محمد بشكار - عَاطِلٌ عنِ الأملْ..!

عبارة " أفق الإنتظار" التي ابتكرها النقد الأدبي وتفيد أن يكون الكاتب عند حسن ظنِّ ذائقة القارىء مُحقِّقاً مبتغاه ومراده من النص، انتقلت تمشي ولو عرجاء لتصلح إسقاطا ملغوما في ميادين أخرى لا ينقصها إلا ترخيص السلاح لتصبح ميدان حرب ضروس، فصار يستعمل هذا الأفق المنتظر السياسيُّ والاقتصاديُّ ورجل التعليم والطبيبُ ومُنشِّط برامج الصباح في المذياع، وأكاد أسمع همسه مكْظوماً في أعين مُوزِّع الخبز في حيِّنا ولو لم ينطقها فالقلوب عند بعضها تنتظر وعدها..!

ما من حديث يخلو من أفق الإنتظار حتى لتحْسبَ هذا الحديث الأشبه بأنين إنما صادرٌ من غرف المستعجلات وأن أنفاس المواطنين في البلد تعاني من احتباس في الحلقوم وما عادت قادرة على الإنتظار ولو لدقيقة صمتٍ نقِفُها عادةً ترحُّماً على روح ميتة، ولكم تجد عبارة "أفق الإنتظار" بِجَرْسها الموسيقي صدى طيِّباً في نفس كل من يسمعها لكأنما تفتح فمك بالغناء في بئر سحيقة، وكيف لا وما من أحد في البلد إلا وينتظر شيئاً يريد أن يسُدَّ به خَصاصاً يشلُّ حياته، فالأعزب الذي يُحبها ويريدها زوجةً بموافقة الوالدين وحتى المجلس البلدي الذي يتبرَّع أحيانا لسكان المدينة القروية بحفلات إعذار وزواج جماعي، ما عاد يُحب أحداً بعد أن انتظر طويلا ليصير عاطلا ليس فقط عن العمل بل أيضاً عن الأمل، ولكن تُعجبه كثيراً كذبة " أفق الإنتظار" يحشوها في جعبة سمعه كلما صادفها فيكون لحلاوة عبارتها مفعول الأفيون، فلا أتعجَّب حين أراه شارداً في الشارع وقد انضم لآخر فيلقٍ مجنون..!

عقليتنا لمن مازال يحتفظ بعقلٍ، تنتعش بكل المراجع فإمَّا خرافية بعد أن تلاعب بالدين فقهاء رُقاةٌ حُواةٌ ومشعوذون، أو إيديولوجية رومانسية بعد أن استوعب بعض السياسيين دون أن يدرسوا سلوك النمل والنحل أنَّ ما تبقَّى من الشعب المغربي إلا قليلٌ هو حالِمٌ بالطَّبع والتَّطبُّع، وتلك تجارة غير كاسدة تُكسِبكَ نظير بيع جرعات الوهم والسراب كرسياً في البرلمان أو الوزارة، مثل هذه العقلية التي تُصدِّق نفس الكذبة ولو تكررت على المسامع كل يوم وستظل تُصدِّقها لسنوات وعقود حتى تراها شاخِصةً على صفحة القمر، كيف لمن جعلها تنتظر أن لا يزيد في المدة أمداً بعيدا ويجعلها تنتظر أكثر وأكثر دون حاجة إلى أن يربط الجَزَرة بأفقٍ يقينا إذا لم تُجن هذه العقلية تنتحر..!

يضيقُ الأفق في بلدي بالمنتظرين ليصبح سقفاً وطيئاً فلا أحد يستطيع رفْعَ الرأس تحته ومن تجرَّأ وشمخ يأتيه من المُتسلِّطين على الأرض عقابٌ يعزونه تَنصُّلاً من المسؤولية للسماء..!

فالذي ينتظر أجْره في آخر الشَّهر يصْرفه لِهزالته التي لا تُجاري غلاء المعيشة في أول الشهر وعِوض أن يَسُدَّ الرمق يذوق كادحاً رمَقَهُ الأخير..!

والذي ينتظر قصيدة يكتبها هديةً لحبيبته حين جاءته القصيدة تخلفت الحبيبة عن موعدهما الأول، وما زال إلى اليوم يمحو أحْرُفها التي تركت حبرا أسود في قلبه..!

والذي ابتُلي بمرضٍ عُضال لا ينتظر.. حين مضى ينُوء بألمه لأكبر مستشفى حكومي في المدينة، خَطُّوا له موعدا للسنة القادمة على ورقة صفراء زادتْ مُحيَّاهُ شحوبا فماتَ ومازال بجوار جثته ينتظر..!

والذي كلما وقف مُنتظرا في بلد البطء حافلة مهترئة تُقِلُّه إلى عمله، مدَّ بَدَلَ رجله يده وصنع زورقاً ورقياً عسى يحمله الطوفان البشري هو يصل مقذوفاً إلى حيث لا يريد وهُمْ بقمة الأمل يعتصمون..!

نعيش مُنتظرين ومن يُصِبْه اليأس أوَّلاً ينسحب من قاعة الإنتظار ليتقدَّم مكانه من كان خلْفه وهكذا دواهِيكَ لآخر الطابور الذي يمتد في طوله إلى نهاية العمر، المفروض أن ننتظر فثمة آلة إشهار سيارة تصُبُّ في آذاننا 24/24 ساعة سيلاً من المشاريع والمُخططات الحكومية والزيادة المُرتقبة من مجاري أو قنوات مشهود للسانها بالمصداقية ومن وصفها بالتَّشدُّقية فقد أكل شدق الجمل، المفروض أن نكون متفهِّمين وننتظر ما لا يتحقق حتى نصبح أغبياء غير فاهمين، ربما الخلل يكمن في أنهم زوجوا عقولنا مبكرا وهي ما زالت قاصرة بأفكار حضارية أكبر من القدرة الإستيعابية لأذهاننا والسبب أنَّ أغلبها ناقص دهون بسبب ضعف القدرة الشرائية فالآلة دون زيت لا تحرِّكُها الأحصنة..!


(افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليومه الخميس30 ماي 2019)


* Mohamed Bachkar

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى