بشرى الفاضل - حمامة فرت من قسورة..

كانت هناك مدينة اسمها مساندة، وكانت بهية، وكانت تستقبل الصيف بعد الشتاء الذي هو كبطون المبردات الطفيلية ذات المجمدات والدهاليز.
كان صيفاً من المرح المغموس في الذهب المشرق. خرجت بانبلاجه الشابات الرشيقات في مهرجانات ملونة. خرجن من كل فج لكأن ملابس الشتاء السميكة، كانت حجاباً، تخفي في تلافيفه ذلك الجمال وخرج الشاعر منّي خروج مصطفى السعيد ذات سبت، يشمشم عبيرهن والنسمات. ولكني كنت مكتئباً وحزيناً مشغولاً عن الكرنفالات والحسن بالبلدوزر الخباز العاجن، الذي يرمي أثر كل هزة في فرنه البشع، بيد أو رجل أو )من خلاف مسلوخة(.
وكنت من فرط حزني لا أفتح كوات استنشاق الجمال بمركزي الرئيس.
صرت أمرر طوابير الجميلات، وقوافل الضحكات والأغنيات ودنانير الشمس وألعاب الكرة – الريشة. والأطفال واليافعين من آكلي الآيس كريم الشبعين الممراحين. كتمريرك مشاهد بانوراما في شريط سينمائي بدارك لأن من تحب قربك.
هكذا كنت أنظر ولكنني لا أرى. تجري الغزالة قرب شبكيتي فأراها غزلاً ونسيجاً من كوارث في إضراب عن الإنسان.
وانحدرت من شباكي الأيمن دمعة. ليست للبكاء ولكن مخازن الدموع انحطمت حوابسها فأصبحت بلا كوابح. واتسعت عيناي من فرط شدة المواجع وصار صادر دمعي يفوق الوارد بما لا يقاس. وكان يخرج في كل حين.
حتى خرج أخيراً خفافاً و هكذا لا أرى. ودندنت بلحن، أقسم أن مغنيه الأصيل لو هطل عليّ في ساحتي تلك، في ساعتي تلك وأبصرني مستمعاً، لأنكر أنه صاحبه من كثرة غياب الغناء البديع عن ذاكرتنا وعن المغنين، كأن ساعة الأغاني قامت ففر كل مطرب عن لحنه وأنكره؛ وأقبل على الصحراء يدوزنها.. وسرى نمل في جسدي بغتة ثم رأيتني أسمّر عيني في بوابة المترو الزجاجية حيث انفلتت حمامة رشيقة تلبس ثوبا أبيض وهي سمراء وسط البيض ودقيقة التقاطيع صبية، في الثامنة عشرة ربما.
وحدثت نفسي أنها سودانية من طالبات هذه المدينة النائية العامرة
وباغتتني:
- إزي الحال.
وعندما طال صمتي بفعل الدهشة بدلت لسانها وقالت:
- سبيك أنقلش؟
قلت:
- سوداني.
فربعت نحوي كراقصة من فاتنات دار شايق، حمامة من البشر والتهاليل ورأيتني أفرح بفرحها وأدفع عنا أهل الفضول الذين تزاحموا حول ثوبها الطاغي وخطواتها الساخنة. وسمعت أصوات فضولهم المفصح عنه بالاستفسارات واليقين الذاتي سمعت من يقول:
- انديا.
- لا ليست من الهند. هذه من بلاد كوش.بلادي. افسحوا !
كانوا يتصايحون. وتهتف بعض متوسطات العمر:
- ما أجملها!
وكنت أصيح بطرب وحبور وإيقاع:
- أفسحوا. أفسحوا.
وجريت أمام غزالتي مثل ثور، وشعرت من شدة زهوي بجمال من بلادي بأنني دراجة بخارية تزعق أمام موكب لزعيم مقدام محبوب.
- أفسحوا.. أفسحوا.. بي با.. بي با.
وسألتها:
- طالبة؟
- نعم.
- في أي معهد؟
- أدرس بأم درمان.
جئت إذن في زيارة لأهل لك بالسفارة؟
- لا.
- سائحة؟
- لا بل جئت للتو من أم درمان كنت هناك قبل دقيقة.
...
!-
...
- صدقني ألا تصدق؟ كنت بالمحطة الوسطى قبل خروجي من هذا السلم وأشارت لمدخل المترو كنت انتظر بعد الدرس كالآلاف غيري عسى أن أرجع انتظرنا الحافلات، المركبات، العربات، الشاحنات وكان الزحام والحر وكان القيظ والمعاكسات الغليظة حيث يلتفت البعض ليس فقط بإدارة الرأس نحوك ولكن بإدارة التاريخ الشخصي أيضاً بكل رغباته وشهوانيته وكانت المركبة إذ تقبل تتلاطم أمواجنا ويقذفون بنا كالفلين الطافي إلى شاطئ المحطة في انتظار مركبة وعذاب آخرين وكانت الطالبات من أمثالي في بكاء صامت ووجوم.
وفجأة خطرت ببالي فكرة وأنا اقترب من مركبة إذ هتفت وأنا أمني الذات بمواصلات كالبرق ،ككن، تجري من تحتها الأمطار وصحت:
- يا الغرقان!!
فابتلعتني الأرض وجذبتني إلى أعماقها كما تبتلع الأمواج غريقاً. ثم شعرت بيد عملاقة تنتشلني. لا بد أنها كانت يد جدي الغرقان. ثم وجدت نفسي في قطار كهربائي سريع به غرباء صامتين ثم توقف القطار في منطقة حجارتها من المرمر فخرجت وصعدت بهذا السلم الكهربائي.
..........
ألا تصدق؟!.
............
دار خاطري إثر سماعي كلامها الغريب تجاه حادثة من ربق الصبا، حين كنت بالمحطة إياها بأم درمان. شح وقود المدينة وقتها. فانحدرت السيول تجاه محطة الجميع، كعرمرم في طواف، وانتظروا كل يشكل حيرته على ما اعتاد عليه، من وقوف أو سعي وتأفف أو ثرثرة وكانت من معي تنتمي لقبيلة النساء، الصامتة، علما بأن سكوتها في بيتها ليس من ذهب ولكنها تسكت في المحطة الجامعة لأنها فيما تقول جامعة.
وكنت أغيظها.
- تخافين؟
وكانت تقول:
- الأوغاد تسللوا وسط الشعب.
- أليسوا أنفسهم من أبناء الشعب؟
- لا بل من أبناء الشغب. يمطروننا ويسدون علينا أبواب المركبات العامة
كالأفيال وهم نحيفون مع ذلك فتأمل!
قلت:
- عليك بالابتعاد عنهم.
قالت:
- كيف وفي كل عربة من بنات اليابان بابان؟
قلت:
- بالدخول من خانات السائقين.
قالت:
- وإن وجدت سائقاً من شاكلتهم؟
قلت:
- فابتعدي إذن عن الأسواق.
قالت:
- يا لك من رجعي!
ثم غمرت تخلفي بنظرة أحبذها حتى تقدم ذلك التخلف المقيم الذي يسكنني منذ طفولتي.
وانتظرنا في تلك المنطقة المكتظة الشاحبة ذات التوتر. وسحابات التأوه ورعود المظاهرات الغاضبة، جاءت شاحنة مواد بترولية فأوشك المنتظرون أن ينصبوا في جوفها الفنطاز. لكنهم لبثوا في مكانهم يسبون سائقها ويسبونها وهي تمر وسط جموعهم، وليست لها قيمة ركوبية. لو كانت هناك كلاب نباتية، فإن هذه الشاحنة ذات الفنطاز وسط هؤلاء المنتظرين تبدو كالعظم الطازج وسط الكلاب النباتية.
أيقظتني الحمامة التي فرت من قسورة. تلك الفاتنة التي انفلتت للتو من المترو فانتبهت لوجودها. تعجبني أسئلتها المعاتبة.
- ألا تصدق؟! لقد كنت قبل دقيقة بأم درمان
وأدخلت يدها خلف ثوبها الناصع في صدرها الرصين وأخرجت صحيفة.
- خذ! جريدة اليوم! ألا تصدقني؟
- لا. صدقت. صدقت. أصدقك دون شواهد.صدقت.
....................
....................
....................
- أنت الصِّدِّيق!



د. بشرى الفاضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى