أحمد كازي - لقاء ابن رشد – ابن عربي

قليلة هي النصوص أو المناسبات التي تحول الباحث الأكاديمي إلى مبدع؛ ومقال الأستاذ محمد المصباحي تحت عنوان “فشل لقاء الشعر والفلسفة بالتصوف”، يدخل في هذا الإطار، فهو يبرز معالجة فلسفية عملت على تحويل المكتوب إلى تناص، يتداخل فيه القديم والحديث والمعاصر؛ مع محاولة لرصد أوجه الوحدة والاختلاف بينهما أو الاتصال والانفصال: بحيث إن مرجعية المعالجة رسمت عمقا فلسفيا، استحضر فيه الكاتب إشكالية كبرى وهي علاقة “الفلسفة بالتصوف”: ابن رشد/ابن عربي، متجها نحو بناء أسئلة أعمق تضع للتصوف مكانة في علاقته بالشعر والفلسفة دون التضحية بأحدهما، مع رسم الحدود الممكنة معرفيا، لأن اللقاء في نظره بين هذه المجالات المعرفية باء بالفشل. فلقاء الشعر بالتصوف في زاوية معينة في نظره بقي محدودا بحدود المظاهر الحاجبة للباطن؛ من هذا المنظور يثار السؤال التالي: هل بإمكان القول الشعري النفاذ إلى الأعماق غير المستوية على قرار؟ وألا يمكن اعتبار هذا القول ممارسة أكثر تحررا من الأقاويل الأخرى في الإنتاج والإبداع؟
أما إشكالية لقاء الفلسفة بالتصوف، فتتضاعف أهميتها مع د. محمد المصباحي في اللقاء التاريخي بين الرجلين: ابن رشد-ابن عربي: ونظرا لأهمية هذا الحدث التاريخي، وانطلاقا مما أثاره الباحث في مقالات “فكر ونقد، من قضايا تستحق التفكير والمعالجة وتساعد على تصحيح نظرتنا لأسلافنا وتراثنا، وتساهم في تحديث رؤيتنا لهذا التاريخ؛ مع نبش هذه الذاكرة التي لا يمكن الاعتماد فيها إلا على مفاصل محدودة، والتي لا تتعدى الفقرتين، وهذا هو المتوفر اليوم في “متن” الشيخ الأكبر: فالقارئ مهما بحث في متن شيخنا لن يجد إلا تلك الإشارات المحدودة حول اللقاء في الفتوحات المكية”. وهذا ما يدعو إلى التساؤل التالي: لماذا شكل اللقاء موضوع اهتمام من طرف ابن عربي دون ابن رشد؛ هل هذا راجع إلى غضب “شيخ الفلسفة” على “الشيخ الحاتمي”، بعمل هذا الأخير على إفشال العلاقة بين التصوف والفلسفة، أم أن فيلسوف قرطبة ومراكش، كان يعي جيدا مآل الفلسفة بعد موته؟

إن مسألة اللقاء بأهميته التاريخية تتحول إلى موضوع استفهام من خلاله يمكن النظر إلى قضايا مرتبطة بالموضوع. وجهة النظر إليه في كل من الفلسفة والتصوف، وهذه الأهمية المعرفية والتاريخية هي الدافع إلى ضرورة تعميق النظر في هذه الموضوعة التي أثارها د.محمد المصباحي، مع بلورة أهم عناصرها ومكوناتها، لكن روح هذا المقالات تحيلنا إلى مقالات أخرى أهمها “الوجه الآخر لحداثة ابن رشد: مؤكدين على أن هناك علاقة ضمنية بين هذه الإسهامات؛ مع محاولة تغيير سؤال المقال السابق وإدماجه في هذه المناسبة بحثا عن الوجه الذي أدركه ابن عربي في ابن رشد: هل الوجه الشرعي أم العقلي أم هما معا؟؛ والاستفهام الثاني المؤسس لهذا، وهو ألا يمكن اعتبار أطروحة ابن رشد حول العلاقة بين الشرع والعقل أكثر تقدما بالنسبة للذهنية السائدة في عصره، وهل ما أدركه ابن عربي في ابن رشد قابل للاحتضان والتخطي -التجاوز؟ بمعنى آخر هل شروط اللقاء فرضتها ظروف معرفية- اجتماعية وهو عداؤهما المشترك للسلطة النظرية السائدة أو لأصحاب التقليد والجمود” -الفكر الظاهري.

إن هذه القضايا تظهر على أن وضعية ابن عربي المعرفية والاجتماعية تضعه أمام معركة مزدوجة الاتجاه: المواقف العقلية من جهة والظاهرية من جهة ثانية (الفقهية)؛ فهل هذا ما دفع به إلى معانقة خطاب مختلف عن الطريقين، وهو “القول الشعري”، حتى يمكن تقديم الموضوع، المطلوب؟ وهل “النظر الشعري” إلمام كلي وشمولي بالموضوع أو بمكون من مكوناته؟ فالفكرة تأتي شعرا وتتبدد كخطاب نثري مفصل، ولهذا أتت أبواب “الفتوحات المكية” مبتدئة بالقول الشعري، أما ما بعدها فهو تفصيل وتعميق للموقف، مما يعني أن الشعر عنده حامل لوظيفة أساسية ومكون مركزي للخطاب، وهو بهذا إيجاز للقول أو السؤال الذي يخترق عمق أعماق العارف: إنه تشخيص للسؤال الوجودي أو تشخيص وحد للموضوع وتأطير له؛ فهو في دلالته استفادة لتجربة “المقدس”، وتقريب البعيد والقريب واستفادة للجوهري، وإعادة لتمثل الظاهري والسطحي بمنظار خارج العادي والاعتيادي، وخارج التقليد. فالشعر هو تأسيس للتجربة الغربية، يتحول فيها ما هو غريب إلى اقرب نقطة -مركز- وأعظمها كما هي النظام -الأنثى- أقرب صورة -وجه- لتمثل الحقيقة -المقدس-

*إن ممارسة الشعر عند الشيخ الأكبر لا تنفصل ومناخ المتن منهجا ومعرفة جريا على طريق الرمز وإغناء الدلالة المراد إيصالها، باستعمالات بلاغية وجمالية وباستبعاد كل بعد شهواتي يمكن أن يلتصق بالموضوع، لأن هذا الأخير أحط وأنقص معرفة فهو دال على سلطان الوهم بالبقاء في مقال الضدية والثنائية، و”التنافر الوجودي”. فالوهم يجعل من العلاقة الإيروتيكية مباشرة، شهوانية-جسدية، بينما “الهمة” إقصاء لحيرة الوهم وتجاوز للعلاقة الضدية بالوقوف على المقصد والموضوع. وكما يقول في “ترجمان الأشواق” عن “النظام” -الأنثى- كمناسبة “إذ هي السؤال والمأمول والعذراء البتول”: إنها المقصد الأسمى والموضوع الأعلى لا كجسد إيروتيكي بل كمرآة قابلة لكل صورة: هذا التمثل الإبداعي للعلاقة بالآخر -الأنثى- هو الوضع الوجودي للصورة ذاتها ومكانتها في استبدال الوهم بالهمة.

فالعلاقة الأولى -الوهم- تبقى ظاهرية وسطحية أما الرابطة الثانية (الهمة) فهي باطنية؛ من هنا تأتي أهمية الاستعمال الاستعاري للغة، وذلك من أجل غزو الممنوع والهامشي بحد الاسم وتفكيك المسمى، ويبرر هذا في “ترجمان الأشواق” مؤكدا: فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني، ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحية، والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى”.
*إن الإبداعية الخيالية شعرا هي إعادة نظر في “الاسم” وأهميته رغبة في القبض على “الاسم الأعلى” والجامع أو “اسم الأسماء” في أثاره اللانهائية. والتمركز حول هذا الاسم هو رؤية الأشياء بعينين: الوحدة والكثرة -الفناء والقاء- بحثا عن السر الذي هو أقرب موضوع، لكن حجبه تحول دون ذلك، القرب -الوحدة-؛ بهذا يعمل الشيخ الأكبر على هتك الطلاسم المتداولة: الفكر -الخيال- العادة، تأسيس لخطاب حول الصورة، الكاشف للحقيقة والحاجب لها في الوقت ذاته، وما إعادة تنظيم علاقة الوحدة بالكثرة إلا إعادة تفكير وتكسير لهذه الحجب المانعة وجوديا، واستنطاق للصور الظاهرية معرفيا بإرجاعها إلى أصلها الأول أو حقيقتها الوجودية التي هي الحق. فالشعر بهذا المعنى تمثل تيوصوفي للظاهر وتأسيس للعلاقة الوجودية، واستيعاب للوجود الظاهري الذي يحجب الوجود الحق.

*هكذا يكون الشعر مفتاحا من المفاتيح المقربة، والتي تتحدد ماهيتها في الإظهار، وهو كذلك في ارتباط بحقل دلالي أكثر عمقا، ألا وهو الخطاب القرآني، بلغته ومناسبته التاريخية والاجتماعية، وباعتباره المفتاح المركزي؛ لهذا جاء الخطاب الشعري مشترطا التواصل بالقدس أنطولوجيا، والتبدل في الأحوال والمدارج روحيا، والاستعادة المعرفية للقول القرآني معنى: إنها رغبة في تأسيس “المبحث الشعري”، موضوعا ومنهجا، باعتباره “نظر” في بؤرة محددة وهي “الوجه”؛ إلا أنه يبقى نظرا جزئيا ويماثله “بنظر الطبيب” إلى المريض، فهو “لا ينظر إلا ما يجوز النظر إليه”(4). لكن ابن عربي لا يقف عند حدود هذه الرؤية الجزئية أو الصورة المعطاة -الجسمية- بل هو حال ملتصق بالصورة المقربة للموضوع الكلي والأعلى، لأن النظر إلى الأشياء في وجهها هو تتبع للتحول والتجليات: “كما نذكر نحن في أشعارنا، فإنها كلها معارف إلهية في صور مختلفة من تشبيب ومديح وأسماء نساء وصفاتهن وأنهار وأماكن ونجوم. وقد شرحنا من ذلك نظما لنا بمكة سميناه ترجمان الأشواق وشرحناه في كتاب سميناه الدخائر والأعلاق. فإن بعض فقهاء حلب اعترض علينا.*إن توظيف هذا المبحث -الشعر- هو من أجل تقوية الموضوع المبحوث عنه وإعطائه انفتاحات مغربة للحقيقة، معتمدا في ذلك “أدوات التوصيل” والإبداع في اللغة. والغرض من ذلك هو إبراز عمق الوجه بنسختيه الظاهرة والباطنة “وجه الله ووجه الإنسان”. هذا المطلب هو ما يجول النظرة الجزئية أو التجسيدية إلى كلية، وبالتالي الإعلاء من الوجه الظاهري -القناع- إلى معناه الإلهي -الباطني- وتمثله في كونيته. والأهمية النظرية لهذا المبحث هو كونه نقد غير مباشر لأهل الظاهر وتأسيس لنظره تأملية ميتافيزيقية تتوخى إبراز جمالية الكون والوجود، وهذا الأخير عنده “لذة وحلاوة”: والوجه بأهميته الجمالية هو أحسن ما يظهر في المرآة، دفاعا عن أصحاب الوجه والعارف عنده “وجه كله” هذه الرؤية الكونية في بعدها الجمالي تشكل أفقا لغزو الحقيقة ذات المصدر الباطني، وبالتالي تحريك أفق “المتخيل” **Imaginaire** “كمعبر للصور” أو لتشكلها، تأسيسا للقدرة على تمثل التبدل في الصور والاستعداد لتقبل الواردات الإلهية.

*فبالرغم من اختلاف الموضوعات وتعددها، فإن هناك أساسا واحدا وهو الرغبة في المعرفة، واستعادة المخفي، وإن كانت الصور التمثيلية حسية: المرأة، الألوان، الأشجار… فإن المحرك لذلك هو تجاوز الظاهر إلى الباطن أو نفود إلى الأعماق، كما هو الأمر في “ترجمات الأشواق”. والذي تحكم فيه البعد الأنثوي، وما هذا إلا تأنيث للمكان -الكعبة- و”المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه”: إنه إعلاء من تجربة المكان إلى مستوى المقدس، واتخذ في ذلك مناسبة وهي “النظام” كعلة لاستقبال الواردات والنزلات يقول عنها شعرا “النظام.

*إن هذا المنظور هو في عمقه تفكير في ما سوى الأنثى أو في وجهها “المتروحن” لا الجسدي: إنها مقاربة إبداعية أو ذوقية للألوهية في أحديتها أو كذات متعرية عن الأسماء. بهذا المعنى يكون الاستعمال الاستعاري للغة غزوا للمخفي وفتحا للمنغلق، فهو إمكانية لإنتاج خطاب حول المنسي والمختلف وإظهاره، وكشف “لخفاء الكنز”. وهذا عنده لا ينفصل والخطاب النظري أو الإشكال المبحوث عنه، بحيث إن الموقف الخاتمي مؤسس وموجه بمفتاحين أو قولين كما سبق الذكر: الأول قرآني والثاني شعري. وهذا ما يمركز خطابه حول شرح ذاتي لقضية ذاتية ووجودية. وعدم الفصل بين “الخطاب الشعري” والأساس القرآني هو التصاقهما بتجربة واحدة وموحدة، وهي الممارسة الذوقية عند شيخنا فبواسطتها يتأسس مفتاح واحد للفهم والتعبير، وهو الذوق الصوفي -الباطن- كقراءة للواقع، وإعادة النظر إليه بطور متضمن للعقل إلى ما وراءه. إنه “طور ما وراء العقل” كمنفذ لبناء القول الميتافيزيقي أو تجربة الاتصال: فهل ابن عربي كان شاعرا أم صوفيا أم فيلسوفا؟

*إن هذا السؤال يبدو متجاوزا أو قابلا للتخطي في الوقت الذي نعتبر فيه أن فكر “الشيخ الأكبر” متمركز حول خطاب الصورة: “فإذا نظرت الكون من حيث الصورة قلت عدما، فإن الصورة هي الهو. فإذا نظرته من حيث ذاته قلت وجودا”.* *ففي الصورة تلتقي المباحث الثلاث وتختلف جهات النظر، فبواسطتها يتحقق التجريد معرفيا كتصور وبأساسها الكشفي تحتل موقعا أنطولوجيا وببعدها الفاتن يمكن قول ما لا يقال. لهذا فتجربة ابن عربي جامعة بين هذه الخطابات ومؤسسة لقول صوفي أكثر انفتاحا على ما سواه، على الشعر كما على الفلسفة، على المعرفة القلبية كما علىالعقل، على النظر كما على الإلهام. فكيف أمكن لشيخنا تحقيق هذا التوحد بين أقاويل متباعدة ومنفصلة فيما بينها أو تبدو أنها كذلك؟

*مما لا شك فيه أن العظماء يستعصي على العقل ترتيبهم في خانة محددة وفي مسار معين أو تنميطهما داخل نظام التباث، نظرا للقدرة على الانفتاح والوعي بمكانته كفتح للمنغلق وتفتح على المختلف. بهذا المعنى يكون الشيخ الأكبر ممتدا ما بين الشعر والفلسفة وما بين الفلسفة والتصوف، إنها ممارسة كاشفة للبنيات الخفية للوعي -الذات- في علاقته بالموضوع، وهذا ما يحولها إلى “مشهد برزخي”، حيث الوحدة والاتصال والوجود الإنساني كنقطة “جبروتية” جامعة بين المتضادات وكاشفة للحجب: إنها تجربة تتوخى إبراز المغطى وتكسير الطيات الحاجبة والمانعة. فما منزلة الحجاب حقيقة هل في الأنا أم في الأنت؟ هل في الذات أم في الموضوع؟

إن هذا الاستفهام هو من منسيات الخطاب الرشدي، بل أساس كل حداثة ممكنة، وهذا ما حول موضوع اللقاء إلى استفهام ضمني حول “الذات” أو مصدر الحقيقة. *فالوعي الروحي بالقضايا والمسائل هو أفق التجربة الذاتية للشيخ الأكبر وطريق التأمل وبناء المشاكل، ويتحدد هذا في معالجته التيوصوفية المعتمدة على النقد والتصحيح والقراءة الباطنية المتخطية للخطابات الحرفية، بحثا عن “العمق بلا قرار” وإظهار للأساس المخفي، وهذا ما جعل من هذا القول غير متبث حول أطروحة من الأطروحات، بل كاشف للدلالات في تعددها. وبهذا المنظور يتضمن الموقف الحاتمي في داخله المبحث الشعري والفلسفي، لأنه تفكير “بالعلامة” والمفهوم، الصورة والتصور، طور العقل وما وراءه، الظاهر والباطن. *إن جدر انفتاحية هذا الوعي الروحي مع ابن عربي تحكمه أطروحة نظرية، شكلت موضوع اختلاف بين الفلسفات والمذاهب، وهي مسألة الوجود. فهل ابن عربي شكل لحظة حاسمة في تاريخ الفكر عامة بوقفته المعرفية على هذا المشكل؟ وألا يمكن اعتباره أول من فتح باب المواجهة مع الوجود وليس الموجود، بخلاف النظريات الفلسفية-المشائية التي عالجته كمقولة أساسية. وإبراز هذه الرؤية يتمثل في موقفه التأملي المعالج لإشكالية “الأعيان التابثة”، والتي تشكل عصب فلسفته الصوفية بل أساسها الميتافيزيقي والنظري، وبلور في هذا الاتجاه موقفا مخالفا لما اعتادته الفلسفة العقلية بالمقابلة بين “القوة” و”الفعل”. في هذا الاتجاه تتدخل الصورة مع ابن عربي وتحتل منزلتها الإشكالية، كطريق لإعادة النظر في هذا المنسي والمنفلت -الوجود-. وهذا ما يشكل مفتاح المقابلة بين القول الرشدي والحاتمي أو بين “الشيخين”، بحيث أن الأمر يتعلق بمقاربة الحقيقة: هل هي موضوع معالجة “قضوية”، حيث الجوهر كامن وراء الأعراض؟ وهل الأمر محدود في العلاقة بين الموضوع والمحمول؟ أم أن الحقيقة هي خارج هذه “الإتباثية” القضوية؟

*إن معالجة هذا الحدث التاريخي أو اللقاء بين الرجلين يرجع إلى الأهمية التي تحتلها موضوعة “اللقاء” كمكون من مكونات التجربة الصوفية للشيخ الأكبر. فقد عود قارئه على لقاءات مختلفة ومتعددة، بتعدد أمكنة الطواف وهي نوعان: لقاءات حية كما سماها الأستاذ محمد المصباحي ولقاءات ذات ماهية برزخيةأو مشاهد يلتقي فيها بشيوخ مرئيين أو غير مرئيين ونموذجه في هذا الصنف الأخير “الخضر”: إلا أن ما يميز حدث اللقاء “بشيخ الفلسفة” -بان رشد- هو أنه جامع بين الصنفين. فهو تم بطريق حي-مباشر وبطريق غير مباشر. إننا إذن أمام لقاءين حدثا بين الرجلين:
-الأول في قرطبة بوساطة الأب.
-الثاني في “أين” مخالف وهو المشهد البرزخي -من وراء حجاب-

*وأغلب الظن أن اللقاء الأول كان “نهاريا” والثاني “ليليا”. إلا أن هناك لقاء ثالثا وأخيرا، إنه لقاء “المصير المحتوم” في أرض الأولياء -مراكش-، مقدما حمل الجثمان في صورة جمالية. ومؤكدا بشكل ضمني على أهمية هذا الرجل -ابن رشد- ومعترفا بقيمته المعرفية والإبداعية: “فما اجتمعت به حتى درج، وذلك سنة خمس وتسعين وخمس مائة، بمدينة مراكش، ونقل إلى قرطبة، وبها قبره. ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. ويضيف شعرا وقلنا في ذلك: هذا الإمام وهذه أعماله يا ليت شعري هل أتت آماله؟

*فلماذا تم نقل الجثمان خارج هذه الأرض، هطا ما شكل استفهاما ضمنيا لدى ابن عربي في تصويره “لحدث المصير المحتوم”. فالقراءة الداخلية لهذه اللقاءات المسترسلة والمتمايزة تبرز على أن الاختلاف حاصل والفشل محتوم: فهل هذه النهاية-الموت، الأب 590هـ ابن رشد 595هـ هو ما دفع ابن عربي إلى السفر الطويل بعد حسم كل مشاغله الدنيوية وبالخصوص العائلية منها، تنفيذا لوصية أحد العارفين -”صالح البربري”-. إن حد موضوع اللقاء أو محالو تشخيصه يمكن إجماله في إشكالية العلاقة بين “الفلسفة والتصوف”، وإعلان عن منزلة التعقل في كلا الحقلين، إضافة إلى منزلة الوجود: هل مبرر الفشل بين الخطابين هو نمط التعقل السائد في القولين الصوفي والفلسفي؟ في هذا الأفق تثار المقابلة بين نمطين من المعرفة والوجود، فالتعقل الصوفي أكثر انفتاحا والثاني -الفلسفي- من خاصيته الانغلاق والإتباث وكما يؤكد ذلك ابن رشد في مناسبات متعددة، بأن الفرض هو القول “الإتباتي لا العنادي” -كتاب النفس-. وأساسيات الانفتاح كما يرى “بيرلمان” و”مايير” ترجع إلى درجة الالتصاق بحقل البلاغة: إنه طريق يخرج عن الصورة المنطقية، بينما القول الفلسفي العقلي من جوهره أنه تأكيدي وإثباتي، وهذا ما جعل من القول الرشدي في تعامله مع البلاغة محدود في أفق التنظير لا الممارسة وأن توظيفه لذلك كان لأغراض تحددها المواقف المراد دحضها أو تصحيحها. كما هو الأمر بالنسبة للتأويلات الفاسدة. أما الشيخ الأكبر فإن انفتاحية النظر عنده جعلته خارج الإثباتية، وهذا ما يدعو إلى البحث عن منزلة المعرفة الخيالية في الحقلين. فمع ابن عربي تم اعتبارها مقوما من مقومات المعرفة الإبداعية، ومكونا مركزيا للتجربة الصوفية، وهذا بخلاف الخيال العادي المحدود بحدود التمثل
الحسي للموضوع -الموهم- وهذه المعرفة خارج العقلنة الخالصة والخيال الاعتيادي وبالتالي فهي بناء للخيال المطلق الجامع بين الخيال المتصل والمنفصل (العلاقة مع الموضوع. فما الغرض المعرفي من هذا التأسيس هل هو إعلان عن طريق إبداعي مخالف للعقل أو تخط له، وأية عقلانية تدعو إليها هذه التيوصوفيا؟

*إن هذا الطريق يتوخى بناء قول حول الصورة، من أجل مقاربة ما ورائها، وحقل الصورة من طبيعته أنه متعدد، لأننا أمام صور متنوعة ومختلفة: فهي دالة على وجود الكثير ومصدرها التجليات، في هذا التوجه يعمل الشيخ الأكبر على إعادة بناء علاقة الوحدة بالكثرة، بشكل مخالف للمواقف الفيضية والعقلية وتبعا لتراتبية وجودية أساسها الوحدة والاختلاف. فإعادة ترتيب وبناء العلاقة الوجودية بين الوحدة والكثرة هو ما دفع إلى إنتاج منهج للمعرفة ينفتح على العقل والواقع (الحسي)، ويعمل على احتوائهما وتضمنهما دون نسيان الفرق أو المفارقة الممكنة والحاصلة في الطرقين. فالصورة المتجلية لا تتحقق إبداعيتها المعرفية إلا باحتوائها للفكر أو تحويله إلى خزانة الخيال من أجل إنتاج “عقل مستقل” عن أساسه. فالفكر في مضمونه النظري هو أرض كل عقلنة وإثبات أو تجريد خالص، بينما انفصاله عن أساسه هو ما ينتج في نظر ابن عربي عقلا مستقلا، وبناء هذا الانفصال -الاستقلال- هو ما يفتح العقل الصوفي على التجربة أو ما يجعل منه تجربة ذاتية، لأن الفكر يسجن العقل بقواعده ومبادئه، ويجعل منه إثباتيا وتأكيديا. بل الانفصال عنه هو تواصل واتصال، وإنتاج “لأنا” جامع ومانع ومخالف “للأنا الواعي “بالفكر”. فما طبيعة هذا الأنا الذي أخفق ابن رشد في بلورته وتأكيده وما أساسياته وما موطنه -أرضه-؟

*إن القول بوجود “أنا” “مخالف لكوجيطو الفكر”، هو بناء رابطة وجودية بين المتعالي والوجودي أو بين الأشياء في تبوثها ووجودها: ففي المستوى الأول: “كان الله ولا شيء معه”، بينما المرتبة الثانية قول بوجوده مع الأشياء، لا الأشياء معه: هذا الأفق التيوصوفي يرمي إلى بناء تصور حول الحق ووجوده، أما الفلسفة العقلية فواجهت مأزق الاعتراف بالقول الديني لتبرير القول الحق وتأكيد مفهوم ذهني له. بينما التصوف التأملي واجه العواصة والصعوبة الكامنة في كلا القولين الفلسفي والشرعي، معتبرا إياهما ظاهرا، مؤكدا على “البين” الجامع والموحد ألا وهو “الباطن”. فشيخ الفلسفة -ابن رشد- انتبه إلى هذه العواصة، لكنه بقي في حدود التنظير المحاصر والمسيج بالفكر والناظر في الكليات، مما جعل من موضوعة الحق مؤطرة في مناخها الشرعي والعقلي. فهو مفهوم يلتقي فيه القولان، وأن بناءه يبرر بالتأويلات الصحيحة، وبالتالي فهو مبدأ النظر وأساسه، ومرمى كل إمكانية للوحدة والجمع بين الأضداد. فالحق هنا هو مبدأ العلاقة بين الخطابين -الشرعي والعقلي- وأساس التمييز بين الاعتقامات الصحيحة والفاسدة. “فإن قيل فإذا كان الأمرهكذا فكيف يجمع بين هذا التعارض الذي يوجد في المسموع نفسه، وفي المعقول نفسه؟ قلنا الظاهر من مقصد الشرع ليس هو تفريق هذين الاعتقادين وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في المسألة”.* *فمكانة الحق هنا مؤطرة في بعدين معرفي ومنهجي، ففي المستوى الأول هو مبدأ التوحيد بين الاعتقادات وفي المستوى الثاني هو أداة لإبعاد التضاد الممكن في القراءة والفهم: إنه أساس الوحدة وبناء المعارف، وبتوسطه المعرفي تبنى الوحدة العقلية للنص الشرعي، ووسيطيته المفهومية كامنة في مسار العقل الحاصل للقدرة والاستعداد على التدرج وبناء النظر العقلي الخالص، والفرض هو تنقية الشرع من المذهبية أو الانتصار لأحدها دون الآخر لأن التعارض هو ظاهري، ولبلورة هذا الأفق الوحدوي للحق أعطاه بعدا أنطولوجيا، اعتمادا على الأسباب الكامنة وراء الموجود “وإنما كانت معرفة الأسباب هو العلم بالغيب، لأن الغيب هو معرفة الوجود في المستقبل أو لا وجوده”. *إن مفهمة الحق هي تحويله إلى موضوع نظري أو معالجة متمركزة حول “مبحث العلية” وهذه الأخيرة -العلل- هي في نظره مفاتيح “معينة للغيب” أي ثابتة ونهائية. بمعنى أن ابن رشد يراهن على الإلمام الكلي بالأسباب، من أجل مقاربة الحق مفهوميا والغيب وجوديا، وما هذا إلا علم بالوجود بما هو موجود أو بماهيته أو بناء علم بالماهية. فإذا كان مفهوم الحق المثبت عقليا -مفهوميا- عند ابن رشد هو طريق للإطلالة على ماهية الوجود أو الغيب، فإن هذا موطن اختلاف بين الرجلين -ابن رشد- ابن عربي- لأن موضوع الغيب ليس مبحث دليل أو “مبحثا عليا”، إنه خارج هذه الإحداثيات وما وراء هذا كله، ويعالجه كموضوع للتفكيك، وهذا ما حتم عليه التمييز بين نوعين من الغيب، انطلاقا من موقفه المتميز من إشكال العلاقة بين المعقول والمحسوس؛ بينما ابن رشد بقي سجين ثنائية المعقول والمحسوس في مناخها المشائي.

هذه المفارقة النظرية راجعة إلى العلاقة الوجودية عند ابن عربي ومكانتها في مقاربة الحق في علاقته بالخلق. فإذا كان الحق عند ابن رشد محوا للتضاد، فإنه مع ابن عربي لا يفهم إلا داخل هذه العلاقة ذاتها، وما يميزه هو كونه أصلا، هكذا عمل ابن عربي على إرجاع العلاقة إلى أساسها أو عمقها. إنه الواحد وما سواه كثير، وهي رابطة رامزة للقرآن والفرقان. الوحدة والاختلاف. هذا ما جعل من الباطن انتصارا للوحدة على الكثرة وبناء أساس ميتافيزيقي “كنومين” بلغة كانط في مقابل “الفينومين” (عالم الظواهر). ولهذه الرؤية امتداداتها وهي توحيد الأديان والوجود، لأن الاختلاف هو ظاهري، وهذا ما يعطي أيضا لموضوعة التسامح مشروعية فلسفية وعقدية، لأن الأمر يتعلق بالواصل أو السالك. فإذا كانت النفس الناطقة محركة “لمركبها البدني”، فإن الإنسان الكامل أو “الأنا المثالي” -المتضمن في ذاته الأنا المفكر، كما يتضمن الخيال المبدع الفكر في خزانته- يحكم الكون ويمتد فيه كما يمتد ظل الحق في ما سواه أو كما يتجلى الواحد في الكثير. وهذا المنظور يتأسس بتجربة التجليات باعتبارها مركز الخطاب الصوفي إنها بمثابة “القوة الهائلة للسلب” عند هيجل هو لا هو: حيث “الغيب” و”الغيب المغيب”، عبر هذا الجدل تتحول العلاقة بين المعقول والمحسوس إلى موضوع استفهام؛ فما الأشرف حقيقة هل المعقول أو المحسوس؟ ألا يمكن القول بقلب معرفي ومنهجي مع الشيخ الأكبر أو بإلغائهما الجدلي بلغة هيجل؟

*فهل إمكانية “القلب” هاته هي ما أدهش ابن رشد، وبعث فيه “قلقا” أعظم من عبارة أرسطو، وألا يمكن القول بأن ابن عربي فتح حقلا إشكاليا أكثر قلقا لابن رشد، مما جعل هذا الأخير يصف هذا اللقاء. بأنه لقاء فتح “فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا، وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة”. إن التساؤلات السابقة دالة على الاختلاف في جهة النظر إلى الموضوع بحيث أن الاتفاق بين الرجلين هو حول الموضوع، ألا وهو الحق، لهذا جاءت إجابة ابن عربي جامعة بين النفي والإثبات: نعم. لا. لكن الغرض ليس هذا الجدل في حد ذاته، بل ما يجعل من القول جدليا هل هو “تجربة التجريد” كما يرى هيجل أم تجربة الصعود كما اعتادت مباحث المقولات من الأعراض إلى الجوهر. فالأمر هنا يتعلق ببيان حد للتفكير في موضوع قابل للانضباط، وهو الجوهر كموجود، هذا ما دفع بالشيخ الأكبر إلى فتح أفق للنظر مخالف لما اعتادته الفلسفة العقلية كموجود مشخص ومشار إليه، إلى بناء يتوخى “تجربة الوجود”. كوجود محتم/مظلم وكمعية أو الوجود-مع: فهو مع الأشياء وليست الأشياء معه. بهذا المعنى يعلن ابن عربي عن مشروعه المسبق في لقائه بابن رشد؛ إنه أفق يتوخى تحقيق الألوهية في العالم وسمو بالوجود الإنساني -الأنا- إلى المستوى الإلهي أو الإعلاء بالجانب الإلهي من هذا الكائن.

*في هذا الاتجاه تحيلنا “تجربة المعية” إلى “تجربة الأينية”، والحقيقة أين لا أين له: حيث يتخذ الوجود والزمان، الوحدة والكثرة. إنه ذلك “البين” -الأين- الذي أدركه ابن رشد بصمت لأن إيماءة الشيخ الأكبر كانت أقوى -ما بين نعم ولا-: إنها تأسيس لتجربة الواصل وتبيان لقيمة الصورة في بعدها المثالي أو البرزخي وتنبيه لنفوذها أو لعقلها الداخلي الذي لم ينتبه إليه “قاتلي” الصورة أو كما توهم ذلك فرعون في قتل موسى أو قتلة المسيح أو قاتلي الحلاج. لكن ما هذا سوى قتل رمزي، لأنه حسي أو مباشر، والمباشرية تنميط للعقل وإثباتيته بل تأكيد لانغلاقيته. وهذا ما ينعت به “جيلبير ديوران ابن رشد معتبرا إياه مجسدا للفكر المباشر كما انبنى مع الأرسطية بخلاف الشيخ الأكبر الذي كان نظره غير مباشر باتخاذه من “الوسيطية” تجربة وجودية أو حقلا للبرازخ، بإبراز نفود الصورة على التصور والعلامة على المفهوم، فالعلامة دلاليا وسيط بين الدال والمدلول: إنها موضوع الاختلاف بين الرجلين. وسبب فشل اللقاء بينهما، وهذا ما فشل فيه الغزالي الذي أراد إحداث تصالح بين التصوف والمجتمع، بعد مقتل الحلاج، إلا أن الإثباتية المذهبية لصاحب “إحياء علوم الدين” حالت دون فتح للموجود على الوجود بل بقيت سجينة الظاهر أو الأعراض. كما أن هناك لحظة تبدو نشازا في هذه الحقبة الرشدية بما تحمله من مفارقات، وهي وجود “حي بن يقطان” مع ابن طفيل وتقديمه في قالب روائي-فلسفي جامع بين العبارة والإشارة. وسنكتفي بإثارة السؤال التالي، لماذا تحول “حي” إلى “حي مضاد”، ولماذا اتجه العقل والتأمل إلى معانقة الآخر والاتحاد به -سلامان-؟ هل الطبيب الموحدي تنبأ بنفاد العقل برفع قلق عبارته مع ابن رشد وأدرك نفود الصورة؟

*إن هذا يجد مبرره المعرفي لدى ابن طفيل بالتمييز بين أصحاب الفطرة الفائقة وأصحاب الفطرة الناقصة. لكن الفطرة الفائقة في دلالتها ليست عقلا منطقيا أو إثباتيا، بل هي قابلة للتعالي من وضعها الناقص إلى الكامل، وهذا ما سيتبلور مع الشيخ الأكبر في البصيرة أو الهمة في مقابل الوهم الذي يحجب قيمته الصورة أويحولها إلى حجاب. وهذا ما دفع بمبحث الكشف إلى ما وراء الحجب وبالتالي الاستفهام حول الصورة ذاتها إلى ما روائها: “والله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة” كما يقول ابن عربي.

*مما لا شك فيه أن إشكالية العلاقة بين الرجلين -ابن رشد/ابن عربي- تعكس مرحلة تاريخية بحمولتها النظرية والمجتمعية: حضور الفكر المشائي-الأرسطي- الانتصار للغزالية على يد ابن طفيل، الانفتاح السياسي المجتمعي على العقل، إضافة إلى السلطة الرمزية للفقهاء-العامة-. في خضم هذا الوضع تم اللقاء كحدث ثقافي ذو حمولة رمزية كما يرى كوربان. وما نريد تبريره والدفاع عنه هو أن أثر فيلسوف قرطبة ومراكش لم ينته في ذهنية الشيخ الأكبر بزمان اللقاء. فبالرغم من المفارقات الحاصلة بينهما -أو الفشل الحاصل- فهناك على الأقل اعتراف متبادل أواطمئنان وجداني لبعضهما البعض، ولولا هذا الأثر الداخلي لما استعاد ابن عربي ذكر ابن رشد وتمجيده في نص آخر غير نص اللقاء المشهور، والغريب أن استعادته لهذه الذكرى-اللقاء تم تقديمها بصورة أكثر اعترافا بالعقل والعقلانية، مع تمجيده لشخص ابن رشد دون ذكر اسمه ناعتا إياه من “أكابر العقلاء” يقول:”ولقد سمعت واحدا من أكابرهم، وقد رأى مما فتح الله به علي من العلم به، سبحانه -من غير نظر ولا قراءة، بل من خلوة خلوت بها مع الله، ولم أكن من أهل الطلب- فقال: “الحمد لله الذي أنا في زمان رأيت فيه، من أتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما”.

*إن ما يؤكد بأن هذا القول يستحضر فيه ابن رشد هو إعادة تأكيده على الجواب الصادر عن فيلسوف قرطبة ومراكش في اللقاء الأول. والأهم من هذا هو المناسبة التي تمت فيها استعادة الحدث، وهو رغبة الشيخ الأكبر في نقد علماء الكلام وبيان محدودية عقلانيتهم معتبرا غياهم “اصحاب اللقلقة والكلام والجدل الذين استعملوا أفكارهم في مواد الألفاظ التي صدرت عن الأوائل وغابوا عن الأمر الذي أخذها عنه أولئك الرجال. إن هذا القول يدفع إلى إثارة السؤال التالي: ما الوجه الذي أدركه ابن عربي في ابن رشد؟ وما المناسبة التي يلتقي فيها و”شيخ الفلسفة”، هل هي مسألة العلاقة بين الفلسفة والشريعة؟ على اعتبار أن الاستراتيجية واحدة وهو بناء مفهوم الحق، وأن التضاد هو في ما سواه معرفيا ووجوديا. هذا ما يشير على أن نص “التمجيد” بابن رشد وراءه مواجهة لمن يناصر المذاهب ويراهن على العامة دون السمو بفطرهم إلى إدراك الحق وتمثله معرفيا ووجوديا. إن هذا الوجه الذي أدركه ابن عربي في ابن رشد متمثل في قدرة العقل على الاتصال والتواصل، لكن هذه العناصر بقوتها تدفع إلى القول بامتدادات رشدية في فكر ابن عربي، وأن هذا الأخير كان يستحضره من أجل الدحض دون الإعلان عن ذلك رغبة في التجاوز والتخطي. فإذا كان الشيخ الأكبر يلتقي بابن رشد في موضوع من النظر -الحق- فهل هذا هو الوجه المنظور الذي أراد تمجيده؟ وألا يمكن القول بأنه كان يدرك فيه صاحب “الثلاثية الشهيرة” دون مناصرته للوجه الآخر -الأرسطي-؟ أخذا بعين الاعتبار أن مفهوم الإنسان عند ابن عربي محدد في ثلاث مراتب: الإنسان العادي والمقلد والكامل: فهل الوجه الذي ناهضه الشيخ الأكبر في ابن رشد هو وجه التقليد، انطلاقا من فكرة “الشرح” السائدة عن فيلسوف المغرب والأندلس. والتي تم إنجازها تحت ستار “رفع قلق العبارة”. بينما ابن عربي تناول الشرح بموقف نقدي مخالفا في ذلك طريقة الفلاسفة في القراءة والتفسير باعتماد “مكاشفة العبارة”. والشرح عنده إعلاء من شأن الذات إلى المستوى الإبداعي وتحول في الرؤية، وطريق ذلك هو الولاية، لأن زمن النبوة انقضى وانتهى يقول: “إن كلامنا في شرح ما ورد، إنما هو على قول الولي، إذا قال مثل هذا اللفظ في المعرفة بالله من مقامه الاختصاصي، فلا كلام لنا فيه ولا ينبغي لنا أن نشرح ما ليس بذوق لنا، وإنما كلامنا فيه من لسان الولاية. فنحن نترجم عنها بأعلى وجه يقتضيه حالها، هذا غاية الولي في ذلك، ولا شك.

*إن هذا الموقف يبرز حقيقة تاريخية، وهي أن ابن عربي كان واعيا بطريقة تعامل ابن رشد مع اليونان -أرسطو- أو طريقة الشرح التي تجسدت في شكل مختصرات وتلاخيص وجوامع… بينما الشرح عنده هو ممارسة ذاتية أو وجودية، فهو ليس شرح كتب القدماء والمعارف المتداولة. إنه فرقان وتفصيل المجمل، فهو يتمركز حول استفادة معرفية للتجربة الذوقية أو لطريق الولاية، مما يحول العارف إلى “ترجمان” لحقائق داخلية، متخذا من الولاية نموذجا أو سلطة خفية لا يتم تلمسها إلا حدسا أو ذوقا. بخلاف سلطة الحقيقة كما تمثلها ابن رشد في الأرسطية، لهذا فالشرح الفلسفي-العقلي هو تقيد بحدود معرفية ومنطقية معينة من أجل أن يستقيم الخطاب في مرماه وهدفه النظري، إثباتا للقول الحق والمعرفة اليقينية. وهذا ما جعل تقنيات الكتابة الرشدية تعتمد النص الأصلي وتستحضره كسلطة لإثبات اليقين قياسا، بخلاف الشيخ الأكبر الذي حول الشرح إلى ممارسة متحررة من سلطة الآخر ومن القواعد العقلية والمنطقية -العلمية-: إنه حوار داخلي أو قول مؤسس على حدس للحقيقة الوجودية في مضامينها الكونية، ويأتي اللسان من أجل الفصل والفرق بين مكوناتها المجملة باعتماد “مكاشفة العبارة”. وهذا لا يستثني وجود تلاخيص ومختصرات حاتمية، إلا أنها خاصة وذاتية، وهذا ما دفع به إلى أن يعتبر “الفتوحات المكية” “بالمصحف الكبير”. فهو جامع لإبداعية ذاتية بأشكال متعددة، وما الإيجاز والاختصار لبعض مؤلفاته السابقة إلا للمناسبة “وما أعظم المناسبة”. فإذا كان القرآن حقيقة كلية رامزة إلى العلم الخفي، فإن الفرقان حقائق مفصلة، إنها ثنائية شبيهة بعلاقة القلب باللسان. لذا فإنجاز الشرح مع الشيخ الأكبر هو حصول وتحقق للأحوال والمشاهد البرزخية، وهو بالتالي خطاب متميز بمشهده وخارج السلطة الاعتيادية -المجتمع- العبارة/اللفظ. وهذا ما بلور للإشارة “حقلا” معرفيا
ووجوديا، إنها تأسيس “للأنطولوجيا الرمزية” كبؤرة لملامسة ما لا يقال وما لا يستقيم والمنطق العقلي، حيث القدرة على الحديث عن عوالم ممكنة ومدن -أقاليم- متميزة بارضها وجغرافيتها الخاصة.

*إن مفهوم الشرح بمنطق ابن عربي، هو استعادة للخفي وإظهار للحقيقة المحجوبة، والتي تتطلب جهدا ومجاهدة. هذا المعنى الكشفي للشرح يؤدي إلى مفارقة بين الشيخين (ابن رشد/ابن عربي) حول معالجة المسائل والإشكالات. انطلاقا من الجهة التي تحكم المنهج الرشدي والمتمثلة في إبراز المسائل ومعالجتها إشكاليا بالوقوف على التعارضات ولحظة الالتباس، من أجل الانتصار للحل العقلي؛ إلا أن هذا الحل يبقى إتباثيا وتأكيديا، وما هذا إلا انتصار للقول البرهاني، بعد تنقيته من الأقاويل “اللاعلمية” فإذا أمكن القول بأن استراتيجية ابن رشد هي العمل على إبراز أنواع الفحص والنظر وأن الاختلاف والصراع هو بين الأقاويل ببيان مراتب الوعي واليقين في علاقتها بالبرهان فإن ابن عربي يتجه نحو أفق الاختلاف بين الاعتقادات ومراتب الوجود تأسيسا لحقيقة وجودية ذات مرتبة معقولة، ليست بموجودة ولا معدومة. كأين ذو طينة روحية أو “عالم بيني” ماهيته محددة في الوصل والفصل بين الحقائق، وتحويل للروحي إلى مادي والمادي إلى روحي، وكطريق لبيان “العلاقة الوجودية” وبناء الحل الممكن “لولا البرزخ لأشكل الأمر” كما يرى ابن عربي: فما لحظات الحل الممكن. وما وظيفة الصورة/الصور في ذلك؟

*إن قارئ “الفتوحات المكية” على وجه الخصوص يقف على حقيقة معينة وهي وسع هذا الفضاء النظري-المعرفي، والذي يبدأ شعرا وينتهي بتعداد أصناف العلوم المتنوعة وأغلبها علوم الأسرار. مما يعني أننا أمام نص مختلف التضاريس تحكمه جغرافية خاصة أو أمام جيو-فلسفة بلغة ج. دولوز. هذا ما يجعل من القارئ غير مستقر على أرض محددة يمكن عبرها رصد القضايا والمسائل؛ فهل نحن أمام خطاب متشظي -ما يظهر منه سوى النصف- وتحكمه النسبية لا الإثبات وغياب النسقية في القول؟

والأهم من هذا هو أن الشيخ الأكبر يعترف بذلك مهيئا قارئه إلى جيو-صوفية هذا المتن قائلا “وأما التصريح بعقيدة الخاصة (التي هي مذهبه الشخصي) فما افردتها على التعيين لما فيها من الغموض. لكنها -كما ذكرنا- متفرقة فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها ويميزها من غيرها. فإنها العلم الحق، والقول الصدق، وليس وراءها مرمى ويستوي فيها البصر والأعمى. تلحق الاباعد بالأداني وتلحم الأسافل بالأعالي.

*إن الشيخ الأكبر ينبه متلقيه على تضاريس الكتابة وتنوعها فهي موجهة إلى فئة معينة وصنف خاص، وليس الغرض منها إثبات حقيقة من الحقائق أو الانتصار لمذهب دون آخر بل يحكمها التبديد والفرق، فهي موزعة ومفصلة منهجا وموضوعا. والغرض من ذلك هو بيان الحقيقة وإبراز عمقها الخفي. فما أساس هذه المقاربة والبحث؟ وما الأداة المتبلورة في إظهار هذا الخفي؟

*إن مرجعية “التبرير” راجعة إلى الموضوع المبحوث عنه والذي من خاصيته أنه لا منضبط وغير قابل للإحاطة. وهذا هو عمق الإشكال، ولتفكيك هذا اتخذ الشيخ الأكبر من الصورة أو تجليات الحقيقة في صور معبرا للإطلالة على هذا الغير القابل للإحاطة. لكن الصورة تحمل دلالة متعالية وأخرى وجودية، هذه المفارقة تعلن عن لا-ثبات الصورة وبالتالي تعددها بخلاف الصورة الجسمية الملتصقة بالمادة والتي تعطي جسما وحركة أو موضوعا قابلا للقياس علميا. بينما الصورة المعنية هنا هي أنها “برزخية”، ثباتها هو موتها وهذا ما جعل من القول “الحاتمي” أكثر تجذرا من غيره، فهو انتهك الممنوع وخرج عن المألوف والاعتيادي بإعطائه قيمة معرفية وأنطولوجية للصورة، ولأن ما وراءها شكل وتعمل على إخفائه وحجبه. إضافة إلى أن هذه الصورة تحكم تسميتنا للإله وحدنا له في علاقة الخفاء بالتجلي أو القول بالإله الظاهري والإله المعتم. وهذه الأهمية المعطاة -للصورة- يحددها الشيخ الأكبر بأنها من أعوص الأمور وأساس القول الإشكالي، بل هي موضوع الاختلاف “وهذا من أشكل الأمور في العلم الإلهي، اختلاف الصور. إن منزلة الصورة متمثلة هنا خارج الحقل العلمي-الطبيعي أو خارج مشكل الحركة والمحرك. وهذا ما أعطى للقول الإشكالي مع ابن عربي أفقا يختلف والمنحى العقلي-الرشدي. هذا الأخير الذي ينتج مساءلته بالتقابل بين المواقف رغبة في المحالات الناتجة عن ذلك أو وجود شكوك تحول دون وجود حل وهذا ما يحول الصعوبات وأهميتها إلى جزء من الحل. بينما صاحب “الفتوحات المكية” يرى بأن الأمور الصعبة والعويصة أساسها الالتباس والتثبت حول صورة معينة دون تتبع تحولاتها. لأن هذا الالتصاق -التثبت- في نظره هو جزء من المعرفة المشتركة والاعتيادية كما هو الأمر بالنسبة للمعرفة والاعتقاد الظاهريين، وقد بلور هذا في “فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية”، بنقده للمنحى العقلي الاعتزالي مؤكدا على أن الاعتقاد المثبت حول صورة محددة هو اعتقاد ظاهري وسطحي-العامة. لهذا فالوعي بتحول الصور هو خروج من العالم الأضيق إلى الأوسع، إنه انفتاح وتفتح ويمثل هذا بشكل “القرن” أعلاه واسع واسفله ضيق. هذا ما يدعو إلى تحديد مفهوم “الأشكلة” الوارد في النص السابق، فهي معرفيا استنطاق لا يستقيم إلا بحد الإشكال وتوسيع حقله إلماما بالأعلى والأسفل: الحق والخلق. وهي بهذا ترك الخطاب ينفتح على أقاويل أخرى فقهية، كلامية، فلسفية علمية لهذا نجد خطاب الشيخ الأكبر يستحضر علوما متعددة من الإلهيات إلى السيميائيات مرورا بالأرتيمتيكا والكوسمولوجيا.

*إن إحساس ابن عربي بمنزلة “الأشكلة” يرجع إلى مكانة مفهوم المفارقة التي أفرزها القول بالوسيطية أو البرزخ في وضعه الأنطولوجي كعالم للصور -البرزخ-، مما جعل من الأشكلة أداة للفتح والوحدة أو ترك العمق يظهر وبالتالي ينكشف. وهذا معناه جعل الحل يطفو على السطح “لولا البرزخ لأشكل الأمر”. وبمعنى آخر لولا عالم الصور لما تأسست المفارقة ولما تميز الحق الخلق. وفي هذا الأفق تأتي أهمية الصورة إنها دافعة إلى تمثل معين للحق، فهي كيفية ونوعية وليست كمية. ولأن الصورة تتكلم لغات متعددة فهي ناطقة أو حاملة لحقيقة -حقائق- فبالإضافة إلى بعدها المعرفي فهي دالة على أساس وجودي -أنطولوجي- إنها جسد للروحاني، وهذا ما يحدد وجودها الحسي، أما وجودها النوراني “فإنها (أي الصورة) للروحاني، كالنور مع السراج، المنتشر في الزوايا نوره، فإذا غاب جسم السراج فقد ذلك النور. فهكذا هذه الصورة.

*إن أهمية هذا القول تتجلى في تحويل الصورة إلى جسد: الأول مادي والثاني برزخي أو صورة مثالية. وبهذا المعنى فهي ذات وجهين، ظاهري وباطني. لكن منزلتها في الوجود ستعمل على إعادة النظر في مفهوم الحق، بل توسيع مجاله وتسميته. فإذا أمكن القول بأن الجامع بين ابن رشد وابن عربي هو هذا المفهوم، فإن الاستعمال الدلالي -الاسمي- له يجعله متموضعا في مرتبتين، وذلك راجع إلى الوضع الوجودي الذي تحتله الصورة. مميزا في ذلك بين “الحق المخلوق به” والعالم المخلوق وهما في رأيه نظيرا “الجوهر الهبائي” و”الصورة”: وهذا الجوهر هنا هو الجامع لصور العالم، إنه الحقيقة الكلية أو “حقيقة الحقائق”، يقول: “فمن رأى أن “الحق المخلوق به” مظهر صور العالم، ظهرت فيه بحسب ما تعطيه حقائق الصور على اختلافها-نسب الأفعال إلى الحق. ومن رأى أن أعيان الممكنات التي هي العالم، هو “الجوهر الهبائي”، وأن الحق المخلوق به هو الصورة في هذا العالم وتنوعت أشكال
صوره لاختلاف أعيان العالم، فاختلفت عليه النعوث والألقاب كما تنسب الأسماء الإلهية من اختلاف آثارها في العالم-(نقول) فمن رأى هذا نسب الفعل إلى الله بصورة الصورة الظاهرة ومن رأى أن ظهور الصورة لا يتمكن إلا في الجوهر الهبائي، وأن الوجود لا يصح للجوهر الهبائي في عينه إلا بحصول الصورة، فلا تعرف الصورة إلا بـ”الجوهر الهبائي”، ولا يوجد “الجوهر الهبائي” إلا “بالصورة” نقول من رأى هذا نسب الأفعال إلى الله بوجه وإلى العباد بوجه. إن الحق في علاقته بالخلق يحدد وضعية الصورة في الوجود، فعبرها يتم إعادة ترتيب “الرابطة الوجودية”، لأن هذا التقابل يثار داخل إشكالية الظهور، مما يجعلنا أمام ما يسميه الشيخ الأكبر “بعلم ظهور الابتداء” أو بدء الظهور: إنها بداية ظهور الحق الذي لا يتمظهر إلا بصور وفي صور “والبدء هو افتتاح وجود الممكنات على التتالي والتتابع لكون الذات الموجودة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان.

*إن “الافتتاح الوجودي” هو ما فرض المقابلة بين “الحق المخلوق به” والعالم أو “الجوهر الهبائي” والصورة، كما أن هذا التصور يتجه نحو بلورة لأطروحة الإيجاد، كفعل بدئي وأولي، بحيث إنه لا أولية بين الحق والخلق: “إذ لا أولية للحق بغير العالم، لا يصح نسبتها ولا نعته بها.

*فالقول بالأولية هو ظهور للحق في صور أو تحول للأعيان الثابتة إلى وجود أوإظهار للمخفي، هكذا يكون مفهوم “الحق المخلوق به” هو الحق الظاهر في الصور، لأن هذه الأخيرة بها سمي الحق أوليا وبالتالي موجدا. كما أن “الجوهر الهبائي” لا يكون موجدا إلا بالصورة ففي خفائه يبقى لا-متعينا، بينما الأمر متعلق هنا بكثرة الظهور أو المظاهر في لانهائيتها، ولأن ما سوى الحق هو صور دالة، بدونها نكون أمام أحدية-المطلق.

*فسواء سميناه “الجوهر الهبائي” أو “الحق المخلوق به”، فإن الصورة تلعب دورا وسيطيا، في هذا الظهور أو تحول الأعيان من ثبوتها إلى مظاهر موجودة ومتحققة في العالم: “فلا تعرف الصورة إلا بـ”الجوهر الهبائي” ولا يوجد الجوهر الهبائي إلا بالصورة”. إننا إذن أمام دور أنطولوجي ومعرفي للصورة. فهي أساس الوجود أو تحويل الشيء إلى موجود، وأن معرفة الحق رهينة بتحول الصور وتجددها، وهذا المرمى هو استبدال وإعادة نظر في مفهومي القوة والفعل المؤسسين على العلاقة العلية. أما الشيخ الأكبر فيتجه إلى بناء “رابطة وجودية” أساسها “المعية” وهي أكثر حالا من “القبلية” و”الآينية”.. فالحق من حيث ذاته غير مشروط بالأشياء بل الأشياء مشروطة به، لأن الأمر يتعلق بحقائق الأسماء الإلهية التي لها الحكم، وهي شرط الوجود وطريق تجلي الحق في الخلق أو ظهورها فيه. وهذا ما دفع إلى إعادة النظر في مفهومي الفاعل والواحد؛ لأن الرابطة بين الحق والخلق تراهن على نفي التضاد والمماثلة بعد فحصهما، ولأنهما يتحولان إلى حجب مانعة وبالتالي طريق الالتباس: فنفي الضدية بعد إثباتها راجع إلى أن أحدهما لا ينفي الآخر ولا تماثلية لأننا لا نفكر في الواحد بالآخر، بل في الرابطة المتحققة بينهما كأساس لبناء علاقة ماهيتها التناسب. وهذا مايبلور ذلك التمايز بين الواحدية والآحدية والتوحيد.

*إن هذا التأسيس النظري لمسألة الجوهر مع ابن عربي يعمل على بناء تصور للحق خارج إحداثيات العقل، مما يحول هذا المفهوم إلى مبحث ما وراء العقل ذاته أو ما يسميه “بطور ما وراء العقل”. فهبائية الجوهر هنا جامعة لصور العالم، وهذه الجمعية محددة في النور “فإن النور صورة في الهباء، كما أن الهباء صورة فيها “في حقيقة الحقائق.

*فتحول الجوهر الهبائي إلى موجود تطلب خروج الصورة من عتميتها أو وجودها بالقوة إلى الفعل أو الظهور. هذا الجدل الداخلي أو “التمفصلات الداخلية” بلغة “توشيهوكو أوزتسو” يتخذ فيهما “الجوهر الهبائي” منزلة الأصل، وبالتالي فهو “الحق المخلوق به” الذي يأتي مرادفا “للعدل” عند ابن برجان، وماهيته هاته -عدله- هي في وضع الصورة في الوجود أو تحول الأعيان التابتة إلى وجود فعلي: فالظهور العادل للصورة هو ما يؤدي إلى القول بأن “الحق المخلوق به” مفهوم آخر “للإله الظاهري”: فـ”أعيان العالم هو “الجوهر الهبائي” إلا أنه لا يوجد إلا بوجود الصورة، وكذلك أعيان العالم ما اتصفت بالوجود، إلا بظهور الحق فيها. فـ”الحق المخلوق به” (هو) لها كـ”الصورة.

*”فالوجود الهبائي” هنا يدفعنا إلى القول بأن ماهيته ليست في ذاته بل بملازمة الصورة له، وهذه الأخيرة تتطلب ظهورا أو تجليا للحق في المظاهر أو للوحدة في الكثرة. فإذا كان التصور الرشدي والمشائي عامة يرى الجوهر كمقولة خاصة بالوجود وبالتالي موضوعا للانتقال من القوة إلى الفعل عبر الحركة كأساس أولي لمبدأ العلية، فإن الخروج عن هذا المناخ مع الشيخ الأكبر يجعل من الحق ذاته حامل لصفة المطلق، لأن وجوده غير مشروط بوجود العالم، فهو كذلك سواء وجد العالم أو لم يوجد، وما الإيجاد سوى تحول للموجود من عين الجمع إلى التفرقة، من الحقيقة الكلية-الهبائية- إلى الحقيقة المفصلة. و”حقيقة الحقائق” عنده جنس ما فوقه جنس وتحتها أنواع وفصول، إلا أن هذه التراتبية ليست منطقية خالصة، بل هي عنده رمزية يتم التركيز في بيانها على “علم الحروف”. وهذا ما يفتح أفقا آخر وهو بيان تراتبية الوجود، بتفكيك “الاسم” وإظهار “المسمى”. هذه العلاقات دالة على المعنى الدائري للوجود، فالانتقال من دائرة إلى أخرى هو قفز إلى مرتبة أعمق، وهذا أساس كل المفارقات، لأننا مع ابن عربي أمام تجربتي الفناء والبقاء، حيث الخروج عن الذات -الأنا- التجريبية/الكثرة شرط للفناء والعودة من الوحدة إلى الكثرة شرط ملزم للبقاء.

*فإذا كانت المفارقات لا تتحقق إلا في العالم الأعلى، فإن هذا يبرر عمق التجربة لاصوفية للشيخ الأكبر والتي تنتهي إلى أن العالم “ظل ممتد” ككثرة. وأطروحة الامتداد تتخذ محددات متعددة أهمها “الحركة على الاستدارة” أو “الأشكال الدائرية” ذات البعد المعرفي والوجودي، وهي بهذا نفي لأطروحة الخلاء وتأكيد للقول بأن الطبيعة تخشى الفراغ “أول شكل قبله الجسم، الإستدارة وهو المسمى فلكا”. فالحركة على الاستدارة ملء للفراغ الوجداني والمعرفي، إنها طريق للسمو بالذات نحو “عمق بلا قرار”، حيث النقطة كأصل للشكل والواحد كأصل للكثرة، وهذا ما يجعل من الحركة الدائرية موجهة بموقف أنطولوجي وإعادة نظر في مسألة الواحد وعلاقته بالكثير. فإذا كان الواحد في الموقف الرشدي يمتاز بأوليته العددية، فإن وراء هذا رغبة في إثبات ما هو أول وما ليس بأول أو تأسيس “للفلسفة الأولى” المختصة بمبحث العلية، وتأكيد فاعلية الفاعل. أما الشيخ الأكبر، فإن الواحد العددي في نظره ليس كميا بل نوعيا لأن أول الأعداد ما زاد على الواحد. و”الأحد لا يكون عنه شيء البتة، وأن أول الأعداد إنما هو الإثنان، ولا يكون عن الاثنين شيء أصلا، ما لم يكن ثالث بزوجهما ويربط بعضهما ببعض”.

*إن استراتيجية ابن عربي، تستهدف تأسيس الأسس المتمثلة في الرابطة الوجودية أو العلاقة بين الحق والخلق، بين الواحد والكثير فالبقاء تحت سقف الواحدية العددية هو إقصاء للوحدة الممكنة وسقوط بمعنى ما في نظرية الفيض. بينما العلاقة ليست مباشرة لأن علة وجود الكثير تتطلب وسيط أو “مكانا محايدا بلغة د.محمد مصباحي. إلا أن دلالة هذا المكان اتخذت أبعادا متعددة فهو مع السهر وردي ينبعت بـ”بلد اللاأين” ومع ابن عربي بالبرزخ أو “أرض الحقيقة”، وخاصيته التيوصوفية أنه منفتح أما خاصيته العقلية وهي الانغلاق، فهو ذو ماهية نظرية اكتماله هو في فعل التعقل، أما ابن عربي فإنه أعطى لهذا المكان صفة جبروتية، فهو -علام الجبروت- أو مكان تحقق الألوهية كاسم مكون من حروف رامزة إلى البعد الكوني للصورة وإلى علاقة العوالم فيما بينها: ملكوت -جبروت- ملك. فما الداعي إلى الرمزية لدى ابن عربي وبالأساس رمزية الحروف؟

*إن وراء هذا موقفا من اللغة والحرف وبالتالي العالم والوجود، وهذا ما شكل عنصر اختلاف بين الرجلين، فبقدر ما كان القول الرشدي يروح بناء ثقافية نظرية-اجتماعية سياسية علمية، بقدر ما كان الشيخ الأكبر يتجه نحو بناء ثقافة روحية عمقها الرمز وخطاب المخيلة. لأن الغرض هو معرفة الوجود وبدء العالم أو افتتاحه، في هذا الإطار يميز الشيخ الأكبر بين “المصحف الكبير” والقرآن: الأول تلاوة حال والثاني تلاوة قول. فالعالم هو مجموع حروف خطية ورقمية أو أشكال وأعداد، لكن نظامها وترتيبها خاضع لوعي روحي متمثل في الأحوال الخاصة بالعارف أو بالمعرفة الـ”ماوراء طول العقل” -القلب-. أما “تلاوة القول” -الشرع- فمحدودة بحدود الظاهر وبقاء في حدود المقول دون تتبع أسراره المتجددة واللانهائية.

*”ولما اردنا أن نفتح معرفة الوجود وابتداء العالم، الذي هو عندنا “المصحف الكبير” الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال، كما أن القرآن تلاوة قول؛ فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في زق “الوجود المنشور” ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي”

*فهل القول “بالوجود المنشور” نسف للوحدة المأمولة وهدم لها؟ لأن الوجود المعني هنا، من طبيعته الانتشار والتوزع والاختلاف والتعدد، وهذا بخلاف الوجود “المشار إليه” والمشخص كقضية متبينة موضوعا وحملا، وبالتالي فهو رهين بعلائقه المتعددة. فإذا كان العالم-الإنسان- صورة للحق، فإن ما وراء الصورة هو أشكال: حروف مخطوطة وأرقام. وألا يمكن القول بأن هذا ما يحول العالم إلى جسم ممتد (ظل)؟ لكن إمكانية الوحدة تتطلب استفهاما حول دور “الرقائق” أو “الأسماء الإلهية” ذات المنزلة الوسيطية أو الأسماء ذات الحروف الدالة والرامزة؛ ولأن إشكالية الواحد في علاقته بالكثير تدعو إلى مفارقة أعمق بين الرجلين -ابن رشد- ابن عربي-، وإن كان ما يجمعهما هو الحق. إلا أن هذا الأخير يتخذ بعدا مفهوميا مع فيلسوف قرطبة ومراكش وبعدا اسميا مع ابن عربي. وهذه المفارقة لا تنفصل ووجودنا الراهن: الحداثي وما بعد حداثي. فإذا كان المطلب الحضاري اليوم هو مقاربة “ابن رشد الحداثي” انطلاقا من هم اجتماعي-تاريخي، وبالتالي إعطائه راهنية كخطاب تراثي “أنواري”، فإن المسألة تتخذ بعدا آخر مع “الشيخ الأكبر” وهو “موت الحضارة” ذاتها كبناء عقلي. ويتجلى هذا في المفارقة حول الواحد. فإذا حافظ الأول -ابن رشد- على شموليته وكليته بتبريرات عقلية-منطقية. فإن هذا الواحد نفسه قد أصابه “التشظي” مع الشيخ الأكبر: إنه الأنا والآخر واصل هذا هو “آلة كن” المتوزعة في صورة -ن- ذات الأصل الدائري والبدئي-ن-.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى