محمد محيي الدين مينو - أحزان إبراهيم الّدرويش الدّامية

قبل أن يُلحد إبراهيم الدّرويش رفع رأسه قليلاً ، وأمعن في وجوه الرّجال الّذين حملوه إلى المقبرة توّاً ، فلمح بينهم س . فرزات رجل المبـاحث الّذي ما زال يتستر وراء وظيفة ( مختار الحارة ) ، وهو يهيل عليه التّراب بيديه المرتجفتين الدّاميتين ، ويبكي بكاءً مرّاً ، أدمى قلوب هؤلاء الرّجال ، فراحوا يواسونه ، وكأنّه واحد من أهل القتيل .

قال إبراهيم في سرّه ، وهو ينظر في عيني سليمان المذعورتين :

ـ " دمي ـ يا بن فرزات ـ لن يذهب هدراً ، وهذا الأنـف الأفطس سيلقى يوماً من يمرّغه في التّراب " .

وحين رفع رأسه أكثر ، لفتت النّاسَ حركته ، فولّوا مدبرين ، وهم بين مصدّق ومكذّب ، والمقبرةُ مقفرة إلاّ من قهقهات حارسها الشّيخ سميح الّتي تعالت في أرجائها ، وكأنّها نعيب غراب . تململ إبراهيم في كفنه ، وأخذ يفكّ وَثاق يديه ورجليه ، ليخرج من لحده الضّيّق كزنزانة ، ويثأر لدمه الّذي أهرقه س . فرزات ، وهو في غرفة التّحقيق ، يريد أن ينتزع منه بالسّوط اعترافاً بالانتساب إلى حزب محظور .

اقترب الشّيخ سميح ـ وهو مازال يقهقه ـ من القبر المفتوح بخطى متّئدة ، وأشرف على جوفه السّحيق ، ولمّا رأى إبراهيم الدّرويش الّذي صلّى على جثمانه قبيل قليل ، يخرج من كفنه عارياً ، وينفض الغبار عن وجهه ، تجمّد الدّم في عروقه ، ولكنّ إبراهيم هدّأ من روعه ، وبادره قائلاً :

ـ " لا أريد أن أموت قبل أن أثأر لدمي ، لا أريد لأولادي أن يلوّثوا أيديهم بدم ابن فرزات ، ويقضوا عمرهم مثل أبيهم وراء القضبان " .

مدّ الشّيخ سميح إليه يديه المرتجفتين ، وساعده على الخروج من القبر ، ثمّ ستر عورته بكفنه ، وهو ما زال يرتعد ، وكأنّه في حلم من أحلامه الموحشة الّتي تتراءى له كلّ ليلة منذ أخذ يعمل حارس مقبرة ، ولكنّه تحامل ما رآه ، واندفع إلى إبراهيم يعانقه عناقاً حارّاً . كانت جراحه الغائرة ما تزال تنزف ، حتّى اصطبغ كفنه الأبيض بالدّم ، وكانت الشّمس حينئذ تأفل ، وتلفّ القبور بأكفان دامية ، تراءت للشّيخ سميح أنّها تنذر بقيامة أصحابها من أجداثهم .

قال له الشّيخ سميح في دهشة وأسى ، وهو يتلمّس جراحه النّازفة :

ـ " ابقَ الّليلة هنا ، فربّما ألقوا القبض عليك من جديد ، وزجّوك في السّجن " .

قال إبراهيم :

ـ " لن يهدأ لي بال ، حتّى أثأر من ابن فرزات " .

قال الشّيخ سميح ، وهو يشير بيده إلى المقبرة الّتي تعجّ بالقبور :

ـ " انظر ، هؤلاء هم ضحاياه ، وأنت لست الأوّل والأخير " .

أطرق إبراهيم رأسه ، وراح يجهش حزناً على أؤلئك الرّجال الّذين قضوا مثله تحت التّعذيب ، لا تهمةَ عليهم إلاّ الانتساب إلى حزب محظور ، قيل يوماً في التّحقيق معه : إنّه حزب رجعيّ ، وإبراهيم يقسم ـ والسّوطُ يلهب ظهره ـ أنّه لا يعرف من أمر هذا الحزب إلاّ اسمه ، ولكنّ س. فرزات رجل المباحث كان يواجهه في كلّ يوم بتقرير سرّيّ ، يؤكّد ضلوعه في مؤامرات الحزب ودسائسه ، ثمّ يضع في أذنيه ملاقطَ مكهربةً ، تجعل جسده ينتفض قليلاً ، ثمّ يسقط في دوار عنيف .

التفت أحد الجلاّدين إلى س. فرزات ، وقال له متعجّباً :

ـ " ابن الكلب لم يعترف بعد ! " .

قال س. ، وهو يكاد يتميّز من الغيظ :

ـ " لا تتركه الّليلة ، حتّى يعترف ، ولو كانت ليلتَه الأخيرة " .

هزّ الجلاّد رأسه ، وانحنى قليلاً ، ثمّ استدار إلى إبراهيم الدّرويش ، وهو يصدر أنيناً مكتوماً ، وراح يضربه بسوطه ضرباً مبرّحاً ، حتّى تفسّخ لحمه ، وجرى دمه على الأرض غزيراً ، وحين أحسّ الجلاّد أنّ حركته سرعان ما هدأت ، امتقع وجهه غيظاً وصَلَفاً ، وأخذت أطرافه ترتعد ، ولكنّ سليمان فرزات نهض من وراء طاولته ، وراح يربّت على كتفه ، ثمّ جرّه من يده إلى غرفة تحقيق أخرى ، وسوطه الأسود ما زال يقطر دماً .

تداعى إبراهيم على الأرض ، وكاد أن يسقط من جديد في القبر الّذي أعدّه له أبناؤه في جانب مقفر من جوانب المقبرة ، ولكنّ الشّيخ سميح تلقّفه من حافّتـه بيده ، ونفض الغبار عن وجهه وكفنه الدّامي ، ثمّ أسنده إلى ذراعه ، وسار به حثيثاً نحو باب المقبرة الّتي كانت تلفّها أكفان سوداء .

تحامل إبراهيم في مشيته ، وراح يجرّ جسده المتهالك صوب الحارة ، والشّيخ سميح يشيّعه بعينين دامعتين . كان الظّلام دامساً كوجه جلاّد ، وكانت الطّريق تبدو له كأفعوان أسود ، يعصب رأس الّليل ، كما كان س. فرزات يعصب رأسه بعصابة سوداء ، وهو تحت التّعذيب ، فلا يرى من وجوه جلاّديه إلاّ حقدهم الأعمى . الطّريق طويلة طويلة ، وإبراهيم منهك ، يكاد يسقط من الإعياء والأسى ، ولكنه كان في شوق عارم إلى الحريّة خارج جدران القبر وقضبان الزّنزانة ، وكان مصمّماً أن يقضي الّليلة في بيته ، فقد اشتاق إلى زوجته وأولاده الّذين لم يرهم منذ عشر سنوات ، ظنّها دهراً ، حتّى أخذ يعتقد أنّه لن يخرج من الزّنزانة إلاّ إلى القبر . في كلّ يوم كانت تلك الزّنزانة الضّيّقة تفقد واحداً من نزلائها المعتقلين الّذين كانت تغصّ بهم ، يُستدعى ليلةً إلى غرفة التّحقيق ، ثمّ لا يعود إليها أبداً ، حتّى لم يبق وراء قضبانها إلاّ إبراهيم الدّرويش .

حثّ خطاه ، حتّى وصل ناصية الحارة الّتي تغيّرت معالمها قليلاً ، ولكنّه استطاع أن يميّز بيته من بيوتها الأخرى بعد تلك السّنين الطّويلة ، وقبل أن يدلف إلى بوّابته تناهى إلى مسمعه لغط ، ينبعث من إحدى نوافذه المضاءة في هذا الوقت المتأخّر من الّليل ، فاستند إلى الجدار ، وأصاخ للأصوات الّتي أخذت تتعالى . كان كلّ واحد من أولاده الثّلاثة يريد أن يستأثر دون الآخر بأكبر نصيب من إرثه ، أحدهم أراد أن يبيع البيت بثمن بخس ، والآخر أراد أن يستولي على معاشه التّقاعديّ ، والثّالث أراد أن يطالب بحصّة أبيه من إرث جدّه ، وكانت الأمّ تصرخ في وجوه أولادها أنّها ستتبرّأ منهم ، وستغضب عليهم جميعاً ، إن هم حرموها من حصّتها الشّرعيّة ، وستتزوّج رجلاً من رجال الحارة الأشدّاء ، يوقفهم عند حدودهم ، ويضمن لها حياةً سعيدةً ، تعوّضها عن شبابها الّذي ضيّعته مع أبيهم

ارتاع إبراهيم ، وكأنّ وحوشاً تحاصره ، وتمزّق لحمه أشلاءً ، وكاد أن يسقط على الأرض جثّةً هامدةً ، لكنّه تماسك قليلاً ، واستند إلى الجدار ، يحاول أن يلتقط أنفاسه الّلاهثة ، ثمّ قفل عائداً إلى المقبرة ، يتلمّس طريقه المظلمة كسوط أسود . وحين رآه الشّيخ سميح يدخل المقبرة لاهثاً ، ويتّجـه من فوره إلى قبره ، استوقفه ، وسأله :

ـ " إلى أين ، يا إبراهيم ؟ " .

أجاب ، وهو مطرق الرّأس :

ـ " إلى القبر ، يا صديقي " .

قال الشّيخ سميح مستغرباً :

ـ " لا شيء هنا إلاّ الموت ! " .

قال إبراهيم بصوت متقطّع حزين :

ـ " ربّما كان الموت أرحم من الحياة ، يا شيخ سميح " .

قال الشّيخ متسائلاً :

ـ " لمن ستترك دمك المهدور ؟ لمن ستترك زوجتك الثّكلى وأولادك اليتامى ؟ " .

أجاب ، والأسى يعتصر قلبه :

ـ " ليس لي دم لدى أحد " .

طأطأ إبراهيم رأسه حزناً وأسىً ، ونزل قبره المفتوح ، وراح يهيل التّراب بيديه المرتجفتين على جسده الدّامي الّذي أخذ ينتفض كطائر ذبيح . وفي الصّباح جاء الشّيخ سميح القبرَ لاهثاً ، فألفى زوجة إبراهيم الدّرويش على قبره تجهش ، وهي تشقّ ثيابها السّوداء ، ووجد أولاده الثّلاثة ينتحبون .


محمد محيي الدين مينو

تعليقات

أعلى