكان محباً للنبي والصلاة عليه , ومحباً للقران وأهله , وصلاة الفجر في جماعة .. وكان يحب عباد الله جميعاً ..
أما ابنه الوحيد هذا كان مهياصا, لم يركعها قبل ذلك , منفلتا , يحب اللهو , واللعب والذهاب إلي الأفراح ولم يهتم إلا بنفسه , والزفة في الأعراس .. وكنت أراه وهو يرقص مع النساء, وهو يغني, ويتمايل , وهنَّ من حوله يصفقنَّ , ويضحكن له وعليه , وهو يطلب منهنَّ الاشتراك معه في الرقص والتصفيق والغناء والترديد خلفه بحماس
ــ اطلب من الله ولا يكثر عليه .. يعطيني ميت ألف جنيه .. وخزنه حديد ويكون مفتاحها معيَ ....
وهن يرددن خلفه بقوة ..
ــ يكون مفتاحها معيَ ...
الأطفال يتصايحون , وعم " عيد " يضرب بالطبلة , وهو ينادي علي الجيران كل واحد باسمه .. ويطلب من الأطفال عدم التشاجر مع بعضهم علي المكان الذي بجواره . وإلا لا يصطحبهم معه ثانية .. والأطفال يصيحون, وهم ترددون خلفه
ــ أصحي يا نايم صحي الدايم واحد الرزاق
ومع آن اغلب الناس في دربنا الطويل , لا ينامون بالليل في رمضان حتى يتسحرون وربما صلوا الفجر حاضر جماعة في الجماع الكبير ومع ذلك تنتظره حتى يأتي .. علي الرغم بأن اغلبهم لديه عمل في الصباح , إلا أن الناس لا تنام , وتسهر , وتظل أمام التلفاز , حتى يجيء إليهم عم " عيد " كل ليلة , ليضرب علي الطبلة ويسحر الناس .. وهم ينتظرونه أيضاً .. ويأتي عم " عيد " من بعيد .. والاولاد تصيح ..
ــ عم عيد جاء .. عم عيد جاء
المسحراتي مهنة توشك أن تنقرض وتختفي معالمها وتتلاشى وتتوه في التاريخ
يخبرنا التاريخ : أن أول ما بدأت في مصر.. وأن من نادى بالتسحير" عنبسة ابن اسحاق سنة 228هـ " وكان يذهب ماشيا من الفسطاط إلي جامع " عمر ابن العاص " ينادي بالسحور كما أن أول من أيقظ النّاس علي الطّبلة هم أهل مصر الكرام , وكان المسحراتية يطوفون شوارع المدينة والقرية يرددون الأناشيد الدينية .. وينادون الناس ليستيقظوا , ويوحدوا الله ..ويضربون على الطار , ضربات متوالية حتى يسمعهم النائمون , فيهبوا من نومهم , لتناول السحور .. أما أهل البلاد العربية كاليمن , والمغرب فقد كانوا يدقون الأبواب بالنبابيت , وأهل الشّام كانوا يطوفون على الأبواب ويعزفون على العيدان والطنابير وينشدون أناشيد خاصة برمضان .. والمسحراتي صورة لا يكتمل شهر رمضان إلا بها .. كما أنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعاداتنا وتقليدنا الشعبية الجميلة ,
وكان المسحراتية في مصر ينادون على الناس .. كما يفعل عم " عيد " تماماً بتمام ,
ــ يا نايم وحّد الدّايم .. رمضان كريم
يضرب بطبلته .. مع صوته العذب الجميل .. وهو يردد أجمل الكلمات .. مما يضفي علي المكان سحر وجمال خاص .. وقديما كان المسحراتي لا يأخذ أجره ألا في أول أيام العيد , كنت وأنا صغير أره يمر علي البيوت , مع بيتنا الكبير بيتا بيتا ماشيا , أو راكباً حماره , ومعه خُرج كبير , وطبلته المعهودة .. ينادي علي صاحب الدار , وهو يوالي الضّرب على طبلته .. فيهب الناس بالعطايا , والهدايا والكعك , والحلوى , وربما شعير , أو فول سوداني .. أو تمر ...الخ , الخ .. وهم يبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد .. يذكر التاريخ أن الدولة الفاطمية عينوا رجلا لهذه المهمة وأصبح يعرف بالمسحراتي , كان يدق على الأبواب .. وهو ينادي : " يا أهل مصر .. يا أهل الله قوموا تسحروا " ...
ثم مع الزمن بدأت تقال عبارات أخرى منها
ــ السحور يا عباد الله .. واصحي يا نايم .. وحد الدايم "
وعم عيد هو وأبيه أخذها هواية ولم يطلب الأجر والثواب من أحد .. يفعلها حسبةً الله تعالي .. فقط حب الناس هو رأس مالهما .. وما يتقاضاه مقابل مهمته , أو قل هوايته الجميلة ..
ها هو يقترب من البيت .. يضرب علي طبلته الصغيرة التي ورثها من أبيه .. ينادي علي من في الدار ليستحروا , وهو يعلم أنهم يقظين .. الجيران تحبه وتحب مجيئه الذي يشعرهم بجو رمضان في الماضي الجميل .. أسمعه ينادي على أبي بصوت عالي , وفي نفس الوقت ينادي علي بصوت خافت , ويداعبني , فأضحك مغتبطاً .. سعيداً ..
ــ يا شيخ على .. يا شيخ على
وكنتُ أرد عليه , مغتبطاً لفعلته هذه , وأنا اسبر لجواره , واضحك , وأنا سعيد مسرور لأنه ينادي علي وأنا أسير لجواره , وهكذا كان يفعل مع أصدقائي أيضاً ..
ــ يا شيخ علي .. يا شيخ علي
أنتبه لصوته الذي يأتيني هذه المرة بقوة , انظر إليه من الشباك المطل علي الشارع .. وقبل أن أرد عليه يجيبه أولادي الصغار.. فهم ينتظرونه كباقي الأولاد في الشارع ليسيروا خلفه مع الأطفال
ــ ايو يا عم عيد , أتفضل
ــ اصحي يا شيخ علي
ــ أتفضل أتسحر معانا
ــ شكرا يا غالي .. سالم لي علي أبوك الغالي
أعطيه صوتي أرد عليه .. وأنا أدعوه , وألح عليه بأن يتفضل , وان يتسحر معنا فيشكرني وهو يداعب الأولاد الذين يحبونه , كما كان يفعل معي وانا صغير .. وهو يقول لهم
ــ ربنا يخلي ربنا يخلي
أترحم علي أبيه .. ذلك الرجل الصالح .. فيترحم هو أيضاً علي أبي .. وهو يتجاوز بيتنا الذي لم يزل مكانه .. أره هو يسير , والأولاد تصيح وتردد خلفه .. ومنهم من يغني ...
ــ وحوي يا وحوي إيوحه .. وكمان وحوي إيوحه
بعد قليل سيفرغ .. ثم يعود إلي البيت .. ويتفرق الأطفال كما كنا نحن في الماضي وينفضوا من حوله .. ثم تجده في المسجد .. ليرفع الأذان لصلاه الفجر, بصوته العذب الندي .. وربما رايته يصلي بالناس إماما .. كما كان يفعل أبيه من قبل ا... كما أن أهل البد لا يفطرون في رمضان ..ألا إذا سمعوا صوته عند المغرب بالأذان.
.........................................................................
.........................................................
..........................................
في هذا العام تغيب " عم عيد " عن ضربنا .. فلم يأتي كما كان يأتي .. ينادي علينا .. كل واحد باسمه .. ليسحرنا .. ولم يأتي الأولاد الصغار .. الذين يتجمعون حوله كالفراشات الصغيرة الملونة.. ومعهم فوانيس رمضان .. سألت عنه, وأولادي كذلك..؟! , فعلمت أنه مريض , ولا يقوى علي المجيء إلينا هذا العام .. فحزنت من أجله , ودعوت الله له أن يشفيه .. وعزمت في نفسي أن أزوره إن سنحت لي الظروف .. وأسأل عنه فهو حبيبي .. ألا أن شعورا ما راح ينغصني وشعرت بأن رمضان هذا العام ينقصه شيء .؟. أن رمضان من غيره في هذا العام ليس له طعم , وينقصه شيء وأي شيء انه عم " عيد " المسحراتي ...
*******************************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى