أميمة الخش - الرُّشيم

تضع المدينة أنشوطتها الغليظة حول عنقي. كل ما في المدينة يسهم في منع النسمة من الانسراب إلى صدري. شوارعها المكتظة، أرصفتها الضيقة، الفضاء المشحون بزعيق السيارات، الموسيقى الصاخبة، أصوات البشر، أيديهم الخاوية الممدودة من أجل رغيف، حناجرهم المتورمة، وعيونهم الطافحة بدموع متحجرة.

أهرب من موقع الإعدام. أعدو بعيداً خلف واحة خضراء، ونسيم عليل، وسماء صافية. وعندما ينهكني التعب أعرف أني كنت أركض وراء سراب. أقتعد جانب الطريق وأغفو ربما دهراً!

حين أفيق يقع نظري على كومة بيوض متروكة فوق تلة تراب تغطيها نثرات متفرقة من قش محترق. أقترب بحذر وسط الهجير وأمدّ يدي. أتلمّس البيوض الدافئة، بينما عيناي تتابعان خيال دجاجة تبتعد عن بيت القش الدافىء.

أراقب البيوض عن قرب دون أن يحيد نظري عنها دقيقة واحدة. وبعد ساعات من الترقب المشوب بفرح خفي تهتز بيضة. وفي لمحة ينفتح في أعلاها ثقب صغير لا يلبث أن يتسع ليخرج منه كائن صغير ينفض جناحيه مغادراً كومة القش، مشرئباً بمنقاره في بحث فوري عن زاد لحياة جديدة.

ألبث في مكاني حتى تفقس البيوض جميعاً. وفي غمرة إحساسي بالفرحة أحس بجسمي المتعب، الهارب من حبل المشنقة، يتحول في لحظة إلى قلب كبير ينبض. يستولي عليّ شعور عميق بحب جارف. الحياة رشيم. الرشيم هو الوجود. هو الفيء في أوج الهجير!

أعود إلى الطريق ذاتها، إلى موقع الإعدام ذاته، إنما بجسم تحول إلى قلب نابض. تستوقفني ملصقات بيضاء بحروف كبيرة سوداء. يدفعني فضولي إلى التحديق إليها طويلاً. أدرك بعد حين أن اليد التي قذفت على رصيف الحياة المشمس نواة جديدة، رحّلت أخرى إلى رصيف آخر تكتنفه العتمة. حياة وموت. وجهان لعملة واحدة صاغتها يد حكيمة، ربما في اللحظة ذاتها!

أرى نفسي منساقة للمشاركة في احتفال الموت، كما شاركت قبل ساعات في احتفال الولادة. حروف الاسم السوداء الكبيرة تؤكد أن الراحل يمت إلى عائلتي بصلة قرابة بعيدة، وإن باعدنا اختلاف المشارب.

مأتم ومعزّون داخل قصر كبير. وجوم مفتعل! تسوّرني قضبان مذهبة. كثيراً ما تستوقفني الوجوه. أقرأ في ملامحها مضامين جوانية. أما القامات فليست أكثر من مشاجب. أحس بأن نظري لا يمتد بعيداً. أعرف بعد حين أن لمعان الثياب أمامي يحسر الامتداد ويرده إلى حدود ضيقة.

وجوه محنّطة. ليست حزينة، ولا فرحة. وجوه من غير حياة! هل هي كائنات من كوكب آخر؟ بدأت أخمن!

يأخذ الوجوم بالتلاشي. تتحرك الأصابع، المرصعة بأحجار كريمة، فوق المساند، وتبدأ تعدّ حبات السبحات. تلتوي الرقاب المتضخمة، وتدور العيون في محاجرها، وترتعش الشفاه. الجميع ينتظر.

الكبير يبدأ يتكلم. حكمة ما. "رحم الله الفقيد! عاش حياته كما يجب أن تُعاش. عصرها حتى آخر قطرة. ما معنى حياتنا إن لم نستمتع بها حتى الرمق الأخير، كما فعل، رحمه الله. إنه معلم، معلم كبير!"

تناوبت الرؤوس حركات تأييد وموافقة، وتناثر في الجو لغط، راح يعيد على المسامع محطات متع الفقيد وارفة الظلال، تنسرق منها ضحكات فاجرة، وشتائم مقذعة، مختلطة بأصوات سُكْر وعربدة. تختلط أصوات المتحدثين خشنة وناعمة، غليظة ومائعة. ويضيق المكان الواسع كالكابوس.

من وسط الرماد تنطلق الشعلة، خافتة ضعيفة. صوت يخرج همساً في حديث جانبي موجه لابن الفقيد. يتحرك سمعي باتجاهه، كما تتحرك فراشة باتجاه ضوء. تصلني مقاطع خافتة. ألتفت صوب الصوت. يقع نظري على شفتين رقيقتين، تنفتحان وتنغلقان في حركات رتيبة هادئة. قامة ضئيلة، وثياب متواضعة، وحوار خافت وسط ضجيج مفتعل.

تشدني اللقطة. أصيخ السمع. من هذا الغريب؟ ماذا يقول؟ الرأس إلى جانبه كبير مدور يستند إلى جذع قامة فارعة تميل عليه في محاولة لالتقاط نثرات من كلام لا يبدو مهماً. آداب المجاملة. سلوك الطبقات الراقية. مفارقات مضحكة-مبكية!!

يعلو الصوت قليلاً ليصل الأسماع.

- إذا كانت الحياة، كما تقولون، لا معنى لها إلا إذا تمتع بها المرء، كما فعل الفقيد، ألا ترون أن الإنسان، حتى عندما يروق له أن يتمتع، عليه أن يحتفظ بحدٍ ما من كرامته الانسانية؟ وهنا يطرح السؤال نفسه: هل الكرامة الإنسانية شيء له معنى أم ليس له؟ إذا وُجد شيء واحد في الحياة له معنى، فالحياة إذن ليست من غير معنى!

الصوت لايزال يعلو رويداً رويداً، مخترقاً ضجيجاً يبدأ يخفت. الآذان تنشدّ مرغمة، والأسماع تصيخ. دهشة مفاجئة تأخذ مكانها فوق الوجوه. تساؤلات كثيرة في تلك اللحظة تراود الأذهان السكرى: "ما الذي يريد أن يقوله هذا المسخ؟" يزداد التحدي على شكل همهمة مبهمة. تتوضح أخيراً في سؤال معترض:

- وما هي الكرامة يا أخ؟ أجبني بربك!

يضحك بسخرية:

- اروِ فضولي.

الصوت هادىء وواضح. القامة قصيرة والرقبة نحيلة. العينان واسعتان كبحر، والنظرة تخترق الأسوار المذهبة. من أي درب جاء هذا الغريب؟ أبدأ الآن بطرح السؤال! يلتفت إلى المتسائل الساخر.

- أنت إنسان له مستوى اجتماعي مرموق. يفاجئك شخص إذ يقول: "أنت حمار!" سؤال: هل تشعر بالإهانة؟

يتلعثم السائل.

- لا أحد يقبل أن يسمع كلمة كهذه!

يحرك رأسه يمنة ويسرة علامة استغراب ورفض واضحين.

- دفاعك عن نفسك معناه دفاعك عن معنى أنت تراه فيها. هذا المعنى قد يكون موجوداً أو لا يكون - هذا أمر آخر. أنت إذن تظن أنك تدافع عن معنى يتعلق بوجودك. فإذا كان لوجودك في الحياة معنى، فالحياة كلها لها معنى إذن. وهذا ينطبق على سواك أيضاً، إذ لا يُعقل أن يكون لوجودك وحدك في الحياة معنى ولا معنى لوجود سواك. وبالتالي إذا كان لوجودك معنى، عليك أن تفكر في هذا المعنى وتتأمل فيه وتحدد مسار حياتك في ضوئه.

يعلو اللغط، وتقف على الشفاه ضحكات استهزاء خفيفة. يبدأ قلبي يخفق، وتبدأ أعصابي تتحفز. تجول عيناي فوق الأقنعة المرصوفة جنباً إلى جنب. أحاول اختراقها. يهولني المنظر. يصلني من داخل الصدور صوت واحد: "هذا الغريب مخبول أو مدسوس. إن كان مخبولاً، فلاضير في بعض التسلية في جو التعزية هذا. إن كان مدسوساً، فلدينا من الحَصانات ما يكفي!"

يتابع الصوت بجدية لا يحتملها الموقف:

- من جهة ثانية، قد يكون المعنى موجوداً، لكنه غير ظاهر أو متحقق. فقد تجد أنت معنى الحياة في تحقيق نجاح مادي معين، في بناء أسرة وإنجاب أطفال يحملون اسمك ويرثونك، بعد عمر طويل طبعاً! هذا المعنى يرتبط بالغاية. الآن، بعد أن تحقق في حياتك كل الغايات التي ذكرنا - مال، نفوذ، نجاح، أسرة - لاشك أنك تبقى تتساءل في لحظات صفائك: "وماذا بعد؟"

ترن ضحكة قريبة، تتحول إلى قهقهة، ثم تهدأ. يخرج الصوت مترنحاً. "هل تُسكر الجدية إلى هذا الحد؟" أتساءل.

- يا أستاذ! ماذا تقصد بلحظات الصفاء؟

- أقصد اللحظات التي يقف فيها الإنسان عارياً أمام نفسه من غير أقنعة. ألاتوافق، أيها المحترم، أننا في هذا المجتمع نمثّل أدواراً، ونضع لكل دور القناع الذي يناسبه؟ لكننا، في لحظات قصيرة جداً ونادرة في حياتنا، لحظات نخلد فيها إلى أنفسنا، ينبثق السؤال من أعماقنا: "من نحن؟ ماذا نفعل؟ ولماذا؟" أعتقد أن مجرد طرح هذه الأسئلة، التي غالباً ما نهرب منها، لأن مجرد التفكير فيها يرعبنا، يضعنا أمام مسألة المعنى ومسألة الغاية الحقيقية من وجودنا، التي هي في الحقيقة أبعد من الأهداف القريبة التي ذكرنا.

يسود صمت مطبق يستمر حيناً. تتوقف فيه الأصابع عن عد حبات السبحات، وترتفع لتستقر على القسمات، تتفقدها بلمحة. لقد كشف الغريب اللعبة، لعبة الأدوار والأقنعة. دار التعزية الكبيرة هذه مَشْرَحة. الجميع جثث مكشوفة، ومبضع الغريب جاهز. "هذه وحشية! نعم هذا الغريب ليس مخبولاً. فالمخبول تفوته التفاصيل أحياناً. وليس مدسوساً، فالمدسوس يعمل دائماً في الخفاء. هذا الغريب متوحش، متوحش قادم من عصر الكهوف. وعلينا، نحن المتحضرين، أن نريه الصورة واضحة جلية. ولتنته المهزلة!"

"انتبه، أيها الغريب! فاللعبة مستمرة، لكنها بدأت تأخذ شكلاً جديداً. الصراع الآن صراع حضاري صراع بين قوى التقدم وقوى التخلف، لكن مع احترام آداب السلوك والمجاملة حتى هذه اللحظة."

ينطلق صوت معبّراً عن الرأي المخزون في الصدور.

- إذا سار الإنسان على هذه الطريقة في التفكير فإنه لا يتطور.

تنطلق الهمهمات:

- صحيح.. صحيح...

تهتز الرؤوس دليل الموافقة.

تتسارع دقات قلبي وتتعالى، حتى يكاد صوتها يصل أذني. "انتبه أيها الغريب. هم يظنون أنهم أصابوك في الصميم، وأنهم حملوا مبضعهم أمام جثتك الموضوعة على منصة التشريح، كما فعلت تماماً. انظر إلى قسمات أقنعتهم التي بدأت ترتاح للفوز. الحياة عندهم لا تعرف الخسارة أبداً، فحاذر!"

ينطلق صوته غير آبه لكل ما يحدث، وكأنه ما وُجد حيث هو إلا ليكون علامة تضعها الحياة في منعطفات مسيرتها الأبدية.

- هذا كلام تناقض نفسك فيه يا سيد. فلو كان الإنسان يبحث فقط عن إشباع ملذاته الآنية من أكل وشرب وجنس وامتلاك فقط، لما تطور أصلاً. أرى أن التطور الحقيقي للبشرية، التطور الذي وصل بنا إلى ما نحن عليه اليوم من إمكانيات فكرية ونفسية وحتى مادية، هو ثمرة جهود أناس شعروا، وهم في عصر الكهوف، بأن للحياة غايات أبعد من إشباع حاجاتهم الآنية. فلو اكتفى هؤلاء بتلبية متطلبات غرائزهم ولم يروا لحياتهم غاية أبعد منها، لكنا الآن مجتمعين في كهف على ضوء مشاعل الشحم، حول نار نوقدها بالصوّان، ولما كان ضوء هذه الثريات يتلألأ في هذا البيت الكبير، ولما كنا نناقش أو نتحدث عن معنى وجودنا أصلاً.

"انقلب السحر على الساحر. الصورة الآن جلية واضحة. أصحاب الكهوف في طرف الصورة، والغريب المتحضّر يأخذ الحيّز الأوسع. لكن الأمر ليس مهماً إلى هذه الدرجة، فالأذكياء يعملون غالباً وراء الكواليس، لأن الأضواء تعمي أبصارهم في أكثر الأحيان. ثم إن الكبار لايحبون الحروب فهي تعطل مصالحهم. ولِمَ الرصاص؟! المصافحة أفضل!"

تمدّ القامة الملاصقة له ذراعاً تحيط بكتفيه الضئيلتين، وتربت الكف الضخمة على طرفهما برقة تشفعها ابتسامة مفتعلة. حركة ذكية أراد بها صاحبها إنهاء مسرحية ليس الزمان زمانها ولاالمكان مكانها، إنما بطريقة سلمية مهذبة. آداب السلوك مرة أخرى!

لايأبه المتحدث إلى هذه الحركة، كأنما هي لا تعنيه في شيء. يتعالى الوجيب في صدري. ومن جواي يعلو الصوت مكبراً: الرشيم في أوج الهجير! الحياة تقوم وسط الموت!! يتابع الغريب الحديث:

- نعود الآن إلى المسألة التي بدأناها. مشكلة الإنسان الذي لا يملك في نفسه، وهو على ما هو عليه، القدرة على الإحساس باستمراريته، فيلجأ إلى حيل مختلفة يوهم نفسه من خلالها أنه يحيا ويستمر. وهكذا تبدأ رحلة مساعيه إلى تجربة كل ما يمكن أن تمنحه إياه الحياة من ملذات لكي يحس من خلال ما يفعل باستمراره الشخصي.

تستقر نظراته على كبير الجلسة. يتوجه إليه بالحديث:

- لنفترض أنك عشت يوماً من حياتك دون أن تفعل شيئاً على الإطلاق. تجلس على هذا الكرسي لا تخاطب أحداً، لا تنجز أي شيء. ماذا تكون النتيجة؟

يتنحنح الكبير. ترتسم على شفتيه ابتسامة صفراء، يداريها بمشقة، دون أن يتمكن من إخفاء دهشته أمام خطوط اللوحة التي ترسمها أنامل الغريب بدقة متناهية. يسأل بشيء من الانفعال:

- وهل من الممكن أن يفعل إنسان شيئاً كهذا؟ ولماذا يفعله أصلاً؟

"انتبه أيها الغريب. هل تعرف من تتوجه إليه بحديثك الآن؟ إنه كبير الجلسة، صاحب أطول وأندر سبحة تتلاعب بحباتها الأنامل، مالك أنفس جوهرة توضع فوق بنصر. لقد سببت له افتراضاتك شيئاً من الانفعال، وهذا يعني أنك اقتربت من حدود الخط المرسوم. فاحذر العاقبة!"

تعابير وجه الغريب لا تنم عن أي خوف أو حذر أو توجس. لا توحي إلا بالوداعة والطيبة والهدوء. هو بعيد تماماً عن تيار أفكارهم ووساوسهم ومنغّصاتهم، منشغل بالكلية بما يحدث جوّاه تجاه ظاهرة الموت التي تطوقه من كل جانب. يا للمفارقة! عالمان قريبان بعيدان!"

هوذا الغريب يجيب على سؤال الكبير:

- لا لشيء، إلا لكي يتأكد من أمر واحد هو: هل معنى حياته نابع من نفسه، أم من الأشياء التي يفعل؟ إذا خلوت إلى نفسك مدة من الزمن وشعرت أنك ممتلىء بذاتك، وأن وجودك غير منحصر في اهتماماتك اليومية ومشاغلك الكثيرة، فهذا قد يعني أنك تستمد المعنى من وجودك أنت. أما إذا شعرت بالسأم والضجر وبأنك لا تجد ما تشغل نفسك به، وبأنك تتحرق لفعل أي شيء يبعد عن نفسك السأم، كأن تتصل بأحد أصدقائك أو عملائك، أو تشاهد التلفاز، أو تقرأ الصحف أو تشرب كأساً، وأنك، فوق هذا كله، لا تقوى على مواجهة نفسك بهذه الحقيقة، فهذا يعني أن معنى حياتك مستمد من الدور الاجتماعي والمهني الذي تلعبه، أي من خارج ذاتك. أي أن معنى حياتك ليس أصيلاً فيك. وهذا الاندماج بينك وبين دورك الذي تلعبه هو الذي يشعرك بالاستمرارية وبالتقدم من خلال الاستزادة من المكاسب المادية والاجتماعية.

يصمت المتحدث قليلاً. ينكس بصره كأنما هو يبحث عن سؤال. هو يود متابعة الحديث، بل هو جاد في البحث عن سؤال مناسب. لا يهم إن تكسرت مقاطع كلماته على صخرة الجمود والترهل. فاستمرارية تشكل الموج هي التي توصله إلى الشاطىء.

ينطلق السؤال:

- هل لك أن تتخيل نفسك قد أفلست – لا سمح الله طبعاً! - وانقطعت بك سبل العيش لسبب ما، بحيث لم تستطع أن تفعل شيئاً حيال ذلك. ماذا تفعل حينئذٍ؟

يبتسم الكبير لسذاجة السؤال. "انتبه أيها الغريب إنه يقول في سره: "بماذا يهرف هذا المسخ؟ ألم يعرف حتى الآن إلى من يتوجه بأسئلته؟ أنا أفلس؟ شيء مقزز! لابد أن أسكت هذا النعيب، فقد بدأ يثير أعصابي. ولكن، لا! لابد أن أتماسك فأنا الكبير هنا، واللياقة الاجتماعية تقتضي أن أهدأ وأستمع، وإن كان لمتحدث بومة!""

يحاول الجليس المجاور للكبير إيقاف المهزلة فيرفع يده مشيراً إلى المتحدث بالسكوت. لا يلتقط المتحدث الإشارة. ربما لأن المسافة أبعد من أن تراها العيون المفتوحة. يتابع:

- إذا شعرت بالضياع واللاجدوى، فهذا يعني أن حياتك بلا معنى لأنها لا تنفصل عن مقتنياتك. أما إذا لم تشعر بأنك خسرت شيئاً بخسارتك لما تملك. بل، ربما شعرت بأنك ربحت ذاتك الحقيقية. وهذا يعني أن معنى وجودك فيك ولا يمكن أن ينال منه أي طارىء خارجي.

يبتسم الكبير. يفرح. يظن أنه أفلت من المصيدة. اللعبة يجب أن تقف عند هذا الحد فقط. هذا يكفي. فالظرف لا يسمح بأكثر من هذا، وقواعد السلوك التي لايزال يلتزمها قد لا تفيد بعد الآن. يلتفت إلى جليسه ويهمس في أذنه شيئاً ما. يتأهب الجليس لأخذ دوره.

يتصاعد الوجيب في صدري أكثر. "هل يسكت فعلاً وقد بدأت البيضة تهتز وتميل، وبدأت نقطة صغيرة تظهر في الأعلى معلنة عن ميلاد ثقب الحياة؟ انتبه أيها القادم من فلك نوح. فالأرض التي تطؤها مليئة بآلاف الجثث التي أغرقها الطوفان، وعليك تقع مهمة البعث من جديد! انظر إليّ. أنا هاربة من مدينة الموت واليباس. همتُ على وجهي طويلاً أبحث عن نبتة خضراء. وفي لحظة استسلامي رأيت الحياة أمامي تُبعث من فوق كومة قش محترق. عدت من حيث أتيت وصمّمت على الكفاح. ألم تلحظني، أنا التي لم تفارق عيناي ملامح وجهك الوادعة؟ ألم تلفحك حرارة روحي المتوقدة؟ ألم يصلك الوجيب المنبعث من صدري؟ أنا ما ساقتني قدماي إلى هنا إلا لكي أراك، لكي أرى الحياة تُبعث مرة أخرى من فوق كومة قش محترق، لكي يزداد إيماني بعرق النعناع الأخضر. انطق. ففي البدء كان الكلمة!"

جاءه صوت الجليس يحمل تحدياً واضحاً. لقد قرروا نهايته وعليه أن يسقط.

- اسمع يا أخ. أنت تحبب إلينا البطالة والكسل. وأنت بهذا لا تخدم مجتمعك، كما تريد أن توحي بذلك. إن عملنا المهني، الذي تعتبره يقع خارج ذواتنا ولاينفعها في شيء، يخدم المجتمع أكثر من كل حِكَمك التي تطلقها جزافاً منذ الصباح. هل تعلم يا سيد أن عملي يسمح بتشغيل مئات الناس الذين يكسبون قوتهم من خلاله؟

يبتسم المتحدث بهدوء، وهو يرنو إلى الجليس عن بعد. ابتسامته هدهدة ناعمة لطفل حاول أن يكون مشاغباً، فأسكرته الترنيمة فاستكان. "وإذن. هل ستخيب أملهم في إسقاطك؟"

- هذا مخدِّر يا سيد! وأنت في هذا تخدر تساؤلك حول المعنى. فأنت إن لم تكن موجوداً فسيجد هؤلاء الناس ألف طريقة يعتاشون من خلالها. وفي الواقع أنت تحتاج إليهم أكثر من حاجتهم إليك، لأنك تعودت على أن يقوموا بالنيابة عنك بالكثير من الأعمال التي بت تأنف القيام بها. أنت يا سيد تحيا من غير قلب. وهذا هو سر افتقادك للمعنى.

"عشت! هذا هو بيت القصيد. في القلب يكمن المعنى. ومن يحيا من غير قلب يفتقد معنى الحياة. القلب هو الحجر الفلسفي الذي يحول أخسّ المعادن إلى ذهب عندما يحول بشاعة الواقع إلى حلم مفرح. خاتمة رائعة! ولكن، انتبه أيها الغريب، فالكبار لا يقبلون الهزيمة. ومن مَنْ؟ متطفل، غريب الهيئة مثلك! كبار، وسبحات نادرة، وفصوص خواتم ثمينة، وبنوك اعتمادات متنقلة، وأنت! يا للمفارقة! صحيح أن الكبار يحبون التزام قواعد السلوك، ولكن في حال واحدة فقط: عندما يكونون منتصرين. وهذا لكي يزيدوا في إهانة خصمهم. أما عندما يُهزمون، فإنهم ينزعون أقنعتهم في الوقت المناسب تماماً. عليك الآن أيها الغريب أن تتحمل النتيجة. فالبداية كانت اختيارك!"


* هذه القصة واحدة من قصص مجموعة لأميمة الخش بعنوان الرُّشيم، صادرة عن دار مكتبة إيزيس، دمشق، 1999.



عن معابر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى