فنون بصرية محمود شاهين - التصوير الضوئي..

هل هو فن أم حرفة

بين "التصوير الصحفي" و"التصوير الفني" فروق، وبوصول "الرسم" إلى طريق مسدود أصبحت "الصورة الضوئية" تعادل ألف كلمة!

على الرغم من كل ما حققه فن التصوير الضوئي من إنجازات على صعيد اللغة التعبيرية الفنية الخالصة، بحيث أصبح مثله مثل أي لغة ابتكارية أخرى كالفن التشكيلي وغيره، مازال هناك من يرفع التساؤل القديم - الجديد: هل التصوير الضوئي فن أم حرفة؟! قد يبدو هذا التساؤل مسوغاً لو ظل هذا الفن أسير الفن التطبيقي والعدسة - الآلة أو المخبر الكيميائي، أو لو ظل في حدود إمكاناته التقنوية المحدودة والضيقة، لكن بعد أن تمكن من التمدد على قسم كبير من حقول التشكيل، خاصة فن الحفر والجرافيك والإعلان والتصوير بالألوان المختلفة، آخذاً منه ومعطيه في آن معا، وبعد أن تمكن رواده المهرة المسكونون بهاجس الكشف، من فتح آفاق جديدة جميلة وكثيرة، في عالمه الذي ظل إلى حين، أسير محدودية الحرفة، يمكننا التأكيد - ونحن من المتابعين الدائمين لإنجازات هذا الفن الجديدة محلياً وعربياً وعالمياً - أن فن التصوير الضوئي الحديث، خرق مفهوم "الحرفة" الضيق، وتجاوز محدودية العدسة - الآلة، ليدخل الرحاب الواسعة للإبداع والبحث والتجريب والتعبير الحر، عن موضوعات وقضايا عميقة وشاملة، تماماً كالشعر والرسم والموسيقى وغيرها من لغات التعبير!!.

بل لقد أصبح للتصوير الضوئي مدارس ومعاهد تدرس تقنياته المختلفة، خاصة بعد استخدام معطياته وكشوفاته الجديدة من قبل فن الإعلان وفنون الكتاب، كما أصبحت له مجالاته الاختصاصية التي تلاحق آخر تطوراته وكشوفاته، سواء تلك التي تحققها العدسة، أو تلك التي تتم ولادتها كيميائياً في المختبرات.

جماليات التكنولوجيا

والمتابع المختص أو المتذوق للتصوير الضوئي، لا بد أن تدهشه مثل هذه الكشوفات المواكبة لأحدث ما تنتجه التكنولوجيا المعاصرة في هذا المجال، سواء من الناحية الجمالية التعبيرية، أو من الناحية التقنية، حتى أن فن التصوير الضوئي، بدأ يزاحم الفن التشكيلي على جملة من القضايا والمهام الفنية والتعبيرية الدقيقة، بل هناك من يؤكد، أن دوره ازداد تألقاً وأهمية، بعد أن وصل "الرسم" إلى طريق مسدود في عصرنا الحالي!!.

مع هذا كله، يحق للبعض أن يتساءل: هل التصوير الضوئي فن أم حرفة؟ في ذلك تتعدد الآراء: هناك من يعتقد أن التصوير الضوئي ليس بفن، لأنه يعتمد على المصادفة والتقدم التكنولوجي في الكيمياء، وهناك من يعتبره فناً، بل وريث الرسم الذي وصل على حد تعبيرهم إلى سد مغلق واستنفد أغراضه منذ وقت طويل!!.

وهنا ينظر البعض إلى التصوير من منظارين:

أولا: التصوير الصحفي، أي اللقطة السريعة التي تسرق من سويعات الحياة في لحظة مرورها أمام عدسة الكاميرا مصادفة. هذه النوعية من الصور، هي التي نجدها في الصحف والمجلات وحتى في ألبوم العائلة.

ثانيا: اللقطة المعدة من قبل المصور، خاصة في الاستوديو والتي يصبح فيها المصور مثل المهندس المعماري الذي يخطط بيتاً، عليه أن يدرس تكوين موضوعه مسبقاً، ونوع الإضاءة المطلوبة، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة في صورته. وأفضل تعريف لهذا الأسلوب ما قاله أحدهم: التصوير هو عمل الصورة، وليس أخذها، أي إعداد الصورة وليس مجرد ملاحظتها والتقاطها بسرعة. هنا لا يمكن أن يكون المصور مختفياً، هو موجود في كل مكان، ويفرض وجوده على كل جزئيات الصورة.

في هذا المعنى، يقول المصور الأمريكي "ريتشارد أفيدون": "المشكلة أنني لا أحب الاعتداء على خصوصيات الآخرين عندما أخرج إلى الشارع، هذا عمل عدواني، أحب أن أسيطر على ما أصوره، وأشعر أنني لا أستطيع السيطرة على ساحة "تايمز" في نيويورك".

ويقول "هيلمت نيوتن" مصور عارضات الأزياء والأثرياء والمشاهير: "يعتقد بعض أصدقائي من المصورين أنهم فنانون، أنا أحترم رأيهم، غير أني رفضت دائما تسمية نفسي كذلك، الذي أفعله لا يسمى فناً، إنه تعبير شخصي. أذكر يوماً، كنت وبعض أصدقائي الكثيرين نقيم مسابقة لتصوير "البولورويد" أعطيت آلة تصويري إلى امرأة عمياء، ساعدتها قليلاً بقولي أن توجه الكاميرا إلى الجهة اليسرى، كانت صورتها أكثر الصور إثارة للاهتمام. يمكن لكل إنسان الضغط على مفتاح الكاميرا.. هذا هو سحر التصوير".

جمود الرسم وحيوية التصوير

ويرى "كارل لاجرفايلد" المصور والمصمم المعروف في دنيا الأزياء، أن الرسم وصل إلى سد مغلق، وأن التصوير هو أفضل الأشكال الفنية للتعبير عن عصرنا، وأن الرسم كشكل فني قد يصل إلى حالة جمود مثل الأوبرا، لأن الأشياء الأساسية قد قدمت، وما يتوجب علينا عمله هو المحافظة على أن يبقى التصوير حياً متحركاً ولا يصل إلى حالة الجمود التي وصل إليها الرسم!! عكس ذلك يرى المصور "إبراهيم الذهلي" فالصورة الضوئية في رأيه فن مثلها مثل اللوحة التشكيلية، لكن التشكيلي يملك حرية مطلقة في استخدام ريشته وألوانه، أما المصور الضوئي، فيرسم بكاميرا وضمن تقنيات قد لا تتيح له حرية الحركة التي تتيحها الألوان للفنان. وضمن هذا السياق، يرى البعض أن للصورة الفنية قيمة عالية من الصدق، فهي ترصد الحركات التلقائية، والقيم الجمالية المحيطة بنا، حيث تتوحد الكاميرا بلحظة عناق إبداعي ما بين الحس الفطري والموهبة الفنية، فتخرج عندها اللقطة المهمة التي تحتاج إلى إعداد ومعاناة، وأحياناً إلى تفرغ الفنان وترحاله، لكن برفقة الكاميرا التي هي الصديق الذي يداعب حواس الفنان، وهي الفرشاة التي يشكل فيها لوحاته، وهي الحبيبة التي تؤنسه وتقرأ أفكاره، فبواسطة الكاميرا يتعلم الفنان المصور أشياء كثيرة مثل الصبر وقراءة معاني الجمال في الأشياء حوله. من جانب آخر، يرى البعض أنه بالإمكان تزييف الصورة، سواء من حيث التقنية أو المضمون فكثير من الصور التي نشرت وأحدثت بلبلة، تبين في آخر الأمر، أنها صور مزيفة. فعلى الرغم من خطورة الصورة وقدرة تأثيرها في الناس، إلا أن مجتمعاتنا العربية عموماً، لم تدرك خطورتها، ومازالت تتعامل مع التصوير باستخفاف واضح، وأفضل دليل على ذلك، ضآلة المبالغ التي تسعر بها الصورة، علما بأن صناعة الصورة أصبحت مكلفة هذه الأيام. كما أن التصوير الضوئي لا يحظى حتى الآن بالاهتمام الكافي، واهتمام الناس عندنا بالصورة لا يعادله اهتمام مماثل بالمصور صاحب ومحقق الصورة، فهو لا يزال مهملا ومضطهدا ويلزمة الكثير من الدعم المعنوي والمادي والحماية، فالمصور يستنفد قواه وأحاسيسه في الصورة، ومن حقة أن يلقى الاهتمام!!.

شاهد عصر

والحقيقة فقد دخل "التصوير الضوئي" ميادين الحياة المعاصرة بمختلف أوجهها، وأصبح بينه وبينها ترابط عضوي من العسير الاستغناء عنه أو الاستعاضة عنه ببديل. فلقد أصبح التصوير الضوئي إحدى أهم وسائل الإيضاح التعليمية في المدارس والجامعات، ودخل كعنصر أساسي في أبحاث علم الفضاء ودراسة أعماق المحيطات والجيوغرافيا.. إلى غير ذلك من مجالات العلم التخصصية، ورغم هذا وذاك، استطاع هذا الفن أن يكون شاهد عصر أمينا من خلال توثيقه لحضارات مختلفة المكان والزمان، فحفظ الطرز المعمارية والزخرفية لمدن دمرتها الحروب والزلازل، وأعيد بناؤها على أساس الصورة، كما سجل إبداعات العلماء والفنانين وصورهم في مناسبات عدة. يضاف إلى ذلك، أن للتصوير الضوئي خاصية أكثر تمايزاً وهي دخوله مجال "اللوحة الضوئية" حيث انتشرت معارضها انتشاراً واسعاً في سورية وفي الدول العربية الأخرى والعالم، وأصبح لها روادها المهتمون بها، بهذا أضحى التصوير الضوئي فناً قائماً بذاته، نستطيع أن نطلق عليه تعبير "الرسم بالكاميرا" وهذا حتم عليه تطوير أدوات تنفيذه، خاصة الكاميرا وملحقاتها المختلفة، والدليل على ذلك، تنافس شركات صناعة الكاميرات ومواد التصوير الأخرى بحيث تتمكن من تلبية حاجة وتفكير الفنان الضوئي.

من الحرفة إلى الفن

لقد بدأت تترسخ في بلداننا العربية جملة من التقاليد الجميلة والجليلة في حياتنا الثقافية، ومن بينها، ظاهرة الاهتمام بالصورة الضوئية التي ظلت إلى حين، أسيرة الحرفة والفن التطبيقي، لكنها أخذت الآن تتدرج بالصعود إلى رحاب الفن الخلاق الجميل والمبدع. والمصورون الضوئيون، هؤلاء الهواة المسكونون بهاجس البحث، والكشف والإضافة، أصبحت لهم نواد ومعارض دورية ومجلات تخصصية. إن جملة هذه المظاهر الجديدة في حياتنا الثقافية العربية، بدأت تتحول إلى تقاليد تموج - رغم الحالة غير المستقرة لقوة حضورها الكمي والنوعي من بلد لآخر - بوعود طيبة وكثيرة لمستقبل أفضل لهذا الفن وللمشتغلين الموهوبين الجادين في مجالاته، خاصة أن أهميته كفن، هي الآن في تصاعد مستمر في حياتنا اليومية. فالصورة الضوئية المتقنة تنفيذاً، والمتفردة حدثاً وتعبيراً، أصبحت اليوم مادة أساسية مطلوبة بإلحاح لأكثر من مجال كالصحافة والتشكيل والسينما والتلفزيون، إضافة إلى أن المتميز والمتكامل تقنية وتعبيراً منها، يشكل بحد ذاته، عملاً إبداعياً لا يقل قيمة وأهمية عن أي عمل إبداعي آخر، بل قد لا نكون مغالين إذا قلنا مع القائلين إن الصورة الضوئية اليوم، هي أهم لغة تعبيرية في عصرنا، وذلك لما لها من قوة تأثير مباشر، فهي تفرض نفسها على الجميع، سواء من خلال الصحف والمجلات والمعارض، أو من خلال التلفزيون والسينما وباقي وسائل الاتصال المرئية، وقد صدق من قال: إن الصورة تحمل ألف كلمة!!


محمود شاهين
مجلة العربي يناير 1994

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى