عبد الرزّاق بوتمزّار - في الطريق إلى مقهى بوليود.. قصة قصيرة

غادر مْسعود منزله، في الحي الخلفي وسار، بوجهه المتجهّم والصارم، إلى مقهاه. لطالما أدهشه عدد الطرق التي ضرب في مسالكها في سنوات عمره، المشارفة على الستين. سلَك منها الكثير في هذه الحياة بنت القـ... الكْلبة، كما ينعتها كلما أتى أحد محادثيه، على قلتهم، على ذكرها. ضرَب، في الليل والنهار وفي ما بينهما. شمالا وغربا وجنوبا وفي الشرق. يائسا، مشى في طرق امتدّت مسافات وأميالا بدون جدوى في النهايات.

لا يعرف دوافعه إلى سلْك كل تلك الطرق، لكنْ ما هو متيقّن منه الآن أنه لم يحقّق أية غاية، في نهايات مطافاتها، الشاقة والمديدة.

الذاكرة بدأت تشاغب مْسعود الكلِماتْ مؤخرا، تعانده في استعادة كثير من الأماكن والتواريخ وتفاصيل ما جرى. أم تراه فقط يُجاريها، وقد استطاب التسلي عن استرجاع دقائق وِجهات لم تُوصله إلى أية خلاصات، بتفاصيل عوالمه الموازية، التي خلَق يوماً ليحارب الملل، كما أقنع نفسه. في هذه العوالم، السرية والغامضة، يحقق مسعود الكلمات ما يتخيّل، ما يمنعه منه الواقع.

هو الآن -وكان دأَبَ على هذا التقليد منذ سبع سنوات وخمسة شهور وتسعة وعشرين يوما- في طريقه إلى مقهى بوليود. في رأسه تتلاحق الأسئلة المعتادة التي هدّت كينونته وجسده أيضا. "ترى، ما حلّ كل هذه الفوضى؟ متى سأقود، أخيرا، تلك الرواية اللعينة نحو نقطة النهاية المأمولة؟.. كيف سأخيط كل تلك الأحداث والوجوه والتواريخ التي غَزلتُ أول خيوطها عوالمها في الفصول الأولى في هذه الأجواء؟ ثم لماذا لم أختر قصة كلاسيكية وأمُرّ إلى شيء آخرَ، من جنسها أو من جنس آخر، كما دأبِ معظم خلْق الله؟ ولِمَ ورّطتُ نفسي في هذه التّيمة الملعونة بالذات؟ يا لَلاختيار! والآن.. فْكّها يا مْن وحّلتها!"..

عَقبةٌ كأداءُ، تواجه مسعود الكلماتْ في مدخل الدّرب الثاني، وهو في طريقه إلى مقهى بوليود، تُعيده من تفكيره. أطلق عليه الظرفاء هذه الوصف الغامض بسبب عشقه ملءَ خانات الكلمات المتقاطعة. حذفوا "المتقاطعة" واكتفَوا بـ"الكلماتْ" لقباً له. "ما أكثر العقبات في دروب هذا الوطن الخرِب وأوعرَها". راح يقول في نفسه، مفكرا بصوت يظنه غيرَ مسموع إلا في دواخله، وكانت، ممّا عاش ورأى، قد اهترأتْ، دواخلُ مسعودْ الكماتْ. "عقباتٌ عالية، متاريس غامضة ومُخيفة بارتفاع يستحيل حتى تخيّل محاولة تخطّيه تجدُها، فجأة، منتصبة أمامك في دروبك، مُتحدّية ومستفزّة.. كأنْ لم يُخلق في هذه الخرائب إلا ما يتحدى المرء ويستفزّه! يا للهول!"..

لكنْ عليه، الآن، تفادي "ظهر الحمار" هذا، المنتصبَ أمامه، من خلال الفجوة الجانبية. طرَد أفكاره، مؤقتا. تركوا جزءا، إلى يمينه، مُستوياً كما بلّطته البلدية ذاتَ مناسبة، انتخابية في الغالب. "ليمرّ منه المرضى والعجزة والصغار"، خاطب نفسه. "وربّما معطوبون أمثالك في رقعة لم يعاصروا فيها حربا"، طفق يفكّر، بصوت بدأت تُسمع كلماته أكثر فأكثر.

ومنَعه من الاسترسال في أفكاره هذه المرةَ صوتُ الوْرّاق، جامعِ القمامة. وكما عادته كلما سمعَ صوته، الملحَّن بنوتتين مختلفتين لكنْ متجانستين، هدأت أعماقه. كان أحدَ صوتين يرتاح حين يسمعهما. مسعود الكلماتْ كان قد ضجرَ من كلمات كلّ كلمات المحيطين. حتى زوجته، هْنيّة، التي طرقت سنّ اليأس وبدأت تخرف، كما يقول لها حين تُوصله إلى قمّة غضبه، وقد باتت تفعل كثيرا في المدة الأخيرة، صار لا يطيقها. لم يعد يتحمّل سماعها وهي لا تكفّ عن النديبْ، بالنهار كما في الليل. منذ فترة، صارت كلمتا الورّاق ودندنات حْميدة، الگناوي، الذي قلّما يصادقه، البلسمَ الوحيد لأعماقه المجروحة، يتناوله سماعا كلما خصّته صباحات المدينة المدّعية بهذا الامتياز. لطالما أطربه صوتُ الورّاق وحفّز شرايين كينونته المنهكة وجدّد فيها دماء الرغبة في الاستمرار، خصوصا في أيامه الأولى في حيّه الهامشي، وهو في طريقه إلى مقهى بوليود. صار صديقَه، في ما بعد، واسمُه حسن بن عْلي الورّاق.

مْسعود الكلماتْ لا يفهم الكثير في الموسيقى ولا في تقسيماتها وأسرار إيقاعاتها، لكنه توسّم في الوْرّاق مطربا سيُطرب، حتما، خارج هذا الحي البائس، لو حظي بنصف فرصة. "ليس ما يضجّ به المجال من نشاز ما سيمنع الورّاق من تعرية فنّ مزعوم طغى عليه العفَن.. صوتُه يطربني أكثر من معظم هؤلاء الناعقين بكلام يسمّونه، دون حياء، غناءً وطربا، إذن فهو مطرب"، فكّر.

"الزّبـلْ، الزّبـلْ!" يقول حسن الورّاق، الذي صار صاحبَه، بصوته الْيَرجع صداه من كلّ الأزقة والدروب القريبة. صافية وواضحة تتردد حروف الكلمتين، بحمولتها الوسِخة لكنْ النقية نقاء ليس في ما يلْحن فنانو آخر الزّمنْ في الأرجاء. يرسلهما بنغمة محبَّبة، تطلقها قويةً وأصلية حنجرتُه، وقد ضرب لتوه خبزة مدهونة بالزّيت، أمام بيت السّي العْربي، المُعلّمْ. جمْع زبلهومْ وما تسعاهومْ، هاد لقواويدْ".. قال له الورّاق ذاتَ صباح وهما يتشاركان برّاد شاي وثلاث إسفنجات تكرّم بها أحدهم على أحسن جامع قمامة في العالم.

"صوتك يورّق، لو تدري يا صديقي الورّاق، كثيرين ويؤكد أنهم لا يستحقون لقب مغنّين فما بالك بمطربين ففنانين!".. ذاتَ يوم، فكّر مسعود الكلمات: لو التقى الورّاق وحْميدة لربما شكّلا ثنائيا موسيقيا متجانسا ومُبدعا. لكنْ سرعان ما طرد الفكرة من رأسه. "لا يمكنني، في كل حال، خلط الأمور والتدخّل في مصائر شخصيتَي.. بل هما شخصان، من لحم ودم ولا يعرفان بعضهما البعض وإن كنتَ تعرف كليهما.. ماذا دهاك؟ هل صار الواقع والخيال يتداخلان في رأسك؟ تريد تُغيّر مصيرَي شخصين، تظنّهما شخصيتين؟!"..

صاروا، أيضا، يقولون عنه، عن مسعود الكلمات، إنه أضحى يُكلّم نفسَه في الفترة الأخيرة، وقد اقترب من الستين.
"هؤلاء الملاعين! كم أكرههم! هل مَن يخاطب عصافير الحيّ الجائعة ويشاركها نشوتها وهو يضع لها بعض فُتات الخبز والعدس فوق السطح صار يكلّم نفسه، صار مجنوناً، في عرفكم الأخرق أيها الجهلة الطاغون؟".. وواصل، بوجهه المتجهّم والصارم، مسيره نحو المقهى.

سمع، يوما، بالصّدفة، وكان أيضا في طريقه إلى بوليود، أحدَ ظرفاء الحيّ الخلفي يقول بتبجّج "لم أعرف شخصا -ولا سمعتُ عنه- اسمُه مسعود ولم يحدُث أن اقترف ابتسامة يوما.. فأمّا الضحكة فلا تطمع!".. رأى مسعود الكلمات ذلك الحْرايمي، عبد اللطيف الخياط، وسمعه وهو يقولها، ضاحكا، وسط حشد مصغّر من النمّامين كما يسمّيهم، قبالة بقالة با براهيم. كان مارّا هناك بالصّدفة وسمعه ثم رآه قبل أن يكمل جملته. اكتفى بحدجه بنظرة حارقة وواصل طريقه. عبد اللطيف الخياط أفقدته نظرة الكلماتْ، في ذلك الصباح، توازنه وكاد ينهار على أقربهم إليه.

صار ذلك اليوم بعيدا الآن في ذاكرة مسعود الكلمات، التي صارت تعانده مؤخرا في استعادة كثير من الأماكن والتواريخ وتفاصيل ما جرى. لكنه يتذكر أنه خاصَم، منذ ذلك الحين وإلى الأبد، صاحبنا ذاك ولم يعد يعترف بوجوده حتى، كما قال لأحدهم، ذات ليلة، حين سأله عنه، في حديث عابر.

كرة طائشة قذفها برهوشٌ تعيده من شروده وتمنعه من الالتفات نحو الطفلتين ليُخزّن تفاصيل أكثر عنهما، خصوصا البنت الأصغر، لا يتذكر الآن حتى لون رداءها. "ذلك الطبّوزي عبد الجليل، ولد السّمسارْ، الغليظِ الكريه الذي جعلني أقاسم أمثاله جغرافيا هذا الحي الحقير". راح يكلم نفسه مجددا، "موكدٌ أن الطبوزي، وْلد الطبّوزة، يتعمّد استفزازي! وإلا ما تفسير هذه الكرة التي تصفّر، على الأقل، يوما في الأسبوع، قرب أذني أنا تحديدا، في طريقي إلى المقهى؟"..

يقترب منه ويصفعه صفحة ترنّح بعدها ورفع، مرعوباً، يسراه، يتحسس بها خدّه المحمرّ ويحميه من صفعة ثانية محتمَلة. ينفجر أقرانه ضحكا، وأحدهم يضع قدمه اليمنى على الكرة في وضع يُظهر احتراما مفتعَلا وهو يتصنّع تجنّب نظراته:
-اسمحْ ليَ أعمّي، وْالله ما شْتّك!

يعيده الصوت من خياله، حيث كان يعيد تربيتَه على وقاحته المتوارَثة، في بيت يتخيّله زريبة أَقرَب منه إلى عشّ أسَري لتوجيه الأبناء وتهذيبهم وتعليمهم. انتبه من أفكاره واكتفى، كما دوماً، بأن حدجه بنظرة تزداد شزرا يوما بعد يوم تجاهه.. "وتجاه أفراد طاسيلته وقبيلةِ أمّه وأجداده أجمعين، وحتى تجاه طاسيلة هذا الحيّ كله، بما ضمّ وآوى من خلق الله، الذين يجدهم كثيرين ومتوحّشين ولا يليقون لمعاشَرة".. طفق يفكر بصوته يظنّه غيرَ مسموع لغيره.

بعد خطوات، رمقَ، السّي العْربي، المُعلّمْ، يداعب القطة السّمينة ميمي، جالسا على قطعة كارتون في الضّصيصة، قبالة بقالة السّي بْراهيم. يُحيّيه، وهو يعود جزئيا من شروده وخيالاته. المعلّمْ من القلائل الذين حافظ مسعود على احترامه لهم كما في الأول.

الشمسُ، التي تطلّ من الفجوات بين المنازل تزعج عينيه. يهرع إلى الجانب الآخر، مطاردا ظلالا متفرّقة أمام المنازل العالية. تظهر في الساحة، قبل آخر درب يفصله عن مقهاه، قبالة الشارع الرئيسي، طفلة جميلة، في ثوب أحمرَ من قطعتين. شعرها، المصفوف بعناية، شُدّ فوق جبهتها البلورية بـ"بوندو" أسود، تتخلله فراغات متشابهة وواسعة بما يكفي لأن يراها من تلك المسافة وبدون نظاراته. (نظارت مسعود الكلمات سميكة ومضحكة، لذلك تظل ملازمة علبةً مهترئة في محفظته الجلدية البُنية، المهترئة). سطعتْ ضحكة الطفلة فوق صفحة وجهها، المنحوت بجمال ملائكيّ، تحت شمس يوليوز الكاوية. بحزام أسود يتوسط قطتَي ثوبها وصندل صيفي بُنيّ، راحت تجري أمام أختها الصغرى. لاح له طيفُ الأخيرة خارجةً من حديقة صغيرة أمام بيت يتوسط بنايات الساحة، غيرَ آبهتين بشبح هذا المُشارف على هاوية الشّيخوخة وهو يدأب، كما منذ أزل، على طيّ المسافة ذاتِها، يوميا وفي التوقيت ذاته تقريبا، نحو المقهى ذاته.

التقاط مثل هذه التفاصيل الصغيرة وهو في طريقه إلى بوليود صار محطة في عالمَ الكلماتْ الموازي. ينشّط ذلك ذاكرته؛ عبر تلك الأصوات والحركات والوجوه يستريح من دائرته القريبة، الملأى فوضى وعبثا ونفاقا. يسافر عبر دروب عوالمه المتخيَّلة، الموازية. يهتمّ، كل يوم أكثر من سابقه، بأدقّ تفاصيل ما يحدُث منذ سيجارة الصباح فوق سطح بيته الفوضويّ الناعس وعلى امتداد المسافة بين بيته والمقهى. تلك فرصته للتخلص، أطول مدّة ممكنة، من أسْر شاشته، حيث شخوصُه، بعوالمها الموازية أيضا. تَوازٍ في تواز، عوالم مُوازية في عالَم مواز. لم تعد لمسعود الكلمات في الفترة الأخيرة -يقولون- من حياة بعيدا عن شخوص وأحداث وأماكن، بعيدا عن الكلمات.

ومنذ فترة لم تعد قصيرة الآن، صار مسعود الكلماتْ -يقولون- "يتعصّب"، أيضا، كثيرا. يفقد صوابه، أحيانا، لأتفه الأسباب. أصبح، أيضا، ينسى ويُدخّن أكثر فأكثر ويسهر. الجميع في الحُومة يعرفون عنه هذه الأمور إلا هو. لا يريد أن يعرف منهم شيئا، ولو عنه. أم تراه فقط لا يرى من جدوى في كل ذلك، وقد استلذّ الابتعاد والاستعاضة عن واقع الأحياء الخلفية، بتفاصيل عوالمه الموازية، التي خلَق يوماً ليحارب الملل، كما حاول إقناع نفسه.

يتجاهلهم تماما، كأنه لا يعرف أحدا منهم إلا من رحم ربّه. لا يشاركهم فرحا ولا نكبة. لا يقف معهم قرب بقال أو جزار أو يجالسهم في گلسة الفرناطشي أو في ساحة الحي في المساءات الشتوية الطويلة. لا يدخل معهم جامعا ولا يرتاد سْويقة إلا لشراء شيء وإخلاء المكان بسرعة. فقط محايدا وباردا، يغادر الحي/ يهرب منه، في التوقيت نفسه تقريبا، صوب مقهى بوليود، حريصا ما أمكن على ألا يلتقيَ أحدهم أو يكلمه إلا للضرورة.

لكن يحدُث أن يسأله أحدهم عن سبب ازدياد نظرته إلى الجميع حلكة كل يوم أشدّ من سابقه. هو بنفسه لا يعرف لذلك تفسيرا محددا. ربّما يرفض، من الأساس، المنظومة التي قام عليها هذا الحي العشوائي. يصحو على كثير من الفوضى والغشّ والخداع وعلى القدْر نفسه، أو يزيد، ينام. لا شكّ في أن ذلك السببُ الرئيسي لازدرائه هذا الحيَ الخلفي وقاطنيه و"تكبّره"، كما يقولون، حتى عن أخذ قهوته اليومية في مقهاه. يشعر مسعود الكلمات بنشوة ما، شرّيرة، حين تلوح له في حديثهم فرصة ليصف مقهاهم، مقهى الحي الخلفي. كان لا يفوّت الفرصة لينعته بأحط النعوت. مقهى بائس، يسهر فيه مالكه، وْلد السّفياني، وسط غيرِ قليل من الفوضى والارتجال والأوساخ، على خدمة الزبائن بنفسه. يبلع السفياني نعوت الكلماتْ ويبتعد نحو قاع محله وهو يغلي.

خالْتي الزّهرة، المْعگازة، زوجة الطّاشرونْ بَا عْلي، تطلّ متثائبة من خلف الباب الحديدي وترمقه مارا. "ستطلب مني، لا محالة، إيصال وصلة خبزاتها الأربع الثقيلات إلى فرّان الدمناتي... العفُووو، الصباحاتُ للهْ، هادشّي اللي خاصّني، غيرْ نصبّحْ عليك.. واقيلا هيرْ نرجع ننعس إلى بِيتْ هاد النهار يدوز بخيرْ". لكنْ هيهات، فات الأوان.

-عافاك، أ الكلماتْ، دُوّز ليَ معاك هاد لوصيلة للدّمناتي وگُلْ ليه يسبّقها، راه نسيت الخبز حتى خمرْ بزّاف.. وْراه ما تقيلاشّ، فيها هيرْ رْبعة ت الخْبيزات.. وْما تنساشّ، يرحم والديكْ، توصّيه يغطّيه ملي يخرّجو وما يخلّيهش يْـ...

خطَف منها الوْصلة الثقيلة، بحركة أفزعتها وجعلت جثتها الضّخمة تتفصّد، بعد ابتعاده، وهو يبصق في داخله "تّفووو عْلى هاد النهار لكحلْ اللي صبّحتْ فيه على هذه الرحمانية القْنيّة.. أين كل أولئك الحتاريف، أولادك البغال الأربعة، تّبارْك الله؟ علاش تيغبرو كامْلين فهاد اللحظة بالذات التي تيخمر فيها خبزك؟ يا الخامْرة ديال بالصحّ!"..

يواصل غمغمته، بصوت مسموع، والمرأة البدينة المسكينة خلفه متسمّرةً، لا تفهم ما يجري وقد بدأ إبطاها ينزّان، "مع هؤلاء لن تستطيع إيجاد قفلة لرواية ولا حتى لقصة قصيرة! يا إلهي، فقط بعض الهواء النقي وشبرْ تيقارْ كل ما صرتُ أريد في هذه الرقعة! فقط أريد أن أصل إلى كرسيَ في بوليود، لأنفصل عن هذا العالم الفوضويّ الـْ"... رمى الوْصلة في وجه أزناگ، مساعد الدمناتي، فوق الطاولة بلا كلمات وواصل.

ثم سمع صوت حميدْ، الگناوي، المْغبون، الذي لطالما أطربه ذاتَ حومة بعيدة. طويلا، تسامَرا هناك، في البْرتوش الفوقاني في منزل حميدة، في المْواسينْ. المتعلّمْ الگناوي، الذي صار مْعلّم بعد ذلك بسنوات. قادتْه أقدارٌ مجنونة لأن ينتهيَ موسيقيَ شوارع، يكاد يشحت كي يسكت جوعه.

عندما سمع مْسعود، لأول مرة بعد انتقاله، قبل سبع سنوات وخمسة شهور وتسعة وعشرين يوما، إلى هذا الحي، دندنتَه ونقراته على السّنتيرْ أخبره شيءٌ ما في دواخله أنه يعرف النغمة. شعر بها حيّةً وقريبة، موجعةً وتقول دون كلمات، حكاية أجداد بعيدين عانَوا ويلات لا تسطيعُ تَحكيها كلمات. "غير معقول!" قال الكلماتْ، في نفسه، في ذلك اليوم، إنه هو.. حْميدة! وسارَ نحو طيفه متيقّناً من أنه هو دون حتى أن يرفع إليه عينيه ليتأكد.

-حْميدة.. ها أنت ذا بعد كل هذه السنوات.. أين أخذتك دروب الحياة كل هذه المدة، أيها الگناوي الضالّ؟!
-مسعود، بن عمّي الصّادْق! أهلااانْ وْلد خالْتي، كلشي لاباسْ؟ وْالله إلى ساعة كبيرة هادي...

وهو يسمع صوتيهما معاً اليوم، حسن الورّاق وحْميدة الگناوي، نسيَ مْسعود، بوجهه المتجهّم والصارم، كلّ ما مرّ عليه من أمور سيئة، وهو في طريقه إلى مقهى بوليود.

رأس مسعود بدأتْ تسخن من تزاحم الأفكار والصور والأماني، والإدمان أيضا. لن يُسكت تلك المطارق التي بدأت ضرباتها في دماغه تشتدّ ويضبط كل هذه التفاصيل غيرُ النص نصّ ودخان. سيرشف من كوب البنّ بالحليب بلهفة، في البداية، وهو يقرّب إليه الطاولة وقد استقرّ فوق كرسيه الدّائم، في زاويته المعهودة في مقهى بوليود.

وهو هناك، يُرى مدفونا في شاشة العْدسة أمامه، يشذّب، بعشق غريب وحرص مكين، محكياته الغامضة التي يحوطها بسرية كاملة. حتى النادل حين يدنو من طاولة من الخلف، متظاهرا بجمع كؤوس أو قنينات أو منفضات، لن ينجح في تمييز حرف واحد ممّا يخربش مسعود الكلمات. سيتوقف فورا عن النقر ويفرد عدد اليوم من الصّحيفة ويتظاهر بتتمة ملء خاناتها من متقاطع الكلمات.

يعود، بعد ذلك، إلى ما كان فيه. يواصل الضرب، في نرفزة غير ظاهرة إلا له. يغرق في عوالمه الموازية. ينسلخ تماماً عما يحدُث في المقهى من تفاصيل صغيرة. يكتب ثم يمحو. يرشف من كوب البنّ بالحليب ويُشعل سيجارة إضافية. يرفع قبّعته، التي صيّرت رأسه شبه أقرع، ويكتب مجدّدا. يمحو بعض ما خربش في صفحة جهازه ويُعدّل. يقرأ المقطع براحة أكبر، منتشيا بطرد الدخان، من فمه وفتحتي منخره. الدّوائر تأخذه إلى البعيد، تسافر به إلى حيث كلّ شيء ممكن.

ولن يترك كرسيه، كما في كلِّ يوم، قبل أن تطرده السيدة المكلفة بالنظافة، بحركاتها وإشاراتها، التي يمنعها الخجلُ فقط أو حُسنُ تربية، أو لا يدري ماذا، من ترجمتها إلى كلمات تأفّف أو إخطارٍ مباشر بأنْ قد حان وقت الرحيل.

"أوووه، لا! الرّحيل؟ إلى أين؟"..

بعد دقائق، يُرى طيف وهو يغادر بوليود. يلفّ مسعود، بوجهه المتجهّم والصارم، يسارا، بعد أن يقطع المسافة الخالية بجوار المقهى، ثم يمينا. يسير مسافة مائة متر تقريباً، ثم يلفّ يسارا. يجد نفسه في آخر زقاق يفصله عن الحي الخلفي. يتنهّد بأسى وهو يسلك درب العودة من مقهى بوليود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى