كلثم جبر - الموت مرتين ..

في سماء فينيسيا.. الحالمة.. حيث الليل والموج وبقايا صراخ امرأة نشوى ترصدت وجهك المكتحل بلون الرمل القائظ في بلادي حيث يستحيل التراب قمحي اللون سنابك تنبئ بقدوم مواسم الحصاد..

وودت الموت مرتين..
كانت موسيقي المقاهي المجاورة لرصيف الميناء في ساحة "سان ماركو" لم تزل بعد تعزف أنغاماً متبادلة فبينما يصمت عزف هذا المقهى يصدح المجاور بأنغامه هكذا في ترنيمة منتظمة تعانق موج البحر، كان الراقصون يتبادلون ارتشاف الحلم في إغفاءة المساء ويتبادلون توسد أذرع أحبتهم وصدورهم.. ويتبادلون الإيقاع الراقص أمام كل مقهى.
وكنت وحدي أحلم بتشردك.

لفظت مختلف المدن وجوه أناسها الهاربة من جزع واقع مطحون إلى قيلولة ممطرة بتلك الساحة العريضة "سان ماركو" حيث تحبط بها بيوت "فينيسيا".. صغيرة هادئة مدافئة متلاصقة والمطر ينهمر رذاذاً ناعماً يغري السياح بالالتصاق مستمتعين بالدفء والموج في حين شرعت المقاهي تتدلى أغطيتها فوق رؤوس روادها الذين اغتسلوا برذاذ المطر، وهم يجاورون الجوقة الموسيقية العازفة أنغامها في كل مقهى فتنزلق القطرات جذلى برائحة الصيف المشبع بثقل الزهور المتدلية من نوافذ تلك المدينة الصغيرة.. وهي تغط دونما صخب في الماء كان المساء خرافي البهجة..

وكنت أعلن البحث عن قامتك الفارعة حينما استدار وجه أخي مبتسماً وهو يهم بمغادرة المكان معلناً انتهاء الجلسة ودقات ساعة الساحة تعلن الثانية عشرة ليلاً.

وكنت لم أزل أعلن البحث عنك.
لم أكن محاطة بالجمع كما تصورت رغم وجود أمي وأبي ووجه أخي المبتسم دائماً، وأطفالنا قررت الانتشاء بالصمت والسفر في لجة غيابك علني أجدك.

ورغم الدهشة ومداهمة الوحدة لي وجدتك كنت تبحث عن ذوائبي وجديلتي الراقصة فوق ظهري وعن ألفة ضجيجي ونزقي الطفولي ومللي كما قلت أنت.

وكنت أبحث عن رعشة هدوئك وانصهارك في الفزع المترقب دونما نهاية وعن لون جلدك البني المصهور بالشمس وعن حزننا المتلون بالقهر معاً، في صدرينا من تضاد الأشياء.. كما قلت أنا.

كنت أتراقب هطولك.
وكنت تتتبع سفري إلى أي المدن سأحط الرجال.. هرباً من قيظ مدينتي اللاهب.. من وجد كلينا.. لا نعلم لكننا اتحدنا في اللحظة ذاتها.. بعد أن عبرت طرقات "فينسيا" المتفرعة المصقولة وكقطة أليفة توسدت كتفك وأنت تداعب جديلتي السوداء الملقاة فوق ظهري وتبتسم:

- أين عباءتك؟
ابتسمت وأنا انهمر ضحكاً في عينيك:
- وأنت أين غترتك وعقالك وثوبك الأبيض؟
وانهمرت ضحكاً.. في عيني:
- وهل يعقل أن أكون في مدينة كهذه.. هل يرتدي والدك ذلك؟
- وهل يعقل أن يكون أبي شرقياً في مدينة كهذه.. لذلك فأنا أيضاً: لا.
وعاودت الضحك أنت هامساً:

- نحن رجال.
وعاودت الغضب الضاحك أنا هامسة:
- وأنا امرأة
وسرنا نختنق بالضحك معاً
كانت المحاكمة جائرة.

القاضي صامت والقاعة واسعة ولكن المدعي العام متوثب كنمر أحمق يوشك أن ينشب أظافره في لحم البراءة ليدميها قبل أن تثبت إدانة المتهمين وهو لم يزل يلتهم الحضور بنظرات مترقبة شرسة.

الدفاع ضعيف..
أجفله توثب المدعي العام.. فتراجع مخذولاً، والشهود فقط كنت أنا، والنظرات تلاحقني وخلف القضبان انتصبت أنت مسكوناً بالدهشة والجزع أذهلتك المفاجأة القدرية بتواجدي في مثل هذه القاعة مستنكراً تمردي وانفصامي عن واقعي كامرأة يجب أن تضطجع في الخدور بدلاً من أن تستقيم في مثل هذه الأماكن كالرجال، حيث سقطت نظراتك المرعدة كالريح القاضمة جسدي الملتف بالعباءة السوداء.. تراجعت لحظة كالبرق عيناك واستقرت فوق وجهي العاري الذي رفعت عنه انسدالة الغطاء الأسود، لكي أجهر بشهادتي أمام القاضي لتبرئتك.

كنت مشحوناً بلحظة الانفجار
ولم يكن اليوم عادياً
كانت الريح تلطم الأبواب وزجاج السيارات وأجذاع النخيل بالخارج.. وتقذف بحبيباتها سيلاً ترابياً بدمي وسد الضوء معتماً الرؤية أمام مقاود العربات الفارهة.

في الداخل كنت تصرخ في صمت
تزأر في صمت وتعوي في صمت وتهذي في صمت.
كنت مريضا وكنت طبيبتك وكانت شهادتي الوحيدة التي سوف تنقذ جسدك من أن يجثم عدة سنوات خلف القضبان.

لكنك رفضتني كطبيبة ولفظتني كحبيبة خوفاً من انحدار السيف فوق رقبتي لكي أظل أنا.. دوما أنا.. لذا حاولت الصراخ..
حاولت مد يديك لكي تعبد انسدال الغطاء الأسود فوق وجهي..
حاولت وتصدعت وقاومت وتشرخت.. هويت مغشياً عليك..
وكنت لا أزال ممدة على السرير..
عارية القدمين والكتفين سحبت الرداء ببطء أغطي بقية جسدي وجزءاً من ذوائبي الثكلى هذا كل ما فعلته وعاودت الحلم.
- لايمكن عودتك للعمل.
- …
- صدقيني لا أستطيع
- …
(يسكني وجهك المطل من خلف القضبان في انتظار المحاكمة)
- أعلم أنك من أكفأ الأطباء لدي وأكثرهم حضوراً ويقظة لكن هناك أمراً بإعفائك من العمل سببه أبوك..
- ..
(يرهقني الحلم، وسماء فينيسيا الحالمة، وامتداد الجرح وأغنية الجندول، وتلاصق وجهينا في ذلك المساء المضرج بحمرة غروية، حيث تناثرت النجوم في إطلالة فضية في انتظار القمر ومغني الجندول يهزج بأغنية فيتماوج ضوء الشموع بصدى صوته السابح فوق الماء).
- هو خطؤك كيف لطبيبة قديرة مثلك عريقة مثلك شامخة مثلك ابنة فلان مثلك تتعاطف مع مريض ابن فلان سيئ السمعة مثله؟
- …
(كنت وحدك من استطاع احتوائي بعد أن طاردتني مختلف الوجوه كنت طبيبك أمامهم).
- كما أن شهادتك في المحكمة لن تقبل بناء على ما سوف نشهد به ضد هذا المرض
- ….
(آه .. يا وجعي.. كيف استطاعوا مقاضاتي بهذه السرعة وكيف استطاعوا هزيمتي بهذه الحدة، وأنا ذات الشهادات وذات المنصب وذات الكفاءة وذات النجاحات المتوالية؟).
سقطت بعض الأشياء في لحظة معتمة بالحزن، خلعت رداء الطبيبة الأبيض وأحكمت العباءة فوق جسدي، وأسدلت الغطاء على وجهي وأنا أغادر أروقة المستشفى بحثاً عن تلك العربة الفارهة التي تنتظرني في الخارج.

لقد سقطت كل الأشياء.. حينما تناولت الخادمة الفلبينية حقيبة يدي وفتح لي السائق الهندي باب العربة وهو يناولها بعضاً من أوراقي وأسورتي الماسية التي التقطها قبل أن تهبط على الأرض تحت قدمي..

ولم تكتمل الحكاية..
في الرابع والعشرين من الشهر.
صرخ القاضي بالإدانة..
لم أكن أستطيع تبرئتك لم تقبل شهادتي كانت ضعيفة، كنت طبيبة سابقة وامرأة وكان القاضي رجلاً..
وكان أبي رجلاً..
وأمي أصبحت رجلاً..
إخوتي رجال…
وكان الجيران حتى الإناث منهم رجالاً
ولم تكتمل الحكاية بعد..
كنت في سجنك الرابع
وكنت حبلى في شهري الرابع
بعد أن امتلك جسدي رجل آخر
كنت امرأته.
وكان رجلي.
وكنت قد تحولت إلى ربة بيت بعد أن كنت طبيبة
وكان زوجي لم يزل يعمل قاضياً: وكان جلادك وكنت سجينة.

وبهذه اكتملت الحكاية وارهاصة الحلم في "فينيسيا" تمطرني كل مساء فأود الموت مرتين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى