محمد بنصالح - جدار وانتظار

يجلس سليمان مسندا ظهره إلى جدار نال منه الزمن وتهيأ لسقوط. لقد خلت يداه من متاع الدنيا، بعدما كان وكان، ويبقى (كان) فعل ماض يصير بائسا إذا تلاه النقيض، إذا ضاعت ملامحه وتاهت كل سبل العودة إليه؛ فماذا يبقى لصديقنا غير الصدوق، سوى الجلوس هنا منتظرا قافلة الموت لتسافر به من عبير منسي في الدنيا، إلى قبر مجهول.

***

حسناء يفوح منها أريج النعيم، لا، إنه وخم الجحيم، تبدو لينة الملمس، عظيمة الثدي، صهباء تمشي كعارضة أزياء في الأربعين، تهم قادمة باتجاه سليمان. تتيقظ عيناه، يتنهد سرورا، يسعل مبتهجا، ثم توقف كأنه يتهيأ لمصافحة الحسناء؛ قبل أن يعود جالسا ثم توقف من جديد. غرس عيناه في جسم الحسناء القادمة إلى هنا؛ حيث سليمان. قلبه يدق كأنه في احتجاج أو قادم إلى حلقه. يسيل لعاب سليمان مع اقتراب الصهباء رويدا رويدا. اشتعلت أنفاسه. تمر مرور الكرام ، كأن لا سليمان موجود هنا؛ سوى الجدار. عاد المسكين جالسا، تنطفئ عيناه، يتنهد حسرة، يسعل ألما، ثم دفن وجهه في كفيه. لقد فتن سليمان في قلبه، روحه.. لم يكن سليمان يطلب الكثير، فقط نظرة لعلها تسعد الروح - ولو - للحظة من زمن مديد : آه، مليحتي، ها قاد اختلطت الأوهام مع عيشي .. غادر المكان ضاربا موعد آخر في الغد مع الجدران، لعلها تعاود الظهور؛ عظيمة الثدي.

***

- مازالت أحبك يا سليمان أحبك . إني أحبك، رغم أني على علم بأنك تخونني من دون من مقدمات

- أنا لا أخونك يا بهيجة من دون مؤخرات

- لا، أنت تخونني كل ليلة

بهيجة، صديقة عمره أو زوجته المفترضة؛ متسكعة مثله، تتهمه دائما بالخيانة، وهي مدرسة الخيانة أو أصولها. ما زالت تحتفظ ببعض ملامح الأنوثة؛ عيناها صغيرتان تلمعان، مثل عيون فراشة تطوف حول ألسنة النيران، أو أفعى تتهيأ للإنقضاض على فريستها. فمها ضيق كالخاتم، وشفاهها رقيقة كأنها خطتهما بقلم أحمر باهت، إلا أن أسنانها غدت مثل مقبرة مهجورة، كل سن لا يعادل آخر، وكل فرد أخذ له اتجاه. سليمان يرى فيها رفيقة سبيله ومحراب شكاه، إنها الحضن الدافئ حيث يحلو بكاه. إذا اشتد الشجار بينها؛ يختمه مقتبسا بيت شعري :

- يا بهيجة إننا غريبان هاهنا؛ وكل غريب لغريب نسيب

- كفاك أشعارا يا عمر الخيام ! أريد أن نتزوج بعقد بيننا، إن لي طموح بأن نصير زوجين بنظر القانون والدين

- لقد تزوجنا "بالفاتحة"؛ أليس هذا يكفي؟

- لا أتذكر متى قرأنا سويا "الفاتحة" يا هذا؟

- لقد قرأتها في سري يا هذه

- أريد أن نعيش في الحلال لا الحرام. لقد تبت يا سليمان، إني تائبة وأريدك كذلك

- يا بهيجة إن الحلال والحرام عندي سيان، وحتى لو أبتغي التوبة فلن تقبل مني

- أريدك حلالا

- لا يا بهيجة، أنت وأمثالك لسن أهل بالحلال !

فتحت بهيجة عيناها كالمصعوقة :

- ها ؟!

فهمت الموقف ثم رحلت في صمت . أي حلال أو حرام يسلطن على الرجل بعد كل ما فات من آفات؟ سليمان ذا منفي منفى الرمال في عرض الصحراء . لقد جرحها اللعين وغرس خنجره الصدئ في جرحها. لكن هل تنتظر بهيجة نهاية مخالفة لما حدث؟ على الأرجح بلى. أشعل سليمان سجارة ليحرقها على هذا الموقف الذي لا يستحق منه رد فعل غير ما بدر منه، ثم ألقى بـ نفسه إلى فراش النوم بملابس النهار، فلا منامة في دولاب سليمان. ﻓﺄﻥّ السرير وتوجع، وهو يوشي بذلك أنه قادم لربما من ربع قرن.. ليس فقط السرير، بل الشقة بما فيها من أثاث، كأنها من ركام الأطلال، أو مزبلة بلاط عتيق.
سلميان قد جفاه النوم. فكره يسرح فيما رأت عيناه قرب الجدار؛ إنها الحسناء. فكر أن هذا ما يصفونه بالحب من أول نظرة.. لم يحب إمرأة يوما رغم تراكم السنين، كلهن بنظره لا يصلحن لغير السرير؛ وبهيجة كبرى الضحايا.. إنما الحسناء الصهباء عارضة الأزياء عظيمة الثدي؛ قد زعزعت عظام سليمان، وبدا كأن الخبل يطرق أبوابه بعنف وتمادي.

***
يعود سليمان إلى جنب الجدار.. ينتظر متحمسا ظهور الصهباء. طال الأمد ولا عبق فائح يعلن قدوم الحسناء. حتى بدت الشمس تميل إلى الغروب، وسلميان ما زال يجالس الجدار في كنف الانتظار، لقد خضع لفتن قلبه وغزت مشاعره عاطفة ملحاحة للقاء الحسناء. إنما الليل في الأفق والنوم ينذر بالكوابيس.. تسلل الوهن إلى نفس سليمان، فانطفأ الحماس وتبددت الرغبة، واستوطنه اليأس بعد ساعات النهار التي قاضها يجاور فيها الجدار.
ثم راح يستحضر الذكريات ويطرد الضباب عن صور الماضي : كان له من عبير الأيام نصيب، رجل في رداء وقور أو هكذا فرض نفسه على الجميع، إلا أن النعمات ورغد العيش لدى سليمان ضربوا بـ صفر عبثا، وفقد العدد معناه وغدا صفرا. ومن هناك إلى هنا، فقد حط به الزمن إلى أسفل دركاته، وانصرف يعيش على مأتم أيامه الخوالي، حتى تعب من استدعاء الخيالات وتلفيقها، واعترف لنفسه أن هكذا سيغدوا إلى يوم عزاءه، إذا كان هناك من سيقدم التعازي لمن..؟

لم يعد هناك آثر لوهج الشمس، السواد بدأ يحضن أرجاء سليمان، حتى سمع صوت خطوات يقترب. إنه الكعب العالي يطرق الأرض برقة وحنان، رقص مع طرقاته قلب سليمان طربا . عاد البسم إلى ثغره : أأنت هنا مليحتي؟ إني أشتم أنفاسك وأصونها في أنفي، هيا اقترب إلي أكثر، ها أنا صرت أسمع دقات قلبك، لا بل إني أقوم بعدها. اقترب، اقترب واصحب الليل اﻵتي ليغدق علينا لك فيه ما تشائين .. فكانت بهيجة !. شهق سليمان وسعل، ثم بصق على الجدار، فقال :

- إلى أين أنت ذاهبة؟

- لم يعد هذا يعنيك في شيء. ثم ما بك ترتعش؟

- ظننتك شخص آخر

- هون عليك، فلن يرضى بك سوى أمثالي؛ لكني تائبة اﻵن. وابحث لك عن غيري

- حتى التوبة يفوت أوانها يا بهيجة، أنت متقاعدة ولست تائبة

- على الأقل لن أموت على حالي، كما سيحدث معك أنت

- يا امرأة، إننا نسير نحو ما اقترفت أيدينا

***

رحلت بهيجة إلى حال سبيلها، في ثوب التوبة والغفران. ما عادت تنساب إلى الليل وما يأتي منه؛ تصالحت مع النهار، فانصرفت المسكينة تعمل في بيوت الناس بدراهم معدودات، وكان الحلال أشد ضراوة وألذ معيشة.

سليمان على أحواله يعيش الوفاء، من شقته ينطلق والفرج يكسو محياه إلى الجدار، ليجلس هناك في ظله مستكنا منتظرا قدوم الحسناء، التي غابت منذ حينها، ليعيش سليمان على وهم اللقاء حتى مغرب الشمس، فيعود والحزن قد ملأ عيناه..
صار الجميع يعرف سليمان في ظل الجدار، فما عادوا يفرق بينهما؛ أين سليمان من الجدار؟. يغيب ليومين أو ثلاث، قبل أن يستوطن مكانه من جديد، ولا يثني عزمه لا زمهرير الشتاء ولا قيظ الصيف؛ فتراه يجلس متكئا ذات الجدار الذي اتخذه خليلا، يصرف أنظاره يمنة ويسرة، كأنه ينتظر قطار سيأتي من كلتا الجهتين!
وذات صباح سبقه ليل رعد ومطر، لم يصبح فيها الجدار، فقد تهدم وصار ركاما؛ واختفى سليمان عن الأنظار منذئذ !.


انتهت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى