عبد الرزّاق بوتمزّار - المْرحوم وأنا وفاكهة التّينْ الشّوكي وأخرى..

ذات يوم، ذات صيف، في قرية أيت تگرّامت، حدَث أن التقيتُ عبد اللطيف، جاري وعديقي ذات زمن، في المدشر، واتفقنا على أن نُعرّگها تيناً شوكيا. كان يوماً خاصا لكلينا. استرجعنا طوال ساعات منه، بعد فراق سنوات مديدات، ذكريات بعيدات، لذيذات ومُمتعات، مثل الأيام التي انصرمتْ. سنقطفه طازجا. نُبرّده في ماء العين، الجاري، تحت كرْمات "تاخوبّيتْ"، المشاع أيضا، ونفترس حبّاته، الشّهيات مثل نهود الحبيبات الأُولَيات. نصطاده بأيدينا العاريات أحيانا.

كنّا غير بعيد عن منزلهم (ومنزلنا، رغم أن الأخير مغلق، منذ ذلك الزمن ونقيم في آخر حين كنّا نزور القرية في الصيف). قصَد بيتهم وانتظرتُ، قرب الشّاريجْ، عودته وقد جلب العُدّة: القصبة، لاصطياد الحبّات المتمنّعات في الأعالي والسطل لوضعها فيه، مع أخواتها، بعد تنظيفها والتخلّص من شوكها المفزع؛ وما أدراك ما شوكُ التّينْ الشّوكي!

كان الخير وفيرا رغم أنْ لم يكن في الدوار أشجار كثيرات من الصبار. (الدوار كله صَبّار ففيمَ يحتاج إلى شجر صُبّار!؟) بهذا الجواب أقنعت، في نهاية النطاف، نفسي، الأمّارة بالسؤال، عن سبب ندرة الصبار في المدشر، وحاولت إقناع آخرين. القليلون الذين بحتُ لهم بتفسيري، وكان عديقي عبد اللطيف، الذي رحل عن القرية وعن دنيانا لاحقا، أحدَهم، اكتفوا بالتبسّم أو الضحك. كان فهمي للأمر مفاجئا لأغلبهم. بعضهم هزّوا رؤوسهم اعتراضا، لكنْ دون كلام. ما هذا التفسير الغريب؟ استنكرت عيون البعض. في الحقيقة، لم يكونوا يجرؤون كثيرا على الاعتراض على ما يقول أولاد السّي بوجمعة، وكنتُ أحدهم. ربّما لذلك فقط سكتوا عن الرد علي. في كل الأحوال، أجزم بأنهم كانوا يعرفون أني لا أفقه في أمور الأشجار الكثير. لكنْ لم أفهم يوما لماذا يمتنعون عن مجادلتي في ادّعاءاتي.

لا علينا، ما يهمّكم الآن أن تعرفوا حكايتنا مع التّين الشّوكي، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت، أليس كذلك؟ أفهم تلهفكم إلى معرفة هذه القصّة والانتقال إلى أمور أخرى. أعرف، أنتم مشغولون كثيرا؛ لا وقتَ لديكم. لكنْ كان لنا، المرحوم وأنا، وقتٌ طويل وممتدّ، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت. وكان للمرحوم قصص كثيرة لا تنتهي. من هذه القصص ما عاصرتُ ومنها ما بلغني، في فترات متقطعة ومن أشخاص ومعارف مختلفين. أتذكر أنه جعلَنا، يوما، نرفع جسدَ الواحد منا برؤوس أصابعنا فقط! يتمدّد أحدُنا أرضا، بطلب منه، فيتمتم بكلمات لم نفلح في تلقّف أي واحدة منها. ثم يعطينا، برأسه، إشارة لرفع الجسد المسجّى. فعلْنا ذلك في تَلعرستْ، ذلك المكان الغامض والأسطوري، مثل قاطنه الوحيد، والده (ثم أخيه الأكبر، لاحقا، بعد وفاة بّا حْمّو، والدهم). كان بيتا غامضا ومظلما على الدوام، حتى بالنهار. ينتهي ممره الطويل، الذي قامت فوقه غرفة طويلة غامضة، بحقل صغير دائم الخضرة، نعناع وحبق وأيضا برسيم وفْصّة، تحُفّه كرْمات وَلودات ومتمنّعات. جرّبْنا طقسه ذاك في ممرّ الحديقة (شرح تقريبي لـ"تَلعرستْ" هذه) المظلم والمخيف. اخترنا أقرب نقطة منه إلى الباب، بحيث نستفيد من أكبر قدْر ممكن من نور أشعة الشمس لرؤية بعضنا البعض.

لم ندر كيف (وحتى اللحظة لا أعرف، وقد مرّت على وفاة المرحوم سنوات طويلات) لكنْ كانت الحركة تنجح في كل مرة. وحتى عندما اخترنا أسمَنَنا (وكان ابنَ أخي الأكبر، غير الشقيق) أفلحْنا، بعد تعويذته السحرية، في رفع الجسد ونحن نمدّ بالكاد أصابعنا تحته لرفعه. هل كانت أصابعنا، الفتية، ونحن أقل من خمسة فتيان (إن أسعفتني الذاكرة في تذكر عددنا يومذاك) قادرة على رفع الجسد دون حتى حاجة إلى ترديده، في خفوت محيّر، بتلك الكلمات، الغامضة مثل ذلك المكان، بينما لم تكن تعويذته المزعومة سوى خدعة منه لعقولنا الصغيرة؟ مهْما يكن، لا أظن أن أصابع أربعة أطفال دون العاشرة قادرة على رفع جثة شخص مثل "هْلوبّانْ" (وكان هذا اللقبَ الذي نُطلق على أسمَنِنا، ابنِ أخي الأكبر، غير الشقيق).

حكاية أخرى قفزت إلى ذاكرتي للتو (آه من هذه الذاكرة اللعينة، حين تحفر فيها بحثا عن ذكرى استعصتْ ونأتْ وإن لم تخطط للحديث عن حدث موغل قفز فجأة إلى سطحها، معلنا نفسه في تحدّ وصفاقة). ووقع له ذلك وهو، أيضا، برفقة ابن أخي الأكبر غير الشقيق.

كانا يصطادان طيورا. مسلّحين بمقلاعَي الجّانكة، يرديان ما صادفا، من الگريگرْ على الخصوص. يغصبان صغارها أيضا. يختاران أعشاشا فيها فراخ فيتسلق أحدهما ويسطو على فراخها ويرسلها إلى الأسفل، نحو شريكه. يتلقفها الأخير ويرميها في قميص أحدهما بعدما حوّلاه إلى ما يشبه وعاء يلمّ غلتهما مما أصابا بالمقلاعين وما التقطا من الفراخ، التي كانت قد كبرت بما يكفي وصارت قادرة على التحليق خارج العشّ أو تكاد، لولا ظهورهما وتغيير قدرها. كل هذه الفراخ المسكينة، بدل أن تطير، أخيرا، بعيدا عن ذلك السجن الضيّق الذي ضمّها طويلا مع إخواتها، ستنتهي إلى بطنهما الآن. سيرتجلان "كانونْ" تحت شجرة ضليلة بعد أن يطوفا على كل الأعشاش المفرّخة وعلى أقاصي الأشجار حيث تحط تشكيلات مختلفة من طيور القرية والجوار. بعد أن يغتصبا ما استطاعا، سيوقدان النار في ذلك الكانونْ ويجلسا يلحسان، في نشوة وحشية بدائية، أصابعهما بعد كلّ فرخ يلتهمان.

لكنْ، في ذلك المساء -حكى لي معارفي من قاطني المدشر يوما- لن يُكتَب لجولتهما أن تنتهي بهما حول موقد النار، يمصّان أصابعهما بعد كلّ جاوج يبتلعان أو گريگرْ.. كان عشّا بعيدا للغاية. بناه ذلك الطائر الماكر في أبعد مكان يمكن أن يُنسج فيه عش على شجرة زيتون معمّرة، قرب الشاريج الثاني، في حدود القرية من الجهة الغربية. ولم يكونا ليختلفا كثيرا حول من يتولى مثل هذه الأعشاش، سيكون منطقيا أنْحفَهما؛ وابن أخي الأكبر، غير الشقيق، كان أسمَنَ من المرحوم؛ كان أسمَننا جميعا، نحن أترابه.
فصعد المرحوم الشجرة دون جدال.

بلغ آخر غصن فيها، الغصن المنشود، حيث العش، بمشقّة ظاهرة. وفي اللحظة التي مدّ يده لاغتصاب الفراخ انزلقت إحدى رجليه فاختلّ توازنه. نزل ثقله على الغصن الرفيع فانكسر. بسرعة بديهته العجيبة، استطاع عقله أن يتدارك الموقف. أسعفته يمناه في التعلق بأقرب غصب إلى الذي انكسر بما فيه وهوى نحو الأسفل. لكن الغصن انكسر أيضا. حينذاك فقط، استسلم لقدَره تماما. واستقبله الفراغ المهول. شعر بقلبه يكاد يتوقف وهو يرى إلى نفسه في سقوط حرّ نحو هاوية بعيدة.

ارتطم جسده بالأرض وخمَد، بالقرب من جثة ابن أخي الأكبر، غير الشقيق، الذي بُهت وشحب، على حين غرة، لون خدّيه المتورّدَين دوما، في العادة. همد الجسد بعد الارتطام القوي بالتربة الجافة. كانت ميتة محقّقة. جثا هْلوبّانْ عند رأس رفيقه وشرع يتضرّع: "عافاكْ، نُوض هيرْ هاد المْرّة.. شوفْ، من اليُوم أنا اللي نعُود نطلع للّعشاشْ، هيرْ نوض، عافاكْ.. عبد اللطيف، عبد اللطيفْ، وا هيرْ ما تموتشّ اليُومْ، عافاكْ".

وبعد أن قام عديقه عبد اللطيف، المْرحومْ، من ميتته المحقَّقة تلك، بعد ما يزيد عن ساعة، مشحونة ومرعبة ومعقّدة بالنسبة إلى رفيقه، صار كلّ أهل المدشر يحفظون كلمات هْلوبّان تلك حتى يومنا هذا. وحتى يومنا هذا، لم يستوعب هْلوبّانْ كيف قام صديقه من ميتته المحققة تلك بعد توسّله إليه وتضرّعه إليه أن يعيش هذه المرّة فقط ويموت بعد ذلك، لو شاء. وحتى يوم الناس هذا، كلما حدَث أن اجتمعنا بحضور هْلوبّان والمرحوم، يصرخ أخذ المحتمين، فجأة، مغالبا ضحكته، على الأقلّ حتى ينتهي من سرد صلاة الاستجداء، كما سمّوها في إحدى جلساتهم الليلية في ضوء قمر يطلّ وضّاء فوق بساط الحقول الممتدّة في سكينة: "عافاكْ، نُوض هيرْ هاد المْرّة.. شوفْ، من اليُوم أنا اللي نعُود نطلع للّعشاشْ، هيرْ نوض، عافاكْ.. عبد اللطيف، عبد اللطيفْ، وا هيرْ ما تموتشّ اليُومْ، عافاكْ".

تحضرني حكاية أخرى كانا بطليها أيضا. لكنّ هْلوبّان كان فيها الفاعلَ هذه المرّة؛ المرحوم كان بطلا مُعاكسا في هذه الحكاية التي انتهت بحضور سيارة إسعاف إلى المدشر لأول مرة في تاريخه، العريق. بسبب رْيال أبيض كادت حجارة هْلوبّان تقتل لالّة هْنية، زوجة الحاجّ التهامي، صاحب أكبر وأغنى جْنان في الدوار كله..

أفهم أن ما يهمّ بعضكم الآن أن يعرفوا حكايتنا مع التّين الشّوكي، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت، أليس كذلك؟ أفهم تلهف بعضكم إلى معرفة هذه القصّة والانتقال إلى أمور أخرى. أعرف، بعضكم مشغولون كثيرا، لا وقتَ لديهم. لكنْ كان لنا، المرحوم وأنا، وقتٌ طويل وممتدّ، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت. وكان للمرحوم قصص كثيرة لا تنتهي. وحين أنتهي من سرد هذه سأحكي لكم قصتنا، المْرحوم وأنا وفاكهة التّينْ الشّوكي، كونوا صبورين مثل الصّبار.

كانا قرب زيتونة بمحاذاة الجّامْع يقامران على رْيال للقْطعة. قرَط له هْلوبّان ما كان في جيبه من رْيالات، وكان آخرها ريال أبيض. ضَمسَ المْرحوم الكارطة وَعيّط هْلوبّان عَلى اللاّصْ... وجاءه بابْ. مدّ يده، مُنتشيا، نحو القطعة الكبيرة، لكنَ هيهات. كان شيطانُ المْرحوم قد أشار عليه بأن يخطف رياله وَ... يعيّطْ جْبد. وكذلك كان. لكنْ وهو يعدو بأقصى سرعته للنجاة بالريال، كان شيطانُ عديقه هْلوبّان قد أملى عليه أن يلقمه حجارة كرّانْدية اقتلع نصفها من جوف التربة في حوض الشجرة المبارَكة المعمّرة، قرب بئر جامْع الدوار.

استطاع المْرحوم أن يلفّ مثل سهم، يسارا، في آخر لحظة، أسفل شجرة التّوت العملاقة، عند رأس عرصة الحاجّ مْبارك. وبدل جسد المرحوم، النحيف والنزق، ظهر جسد لالّة هْنية، الشارد، النّية. وتنبّهَ الجسدُ الشارد على صوت خطر يُصفّر مقتربا. بل وصل فعلا وفاتَ أوانُ التفكير في الصوت وفي ردّة الفعل الملائمة. اختفى المْرحوم خلف الحائط الترابي العالي في اللحظة المناسَبة له، غير المناسَبة بتاتا لهذه المرأة النية، التي لا أحد يدري أي قدَر ساقها إلى الظهور في ذلك المكان بالضّبط، في تلك الدقيقة والثانية بالضّبط التي وصلت فيها الحجارة إلى هدفها/ لاهدفها. أصابت الحجارة تجويف أسفل صدرها لتسقط أرضا دون حراك.

شهدا المشهد المرعب في آن، لكنْ كلّ مِن زاوية. هْلوبّان لم يُميّز مَن كانت تلك القادمة المنحوسة التي تلقّت الضربة بدل غريمه، المخادع، الذي قرَط منه الرّيال حلالا تحت ظل الشجرة الزيتونة، قرب ماء الجّامع، لكنه أراد أن يستولي عليه بدون وجه حق. كل ما استطاع معرفته، من مكانه البعيد، أنها امرأة. اهتزّ قلبه بين ضلوعه وكاد نبضه يتوقف. لن تكون إلا واحدة من اثنتين، أمي أو عمتي. صرخت أعماقه. فقط كانونان يقعان بعد ذلك الخط، مسرح هذه الجريمة المرعبة، قيد الوقوع وفق معطيات جديدة لم تخطر ببالهما لحظة.

المرحوم كان أقرب إلى المشهد، بل حدث تحت عينيه إلا بأمتار معدودة. حين همّ بوضع يديه على ركبتيه ليسترجع أنفاسه التفتَ، تلقائيا، صوب ذلك الطيف الذي تفاداه بأعجوبة وهو يلفّ، في آخر ثانية، مراوغا كرّاندية أدرك، بحدسه اللايخيب، أنها صارت أقرب إليه من حبل الوريد. يا لَلمصيبة! قال في نفسه. ماذا تفعل هذه المسكينة، لالّة هْنيّة في هذه الحْرنة وفي تلك النقطة بالذات؟ لماذا وُجدت في وجهة تلك الحجارة اللعينة التي كانت لتشقّ رأسي، لا محالة، لولا نجاتي في آخر لحظة، ومن أجل ماذا؟ من أجل هذا الرّيال الأبيض التافه. خرّ جسد لالّة رقية أرضا وقد صرعته حجارة سُدّدت نحو ظهره أو رأسه هو. حدَث ذلك في مشهد زاد رُعبه ففكّر في أن يواصل عدوه نحو منزلهم، الذي لم يعد بعيدا كثيرا الآن. وعدا فعلا نحو الدوار، لكنْ وهو يصرخ بأعلى صوته، ودون تخطيط أو إرادة: "هْلوبّان قتْل لالّة هْنية! هْلوبّان قتْل لالّة هْنية! ضربْها بحجرة حْدا التّوتَة"..

وبسرعة، عجّت "الدُّورة" بالناس. لم يسألوا ماذا حدث لها أو مَن أو ما فعل بها ذلك ولا كيف. كانت لا تزال تتنفّس رغم كل شيء. زاد ذلك ارتباكَهم. ربّما لو كانت ماتت ما كان الموقف بكل هذا التعقيد. ما عساهم يفعلون بهذا الجسد المسجّى بلا دليل على أنه بعدُ حيّ غيرِ أنفاسها، المتقطعة والواهنة؟ ماذا حلّ بها أصلا؟ لا أحد كان يعرف جواب ذلك السؤال غير شخصين، وهما ليسا بين المتحلّقين حول لالّة هْنيّة.

لا أذكر كيف اتصلوا بالإسعاف أو كيف ذهبوا إليه ولا متى، لكنْ بعد ساعة أو يزيد قليلا، رأيت سيارة بحجم غير مألوف وبلون أحمر تخلّلته كلمة بالفرنسية لم أتبيّنها تتوقف تحت شجرة التوت العملاقة المثمرة، ثم تبتعد، بعد لحظة، في اتجاه لم أعرف مساره بعد أن صارت خارج حدود الدوار. ربّما أخذوها إلى مدينة بعيدة يسمونها مراكش. معرفتي بخريطة المكان لم تكن تتخطى حدود الدوار.

ومرّت أسابيع كثيرة قبل أن يستردّ السكان أنفاسهم بعد استرجاع لالّة هْنيّة بعض عافيتها. بعد ذلك فقط، بدأت تنجلي، شيئا فشيئا، خيوط الواقعة المُضحكة/ المبكية وعُرف بطلاها، الإشكاليان. ومن يكونان غيرَهما! المرحوم وهلوبّان. "من أجل ريال أبيض خُسِر في جولة قمار، كدتُ أردي لالاهُم هْنيّة تلك، تلك المصيبة، مكان غريمي الغشاش". تساءل هْلوبّان، بدوره. لماذا ظهرت في تلك اللحظة بالذات؟ وفي المكان الخطأ تحديدا؟ ثم ماذا تفعل هنا، في الأساس؟ منزلها يقبع في أبعد نقطة، في الجهة الثانية للمدشر، في أقصى حدوده جنوبا، فماذا أتى بها إلى هنا، في أقصى شمال الدوار، حيث لا بيتَ/ لا ضحية محتمَلة لرميتي غير والدتي أو عمّتي رقية؟ لم تكوني حتى تُرَين خارج جْنانهم الشاسع إلا نادرا. فماذا جاء بك، بحقّ إبليس، يا هذه البقرة، يا المصيبة، لالاهم هْنيّة، كي تنالي الضّربة مكانه، ذلك الغشاش المخادع، عبد اللطيف وْلد حمّو.

حسنٌ، أفهم أن ما يهمّ قليلين منكم الآن أن يعرفوا حكايتنا مع التّين الشّوكي، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت، أليس كذلك؟ أتفهّم تلهف هؤلاء القلة إلى قراءة هذه القصّة والانتقال إلى أمور أخرى. أعرف، أفراد هذه المجموعة منكم مشغولون كثيرا، لا وقتَ لديهم. لكنْ كان لنا، المرحوم وأنا، وقتٌ طويل وممتدّ، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت. وكان للمرحوم قصص كثيرة يكون الجانبَ الفائز فيها في الغالب، لكنْ في ذلك المساء قرّرتُ، في لحظة، دون تخطيط مسبق، أن أجعله ضحية مقلب امتد ضحكنا عليه طيلة الأيام التي أمضيتُ في القرية، في ذلك الصيف.

بعدما ملأنا السطل بما تخيّرْنا من حبّات الهْندية السّمينات الطازجات، انحدرنا مع العين نحو كرمات تاخوبّيت. تحت ظلال التّين الآخر، كرموس المُسلمين، جلسنا متقابلين، كل من إحدى الضفّتين المتقاربتين للعين الجارية تحت أقدامنا. أفرغْنا خيرات السطل بعد أن صنعنا حاجزا صغيرا للمياه بأحجار المصرْف وجلسنا ننتظر أن يبرُد كرموس النصارى بما يكفي. خضنا في أحاديث متشعبة واسترجعنا صولاتنا في الأمداء وجولاتنا، وكذلك، معاركنا الصغيرة التافهة من أجل أمور أكثر تفاهة في الغالب. لمستُ، وهو يروي إحدى تلك الوقائع البعيدة، إحدى بنات النصارى وأيقنتُ أن برودتها صارت ملائمة. قلتُ، بما فضل لي من مكر:

-يبدو أنك نسيتَ أن تُحضر سكينا، لنتمتع بالتهام هذه الكرموسات النصرانيات في خاطرنا، في خاطر أيامنا.
بدا عليه بعض التضايق، لكنْ لم يردّ علَي بشيء. ثم رسم ابتسامة ذات مغزى وتخيّرَ حبة من البِركة الصّغيرة التي تشكلت بفعل الحاجز المصغّر ورستْ في قاعها أشهى التّينات وقد نُظّفت تماما من شوكها. وما أدراك ما شوك الكرموسات النصرانيات! نشب ظفر إبهامه أسفل رأس الحبّة ومزّق غشاءها باحترافية نزولا إلى الطرَف الآخر. سلخها وعضّها وهو يعرض القشرة. تماما كما ستكون لو ضُربت بسكين. أدهشتني دقّته وكدت أتخلى عن إكمال خطتي، لكنّ شيطاني حثّني على إتمام المقلب. عبستُ وقلت، متجاهلا براعته وخفته:

-بالنسبة إليك نعم، لكنْ لا يمكن أن أتركك تسلخ الحبة مكاني، هذا غير مقبول بالنسبة إلي، عافاك، اعذرْني.. سآخذ معي نصيبي لآكله لاحقا في البيت.

قام، فجأة، وسار نحو المدشر، دون كلام. لم يلتفتْ حتّى ليرى أن ضحكتي على نجاح خطتي توشك تنفجر وتُسمع في كل المنطقة. "صْدقاتْ فيك هادي أ ولد عمّي، أ وْلد حمّو، هاد المرّة. غادي نخرا عْليك اليوم بالضحك، وحتى غدّا وبْعدو".. رحتُ أخاطبني وأنا أختار، بنشوة شرّيرة، أكبر تينة في المجموعة لأدشّن بها حفلتي.

قد ابتلع الطعمَ إذن. ورحتُ، أنا، أبلع الحبّة تلو الحبّة. "ماذا كنتَ تظنّ نفسك وأنت تُقشّر الكرموسة بظفرك؟ أنك الوحيدُ القادرُ على ذلك في الدوار، مثلا؟".. سألتُني في لؤم، وقد أتيتُ على الهْندية الرابعة، الأكثرَ إغراء والأسمنَ في المجموعة، قبل حتى أن يختفيَ طيفه بين زيتونات جْنان أومحمْد. "سيحتاج عشر دقائق على الأقل ذهابا وإيابا. يا إلهي، هذا وقت طويل على ما أنوي!".. قلتُ لي، منتشيا باستفرادي الاستثنائي بهذا العدد من الهْنديات، الشّهيات والسّمينات.

أختار الحبة بعناية. أعرّيها، بظفر إبهامي، أشقّ به بطنها، من كسوتها، التي صارت لزجة وأليفة، بعدما جرّدتْها المياه من آخر أشواكها الحقيرة. وأُرسلها، على دفعتين في الأكثر، إلى جوفي. كان غداء دسما، تَريداً على دجاجة بلْدية. كنّا ضيوفا على عمّتي، ظهر ذلك اليوم. ما كان ينقصني هو تَعريگة ديسير، وقد ساقه إلي الله. أغرس ظفر إبهامي وأشقّ تحت رأس الكافْرة بالله، كرموسةَ النصارى، ثم أبقر بطنها في خط مستقيم نزولا. أشقّ، بخط متقاطع مع الآخر، أسفل التّينة وأرسلها وأنا ألحس سبابة يمناي ممّا قد يقطر منها من عسل الهْنديات، الشّهيات، اللواتي لم يعُدن بكلّ تلك السمنة.

حين وقف، أخيرا، وفي يمناه سكين صغير بقبضة سوداء، كاد يعود أدراجه في الحال. نظر مرعوبا إلى ركام القشور التي تجمّعتْ فوق البركة الصغيرة وصُعق. ظن أنني بلعتُ السطل كله.

-لا، لا تذهب، تعال.. شوف، راه باقي أصاحْبي حقّك، شوف..

قلتُ، مداريا ضحكة ضاغطة.

-أجي أصاحْبي تاكْل، راه باقي، ها أنت..

رفعتُ حبّتين، ثم ثلاثا، قبل أن يتابع خطواته في اتجاهي. جلس غيرَ مصدّق أنني خدعتُه بتلك البساطة. أخذ يحرّك رأسه يمينا وشمالا، ثم انفجر ضاحكا. كدتُ أسقط في البركة بعدما انزلقت يسراي التي كانت تبحث له عن حبّة ناجية من مجزرتي. غطس ذراعي بالكامل وكاد جسمي كله يلامس المياه وأنا أطلق، أخيرا، ضحكة سُمعت في كل المنطقة.

حين حسبنا الحبّات، النحيفات والقليلات، التي كانت من نصيبه، في ذلك اليوم، ذاتَ صيف، في قرية أيت تگرّامت، احتاج إلى وقت كي يستوعب أنني بلعتُ ذلك العدد. كانت ثلاثا وثمانين حبّة بالتمام والكمال. أكل إحداها قبل أن يذهب لإحضار السكين. وحين أحصى القشور التي أكل حباتها بعد عودته، وكان يرميها عن يساره، وجدها أربعة عشرة قشرة.

-أيها المسخوط، ماذا دهاك لتفعل هذا بنفسك؟!

قال، أخيرا، بعدما شبع ضحكا. ثم تابع، بنبرة ماكرة:
-والآن، ماذا تظنّ نفسك فعلتَ؟ أتيتَ إنجازا مثلا؟ كيف تبلع ثمانية وستين هندية دفعة واحدة؟ واشْ حماقتِ وْلاّ مالك أ ولدارسي بوجمعة؟ واش فراسكْ إلى تّعصمتِ، وهادشي غالبا اللي غادي يُوقعْ ليك، راهُم غادي يخدّمو مْعاك المْغزلْ؟..

-المْغزل هو اللي طلّعتي معاكْ أنت دابا.. بلا ما تْبدَا تبرّرْ، هزيتي القالبْ دابا وْاللّي كان كانْ.. يسحابْ ليك أنا عاد بِيتْ نّاكلْ سبعين كرموصة دقّة وْحدة.. وَلا حْتّى تمانينْ!
تابعت، دون أن أترك له حيزا للتفكير في مواصلة سخريته:
-وْنزيدك، را كنتْ معروضْ عند العمّة اليومْ للغدا، وضْربنا، أنت مُولْ الخيرْ، واحد الدّجاجة بلدية فوق واحد الگصرية ديال التّريدْ ما نعاود ليكش.. عاد جيتْ ضربتْ هاد الدّيسيرْ عْلى ضهركْ..

لم يجد بعد ما سمع غير التسليم التام بأنه راح ضحية مقلب مثل هذا، وممّن؟ منّي، أنا عديقه القديم الذي طالما حرص كلانا على ألا يقع ضحية أحد مقالب الآخر.

-قد فعلتَها بي اليوم إذن، لكنْ تأكد أني لن أنساها.. لكنّ ما سيحزّ في نفسي في انتظار ذلك أنهم، جميعهم، هنا سيجلدونني طوال سنوات: انظر إلى نفسك، ألا تخجل؟ قد جاء وْلد السّي بوجمعة فقط أيام الصيف في زيارة للقرية وفعل بك مقلبا غشيما. وتريد أن تتحدّاني أنا؟.. سيظل الواحد منهم يردّد بكيفية مستفزة كلما أراد أن يتحداني في أمر أو يواجهني، لذلك، عافاكْ، خلّيها بيناتْنا.. صافي؟

تعمّدتُ ألا أردّ عليه في الحال. كنت أعرف أنه سينتهي إلى طلب شيء مثل هذا في نهاية المطاف. أعرف، ليس سهلا في هذي الأرجاء أن يعرفوا أنك أخذت مقلباً. جرّبتُ ذلك منهم، أيضا. بل ما زالوا يحتفظون لي بلقب خاصّ واستثنائي هناك حتى الآن. لكنْ كانت رغبتي شديدة، في ذلك اليوم الصيفي في قرية أيت تگرّامت، التي كنت أزورها منذ رحلنا عنها، في أن أعرّض عديقي عبد اللطيف وْلد حمّو لمقلب لن ينساه. رغبتُ، أيضا، في إطالة المدة التي ظل فيها يتوسّل إلي ألا أخبرهم بأنني جعلته عرضة لمقلب مثل هذا وأكلتُ هْندياته، التي اختار حبّةً حبّة بعشق أيام الصفاء البعيدة، مُراوغا هجوم ذلك الشوك البغيض، خصوصا في حْرنة مثل ذلك اليوم والرياح منعدمة. من البدهيات هنا أن كرموسْ النصارى لا يُجنى دون هبوب نسمات. لذلك يفضّلون قطفه في المساء. لكنّ القواعد ما وُضعت ألا لتُخرَق. ما معنى أن ترغب في هْنديات وتنتظر بالضرورة حتى المساء أو تقوم مبكرا جدا في الصّباح، قبل أن تشرق الشمس؟ والحقيقة أنه قلّما نجا أحدنا من هجوم تلك الأشواك اللعينة حين نخرق واحدا من تلك القوانين الغريبة غير المكتوبة وقطفنا التّين الشوكي في وسط النهار والريحْ واقْفة.

قلت، شامتا:
-شوف، إلى ما شبعتيشّ الهنديات، تقدْر تطلع للكرمة وتقلّب ليك عْلى شي مْسلمات تكمّل بيهوم، واخّا تيبانْ ليَ مازالْ ما طابوشّ..

صعدنا، ضاحكَين، من العين، حاملَين القصبة والسطل المليء حتى نصفِه بالقشور. وخطونا، ببطء، في اتجاه المدشر. أوراق شجرات الصّفصاف العالية عن يسار العين، على بعد أمتار، أخذت تهتزّ قليلا بفعل رياح شحيحة بدأت تهبّ من حين إلى حين. طائر ورووار يواصل عزف أنشوداته المعجزة، مختفيا في مكان ما بين إحدى تلك الأشجار العملاقة، أسفل ناظريه نباتُ التّابودا والسمار يغزو المكان. ضفادع تنقّ، في كسل تحت شمس حارقة في ذلك اليوم الصيفي، في قرية أيت تگرّامت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى